الجمهورية الحيوانية بين الدليل المضمر و مؤولات المنظور الروائي
توطئة:
لعل ما ذهب إليه جورج أورويل في مسافات و مضاعفات دلالات روايته (مزرعة الحيوان / ترجمة محمود عبد الغني ) كان بمثابة العلاقة المعادلة التي لا تكتمل إلا بتنوير المتابعة في تحول عناصر الواقع النواتي في مؤهلات الدال العاملي في النص ، إلى فئات خاصة من الفارق و الفوارق النوعية في مناظرات الاعتراف بمدى هيمنة العلاقة الدكتاتورية إزاء مواقع و بيانات الخاصية الدونية من النوع البشري ، لذا نجد الروائي راح يتعامل مع محاور و فئات روايته على أساس من طابع هزالة النوع الأدنى ، و كيفية تأثير و تغليب المستوى الأعلى من الفئة السلطوية الطاغية على مصادرة حقوق و حاجات الفرد المجتمعي و بأبخس مدى من سياقات القهر و النهب و التحقير و التقزيم إليه . و على نحو ما من دلالات المجتمع الحيواني كوسيلة صغرى و أدنى من المقايسة في غاية التمثيل السردي في الرواية ، وتبعا لهذا أخذت محاور العوامل الشخوصية في المجتمع تتحول إلى فواعل من الكفاءات المتمثلة بنموذج العنصر الحيواني و التي تحيا تحت خاصية من النوعية المهانة من قبل المرسل ( الفاعل المنفذ / مفعول و متلقي التفعيل ) إي من قبل جهات تحقيق الفعل التداولي للسلطة المتحكمة في مصير الأفراد و الفرد ، وهكذا وجدنا جميع كيانات الرواية التي هي من الفئة الحيوانية تمثيلا تحكمها علاقات إيجابية و سلبية مع جهة السيد جونز صاحب مزرعة القصر و زوجته ، ولكن تبقى ارتباطات هذه الزوجة مع حظائر الحيوان شبه مغيبة ،على العكس من مستوى علاقة زوجها السيد جونز ، فهو عادة ما يسيء المعاملة و التصرف مع ميعة تلك الحيوانات المكونة من مجموعة من الخنازير و الأبقار و الخراف و الخيول و الدجاج و الأوز و القطط .
ـ ضمنية العلاقة بين وحدات السرد الروائي .
و سنحاول في هذا الفرع المبحثي من دراستنا ، متابعة و تقديم و تحليل أهم المحاور الواردة في معرض وحدات ضمنية السرد الروائي في محددات من الفصول الأولى من النص ، حيث نكتشف بأن مادة الحكاية الروائية تتحدد في تمظهرات العلاقة السلبية للشخصية جونز إزاء رعية تلك الحظيرة المتكونة من الضمير الحيواني الجمعي في الخصائص و في خلاصة النوع و فاعلية مستوى التفكر و الوعي ما بين مواقع تلك العناصر ، فيما تبقى من جهة ما غاية في الأهمية المستويات و الأبعاد كـ ( التبئير ـ البنية الزمنية ـ الصيغة السردية ـ التفاعل النصي ) ضمن حدود فضاء خطي من الحكي ، كما تستمد العناصر الحيوانية في الحظيرة جملة سلوكياتها من فكرة واقع التمرد و العصيان و الثورة في وجه الطاغية صاحب المزرعة التابعة للقصر ، حيث نلاحظ أن حكاية الرواية تتلخص ، كما أخبرنا جورج أورويل بذلك على حد قوله في مقتطفات ما من ترجمة الرواية ( مزرعة الحيوان حكاية حيوانات تقدم هجاء ساخرا و نقدا للأنظمة الشمولية لسلطة ستالين حينذاك و انحرافاتها السياسية ) و على هذا الأساس وحده ، نعاين ذات يوم اتفقت جميع الحيوانات في المزرعة ، بعد أن دفعتها المبادىء السامية لدى العنصر العجوز (ميجر) إلى أن تقوم بالثورة ضد الشخصية جونز سيد المزرعة ، و الذي عادة ما يكون ثملا طوال اليوم : ( تفاصيل ـ ما أن أنطفأ نور الغرفة ، حتى صدرت عن بنايات المزرعة رفرفة الأجنحة ، تحولت في ما بعد إلى إلى ضجيج .. لقد ترددت خلال اليوم إشاعة أن ـ العجوز ميجر ـ رأى حلما غريبا ، في الليلة الماضية ، رغب في أن يتحدث فيه مع باقي الحيوانات . العجوز ميجر هو خنزير كان قد توج أيام شبابه ، بطلا بين أبناء جنسه / كان بالنسبة إلى الجميع الحكيم العجوز ، اتفقت جميع الحيوانات على أن تجتمع في الحظيرة ما أن يختفي السيد جونز . كان العجوز ميجر يحظى باحترام كبير إلى درجة أن الجميع كان مستعدا لتحمل السهر حتى يستمع إلى ما سيقوله . / ص13 ص14 الرواية ) .
1ـ جدل الرؤية و علاقة رؤية المعادل النصي :
ولعل من الأهمية بمكان معاينة الروابط الوحداتية في متن الحكاية ، لنجدها تتعاضد سويا في خطاب ثنائية الخطية الخطابية في النص ( الفاعل الخارجي = الفاعل الداخلي ) ورغم أن أحداث الرواية أكثر تركيزا و اختزالا في محاور مستوى الزمان الحيواني العاقل ، مما جعل من أفعال الرواية في وظيفة ( المعادل النصي ) أكثر مركزية إلى جهة محددات ( الراوي المستشرف ) فعلاقة هذا الراوي مع عناصر السرد أكثر استباقية من قيم الاسترجاع لدى العناصر النصية ، فيما تبقى جميع معاملاته إزاء أداة مسرود الخارج و الداخل أكثر تزامنية . و على أية حال تكشف لنا أحداث الرواية أجواء جدال المحاور فيها نحو عملية العصيان و التحرر من هيمنة صاحب المزرعة ، و التي تمثلت أخيرا بطرده من المزرعة : ( تفاصيل ـ العدو هو كل من يمشي على قدمين ، و الصديق هو من يمشي على أربع أو يطير ، لا تنسوا أيضا أن المعركة ذاتها لا ينبغي أن تغيرنا فنصبح مثل العدو ، وحتى عندما ننتصر عليه ، يجب أن نحتاط من رذائله ، لن يسكن الحيوان بيتا أبدا ، ولن ينام على سرير أو يرتدي ثيابا ، لن يشرب الخمر أو يدخن تبغا ، لن يلمس نقودا ، ولن يعمل في التجارة ، فكل عادات الأنسان هي عادات سيئة .. و الأهم من ذلك كله ، هو أن لا يستبد حيوان بحيوان آخر . / ص21 العجوز الحكيم ـ الوصايا السبع ـ الرواية ) .
2ـ المؤشرات النصية و مقاربة التأويل المرمز :
نعاين بأن حصيلة التحولات الدلالية في وحدات السرد الروائي ،غدت أكثر تأشيرا بمحفزات التأويل و الإيحاء و الإزاحة في المقاربة النصية المتكونة في معادلات موضوعة العنصر الحيواني العاقل في الرواية . الأمر الذي يدفعنا إلى فهم المؤشرات التعادلية و المعادلة في مستوى خطاب النص على النحو الخاص من التأويل و المؤول ، مما يجعلنا نفهم الخلاصة الكيفية في وضع تلك المحتملات في دلالة أفعال الحيوان الناطق في النص ، فنحن عندما نراجع مستوى خطاب العناصر الحيوانية في النص ، نجدها ضدا للإنسان و انحرافاته السلوكية إزاءها ، مما لا يوضح لنا هذا المستوى جانبا إحاديا من صورة الإنسان وحده في علاقته السيئة مع الحيوان ، و أنما يوضح لنا معاناة الحيوانات مع بعضها عندما يتولى نابليون الخنزير مهام قيادة المزرعة ، لذا نجده يمثل الصورة السلبية في مراحل سيادة الإنسان الطاغية على الحيوانات في الحظيرة ، وصولا إلى أنه صار يحمل السوط على أقرانه من الحيوانات و يحتسي الخمر و ينام على سرير السيد جونز الإنسان صاحب المزرعة سابقا ، و بالتالي يقدم أعز الحيوانات قربانا إلى الجزار عندما يتعرض هذا الحصان إلى حادث في أحدى ساقيه ، كما و توضح فكرة الرواية من جانب آخر مظلومية الشعوب من جراء حكامها و أحكامهم القاهرة ضد أفراد الشعوب المسكينة ، و بالتالي فهذه الفكرة لا تقدم لنا وحدها انجازا مثمرا ، ما لم يقدمها جورج أورويل على لسان تفاصيل خاصة و دالة و أكثر تركيزا في بؤرة مثال مظلومية الحيوان في واقع قدره الأليم ، و الذي هو بالنتيجة يشكل ذلك المعادل التأويلي لقضايا الإنسان الرازحة تحت بطش سياط الحاكم السياسي الظالم في صورته التأريخية و المعاصرة . فقد رأينا في أحداث رواية ( مزرعة الحيوان ) تلك المشاهد الحيوارية المتفرقة التي تعبر عن حالات الكفاح الحيوانية من أجل التقدم في إنشاء تقانة الطاحونة مثلا ، و تعديل مواقع الحظائر عبر تلك النسب الجيدة من صناعة الأنموذج المعماري المرموق في مخادع مآكل و مشارب و منامات الفئة الحيوانية الناطقة ، وصولا إلى تفاصيل متقدمة في تبادل الأغراض و بيع محاصيل المزرعة إلى أصحاب دكاكين البقالة ، ما جعل للحيوانات قيمة تحررية خاصة أخذت تصل في خبرها في كل أرجاء المزارع المجاورة لمزرعة الحيوان ، وذلك لخصوصية نظرتها الاستقلالية السيادية التامة لها و طردها لطاغوت الإنسان عنها ، فقد أبتدع لها الخنزير العجوز ميجر أغنية وطنية و لائحة وصايا دستورية خاصة بدولة الحيوان في هذه المزرعة تحديدا : ( تفاصيل ـ غير أنني اليوم ، سأغنيها أمامكم ، لقد تقدمت في العمر ، ذلك مؤكد ، وصوتي أصحب أجش ، لكنكم عندما تتمكنون من اللحن ، ستجدون أنفسكم فيها أفضل مني . عنوانها هو ـ حيوانات إنجلترا : ( حيوانات إنجلترا و إيرلندا .. حيوانات كل البلدان .. أصغوا إلى الأمل .. لقد وعدتم بعصر ذهبي .. الإنسان الظالم مصادر .. ستعرف حقولنا الخصب .. نحن فقط من سيطؤها .. لقد جاء يوم الخلاص .. ستختفي الحلقات من الأنوف .. ستختفي السروج من ظهورنا .. ستسقط السياط المجرمة .. الثروات ستتجاوز أحلامنا .. القمح و الشعير و التبن .. البرسيم و الجلبان و الشمندر .. سيكون لكم منذ اليوم . / ص21ص22 / أنشودة حيوانات إنجلترا ـ الرواية ) أستدعى هذا النشيد حماس الحيوانات في الحظيرة ، و كان قد أزداد قبولا و التصاقا في مشاعر الرفض لحاكمية البشر على أرض المزرعة ، أجل لقد تسلمته أذهان كل الفئات العاملة من الخنازير و الخيول و الأبقار و الحمائم في المزرعة بروحية عالية ، وعلى هذا النحو تقدم لنا الرواية أبشع وثيقة لإدانة كائنية الإنسان و إلى ذلك الغراب الذي كان يصاحب السيد جونز ، و الذي كان فيما مضى بمثابة المخبر الأمني الذي ينقل أخبار الحيوانات بطريقة الوشاية إلى صاحب المزرعة ، كان يدعى هذا الغراب بأسم ( موسى ) ومن هذا الأسم نعلم مقاصد التأليف لدى صاحب الرواية الناقمة على دين و شخص النبي موسى و التوراة فهو على حد تمثيل الرواية كان يجسد دورا قريبا من دور النبي موسى كليم الرب ، وهذا الأمر ما يوضح لنا حجم المعادلة و المقاربة بين ذلك الغراب و صورة النبي ، وهذا الأمر بحد ذاته يشكل إساءة كبيرة بحق الديانة اليهودية خاصة ، وذلك عندما يمثل دور الغراب في الرواية بفعل الوساطة ما بين الحيوانات و صاحب المزرعة جونز ، فيما يكون موضع هذا الأخير في الرواية بمثابة دلالة الرب . هذا ما فهمناه من وراء هذه الوظيفة في التسمية من قبل أورويل ، و إلا ما كانت ضرورة تسمية الغراب الحيواني المذموم عرفا بأسم موسى النبي عليه السلام . على أية حال يوافينا في الرواية خبر موت الحكيم الخنزير ، بعد عملية التحرير من الإنسان في المزرعة ، و بعد أن أصبحت الحيوانات من يدير شؤونها و شؤون المزرعة مع بعضها البعض . و سرعان ما فازت فئة الخنازير بأخذ زمام رئاسة المزرعة ، فيما برز الخنزير نابليون من بينها دكتاتورا فذا ، و قد نشبت العداوة و الكره في نفسه ضد زميله الخنزير سنوبول مما جعل الأخير يغدو طريدا خارج المزرعة بواسطة مجموعة من الكلاب الشرسة التي قام برعايتها نابليون منذ كانت صغارا ، لأجل هذا اليوم الذي تكون له كل الهيمنة و السيطرة من ذاته المتغطرسة على سكان حيوانات المزرعة .
ـ تعليق القراءة :
في الواقع أن دلالات رواية ( مزرعة الحيوان ) أخذت لذاتها تلك الدلالات السياسية و النفسية و الحسية و البؤروية الهامة ، و هو ما يجعلها من أشهر الروايات في تأريخ الأدب الغربي القديم و الحديث ، بالطبع تظل دوما علامة تهكمية نادرة إزاء مكابرة الأهواء و الطغيان لدى ساسة و زعماء الشعوب ، ولعل أبرز ما تمتاز به أدوات الرواية ، هو أسلوبها التمثيلي البارع في تجسيد عوالم من الطبقات المسحوقة من الشعوب الخانعة تحت سياط إرادة الطاغوت من أبناء جلدتها ذاتها ، و قد صور لنا الروائي جورج أورويل أبهى النموذج السردي و التمثيلي في محور ( الدليل المضمر ) الكامن في جوهر محاور ثريا عنونة مقالنا : الجمهورية الحيوانية بين الدليل المضمر و مؤولات منظور الظاهر الروائي .