إن أهل البيت يمثلون كما هو معروف امتداداً لسيرة النبي الأخلاقية وبكل تجلياتها أذ يعدون ورثته الحقيقيين الى حد كبير ،وهم بهذا المعنى ورثة القرآن ومضامينه المتعددة ،التي على رأسها الاخلاق ،وذلك لأن النبي كان يمثل(خُلق القران) كما أشارت لذلك السيدة عائشة وهم بذلك النحو كانوا مطالبين بقبول الآخر المغاير دينياً وثقافياً والتعامل معه بنحو أنساني لايحده حد او يمنعه مانع، وذلك تمثلاً منهم للقران وآياته التي تحث على الانفتاح والتواصل مع الآخر المختلف دينياً ،أذ بحسب قول عبد الكريم سروش: أن أول من غرس بدور التعددية هو الله تعالى الذي أرسل رسلاً وانبياء مختلفين وتجلى لكل واحد منهم بمظهر خاص وبعث كل واحد منهم الى مجتمع خاص ورسم تفسيراً للحقيقة المطلقة في ذهن كل واحد منهم يختلف عن الاخر().
ونلاحظ من نماذج هذه الايات القرانية الاشارة الواضحة للتعددية الدينية وصيغ التعامل مع الآخر المغاير :
– {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (118، سورة هود) (الاختلاف سنة كونية وجودية بأمر الله تعالى).
– {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (17- سورة الحج).
اهل الكتاب وردَ هنا ذكرهم بسياق واحد ولحق بهم المشركون).
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } (5- سورة المائدة ).
(هنالك مأذونية قرانية واضحة بتناول أطعمة اهل الكتاب –فالتواصل مباح بالعموم).
{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }(52- سورة الانعام).
(ان درجات الايمان متفاوتة ،ولكن لابد من قبول الآخر وعدم محاسبته على مايظهر من رؤية دينية خاصة بهِ).
وعليه فمن المتيقن ان أهل البيت كانوا على دراية تامة بهذه الآيات ودلالاتها ،وعمقها الانساني الذي يتمثل في التعددية الدينية والانفتاح غير المشروط على الاخر ايا كانت عقيدته او موجهاته الثقافية؛ ؟ ولكن ما وردَ من مرويات في المدونات الشيعية يشي بخلاف ذلك (كما سنبين لاحقاً)، وهكذا يعني أزاء عدة أشكاليات وهي :
أولا: ان الائمة اجتهدوا مقابل النصوص القرآنية ،وجاءوا برؤية مغايرة كلياً، وهذا ما ننفي وقوعه او حدوثه بالمطلق، وبدليل المقدمة الجوهرية من كونهم ورثة اخلاقيات النبي و بوصفهم كذلك حملة القران ومؤلوه بنحو لايتعارض وسيرة النبي الاخلاقية تلك .
ثانيا: ان الائمة اعتمدوا على منطق أسباب النزول ،ومن ثم فهم ربطوا الايات بسياقاتها الاجتماعية والثقافية أنذاك ،التي أفرزت أطاراً للتعددية الدينية ،وهم غير مسؤولين عن أسباب النزول في عصرهم الذي عاشوا فيه، وهذا الامر يمكن الرد عليه من قبيل ان الثوابت الاخلاقية في التواصل الانساني الذي بينه القران لايخضع للضرورات الحياتية وتقلباتها ،لان هذا الأمر يرتبط بأحكام تشريعية اخرى من قبل (الرق، او ملك اليمين، او الجهاد…او حقوق المرأة …الخ)والتي فرضت على النص تأويلاً عصرياً مغاير أو مختلفا، ولكن الثوابت الاخلاقية المعاملاتية هي اخلاق كونية لاشأن لها بالأمور المحلية التي كانت تجري في المدينة المنورة وشروطها الحياتية الخاصة أنذاك.
ثالثا: ان هذه المدونات الشيعية ضمت في متونها مرويات مزيفة لا أصل لها ،وقد وضعها الوضاعون ،وأسهم في تثبيتها بنحو خاص المغالون الذين أمنوا أيماناً مفرطاً بنظرية الامامة الآلهية والاصطفاء الالهي لآهل البيت مما جعلهم يندفعون في تكفير الآخر أيا كان ونبذه مادام هو لايؤمن بإمامة اهل البيت المطلقة وصنع مذهبٍ دينيٍ او اتجاه فلسفي او فكري مغاير .
اننا نرى في الاشكالية الثالثة منطلقاً جوهرياً لفهم المرويات والاجتهادات الفقهية التي تأسست عليها ،والتي كلها تذهب بالعموم نحو عمل القطيعة بين اهل البيت والمغايرين دينياً وثقافياً واجتماعياً.
لقد واجه كافة الائمة هولاء الغلاة الذين نشطوا من زمن مبكر عقب واقعة الطف بحسب تحقيقاتنا ،ورد عليهم الامام محمد الباقر وجعفر الصادق، واستمر الرد عليهم الى زمن الامام حسن العسكري ،ولقد نقل عن الامام الصادق مواقف كثيرة ازائهم منها على سبيل المثال :وقال مرزام :قال لي ابو عبد الله :قل للغالية توبوا الى الله فانكم فساق مشركون ،وقال ابو بصير: قال لي ابو عبد الله ياأبا محمد ابرأ ممن يزعم أناّ أرباب، قلت: برئ منه. قال الصادق: ابرأ ممن يزعم انّا انبياء. قلت: بريء منه، وعن ابي بصير قال: قلت لأبي عبدالله: انهم (اي الخطابية وهي فرقه مغالية) يقولون: انك تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن مافي البحر، وعدد ما في التراب، فرفع الامام الصادق يده وقال: سبحان الله، سبحان الله، والله ما يعلم هذا الا الله()،
ولهذا فقد اسهم اصحاب الغلو في المذهب الشيعي، والذين تسللوا بمروياتهم الموضوعة والمزيفة الى المدونات الشيعية() من احداث القطيعة مع الاخر المغاير لمذهب اهل البيت، وصنعوا للشيعة الصور النمطية الاتية:
انهم الفرقة الناجية الوحيدة، وغيرهم في جهنم وحتى لو كانوا مسلمين!؟.
ان الاتجاهات الفكرية- والفلسفية انذاك (المعتزلة اخوان الصفا/ التصوف/ …الخ) على ضلال، وان الأولى التمسك بأراء اهل البيت فحسب، وأستمر هذا الامر الى يومنا هذا.
ضرورة القطيعة الاجتماعية التامة مع الاخر المغاير دينياً و ثقافياً، واعتماد مبدأ التقية ان كان ذلك الاخر قوياً لاجل التواصل معه للضرورات القصوى.
ولعل تجسيدات ذلك تمثلت بالامور الاتية (على سبيل المثال لاللحصر):
اولاً: يجعلون من اهل البيت دعاة للقتل والتصفية الجسدية، فلقد ورد الاتي: (عن داوود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق): ماتقول في قتل الناصب؟ قال حلال الدم لكني اتقي عليك، فأن قدرت ان تقلب عليه حائطاً او تغرقهُ في ماء لكيلا يشهد به عليك فأفعل. قلت:فما ترى في ماله؟ قال: توهّ ماقدرت عليه().
وهذا يعارض القرأن بطبيعة الحال جمله وتفصيلا للنظر لهذه الاية الكريمة:
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } (6- سورة التوبة). الا نلاحظ تناقضاً واضحاً بين أخلاقيات القرأن ونهجه، وبين هذه المرويات البغيضه؟ ثم الم يرد عن اهل البيت قولهم (كل مايرد عنا أعرضوه على القرأن، فأن تماثلا فأقبلوه وان تعارضا، فأضربوا بما يردعنا عرض الحائط)، او بحسب قول الصادق: (مالم يوافق من الحديث القرأن فهو زخرف)()
ثانياً: يجعلون من الايمان بإمامة أهل البيت معياراً لصحة الايمان والاسلام، وهذا ما اشار اليه الكثير من الفقهاء، وناقشه بعض الاكاديمين، فهي: لدى الامام الغزالي والكثير من الاشاعرة من الامور الفقهية، الا ان بعض فقهاء الشيعة امثال علي بن الحسين الكركي (م940)، يعدها من اصول العقائد قائلاً: “يجب على كل مكلف حر وعبد ذكر وانثى ان يعرف الاصول الخمسة التي هي أركان الايمان، وهي: التوحيد، والعدل، والنبوة، والامامة، والمعاد بالدليل لابالتقليد. ومن جهل شيئاً من ذلك لم ينتظم سلك المؤمنين، وأستحق العقاب الدائم مع الكافرين” واضح ان مؤدى قوله تكفير من انكر الامامية().
وهذا إشكالية كبرى لاترتبط بخطورة هذا القول، بل بخطورة ضم الامامة مع العقائد وهي أمر ثانوي أمام التوحيد، والنبوة، والمعاد، والعدل، ولعل الخطورة الأشد هو أن توضع او تكتب اطاريح شيعية لاتناقش هذه الاراء، بل توردها كمعيار اساسي من معايير فقه التفكير، والآولى ان تكتب اطاريح حول فقه التعددية الدينية او فقه قبول الاخر، اذ كيف تكتب اطروحة في ذروة عصر التكفير للدفاع عن المعايير(ضمناً) التي تجوز التكفير الا يدل ذلك على توجه اكاديمي غير صائب وليس معتمداً للنهج العلمي ابداً، على الرغم من ذكره للاراء المتعارضة في كل المذاهب وداخل المذهب الواحد ذاته الاان ذلك لايبرر صياغة (شرعّنه اكاديمية) للتفكير ابداً().
ثالثاً: شرعنوا رفض الاخذ من المذاهب الاسلامية، بحجة أنهم مخالفين لأهل البيت مما عطل الاجتهاد داخل اروقة المذهب الشيعي لفترة طويلة، ولهذا وجدناهم يهاجمون الفقيه ابن الجنيد الاسكافي (378ت) وهو فقيه شيعي، لانه اخذ بالقياس وفتح باب استنباط الفروع، معتمداً على طريقة فقهاء السنة، اذ رد الشريف المرتضى وقبله استاذه الشيخ المفيد عليه رداً قاسياً؟()
وهذا ان دل على شيء فأنما يدل على ان المغالين ومن سايرهم او اعتقد بأرائهم، قد حرم المذهب الشيعي من ارث ديني، فقهي كبير والذي تمثل بجهود الائمه الاربعة الاساسين (المذهب السني) بل وانه أسهم كذلك في عدم الاستفادة من سائر الحركات الدينية والفلسفية التي كانت تسود انذاك في حياة الائمة وبعدهم، هذه الاسس المختلفة (آنفة الذكر) أسهمت في جعل الشيعة طائفة مختلفة الى حد كبير، وان تظاهرات بالانفتاح على الاخر اما تقيةً مرةً وأما تصنعاً مصلحياً لامصدقية فيه تارة اخرى.
ونحن نصل الى الخاتمة فنقول: أيعقل لمن ورث أخلاقيات القرأن وتربى في ظلالها يرى بنفسه الاصطفاء الالهي فحسب ولغيره الخسران المبين؟