25 نوفمبر، 2024 8:31 م
Search
Close this search box.

ج 13 – اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

ج 13 – اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

تحديق في الفراغ

ما ارهقها وحرمها من الاحساس بطعم الاشياء انها لم تستطع ان تتخلص من مخاوفها،حتى انها بدأت تفقد القدرة على التركيز،واخذ النسيان يستعرض حضوره في ذاكرتها بشكل لافت،لانها لم تكن قادرة على ان تنشغل باي موضوع لربما قد يساعدها على ان تتحاشى التفكير الدائم بتلك النقاط السوداء على الكبد والرئتين،ولهذا كانت في اغلب الاوقات اشبه بشخص تائه يراوح في مكانه ولايعرف الى اي اتجاه يمكن ان يتحرك،فمن النادر ان لااجدها ساهمة في فراغ رمادي لاحدود له،تحدق مستغرقة في نقطة ثابتة لاتحيد عنها،خاضعة تحت سلطة صمت يمتد بها لفترات طويلة من الوقت .
كان راسها اشبه بملعب تشتبك فيه الاسئلة ،دون ان تعثر في اعماقها على اجابة تطمئنها وتخرجها من عتمة كانت تطبق عليها،فما كان منها في بعض الاحيان الا ان تمسك راسها بكفيها،وتضغط برؤوس اصابعها عليه بكل ما تبقى لديها من قوة،لعلها تخفف من شدة الالم الذي كانت تشكو منه بسبب الافراط بالتفكير،فهي في قرارة نفسها كانت تدرك جيدا بان السقوط في هذه الحلقة من دوامة الافكار سيمتص رحيق الخضرة من اغصان روحها،هذا ما افصحت عنه قبل ان نغادر الفندق باتجاه المستشفى،ولم افلح في طمئنتها،رغم تأكيدي مرة واخرى على اهمية كلام الطبيب الهندي عندما تحدث للدكتور جمال غفوري عبر الهاتف في مركز ميديا وقبل اجراء العملية الجراحية بان النقاط السوداء على الكبد والرئتين مجرد ذرات من الغبار.
امضيت الطريق كله ما أن خرجنا من الفندق وانا استعين بكل مايخطر على بالي من افكار وحكم وامثال وحكايات اجدها مناسبة حتى اغير مما رسخ في عقلها من وساوس،وجعلها في حالة مواجهة مع نفسها،الامر الذي اخذ الكثير من صحتها،حتى انها لم تعد تعرف معنى الابتسامة،فاستحالت الى صندوق مقفل مفتاحه كان مفقودا،ومع ذلك لم ادع اليأس يجد وسيلة للوصول الى الموضع الذي كنتُ عليه،وبقيت متعلقا بامل ضعيف لاخراجها من هذه الهوّة التي سقطت فيها ولاتسعى الى الخروج منها،فقد كان من الصعب علي ان اجدها تمضي في ذاك الاستغراق البعيد عن طبيعتها العفوية وروحها المرحة والمتفائلة التي وسمت شخصيتها في جميع الظروف.
كانت تسير الى جانبي،لكنها ابعد ماتكون عني وعما حولها،ونحن نروم الوصول الى مستشفى الجامعة الاميركية التي بدت واضحة في نهاية الشارع عندما نظرت باتجاهها ولمحت القطعة الاعلانية الكبيرة على واجهة المبنى الكبير مشيرة اليها،ولم تكن تبعد عنا سوى مسافة لاتتجاوز خمس دقائق سيرا على الاقدام.
سرعان ما وجدتها تتخلف عني بمسافة لاتزيد عن بضع خطوات،وهذا ما كنت قد تآلفتُ معه منذ اكثر من خمسة اعوام،ولم اعد اتضايق منه،لذا دائما ما اكون مضطرا الى ان اتوقف حتى تلحق بي ثم نعاود السير جنبا الى جنب،وكثيرا ما كنت اتأمل حالتها وهي تمشي ببطىء وتثاقل واضحين فينتابني شعور بالالم ازاء ما وصلت اليه صحتها بسبب الروماتزم ومن ثم سرطان الثدي بعد ان هجم عليها ليضعها في خضم معركة شرسة اكبر مما يمكن ان يحتمله جسدها،حتى انها كانت تبدو امرأة في الثمانين من عمرها وليس في الاربعين إذا ما تابعها من الخلف اي شخص وهي تمشي،فمن غير الممكن ان تسير بشكل طبيعي بعد ان نال الاعوجاج من قدمها اليمنى واخذت تعرج بسبب مضاعفات الروماتزم،ولهذا كان من الصعب عليها ان تجاريني في مشيتي الطبيعية او ان تسرع في حركة اقدامها.
تنمُّر

اكثر ما يستفزني في ما يتعلق بحالتها عندما اجد نظرات الاخرين تلاحقها وخاصة النساء،وكانهن لم يسبق لهن ان رأين امرأة تعاني من عوق في قدمها،ولم اجد سببا مقنعا يدعوهن الى التحديق فيها على تلك الصورة المستفزة كما لو انهن يتفحصن شيئا غريبا لم يسبق لهن ان شاهدنه،والغريب في الامر انهن يتصرفن كما لو ان ردة فعلهن بغاية البساطة والطبيعية،ولايدعو الى الاستهجان،ودائما ما اتساءل:لماذا لايبدو عليهن ما يشير الى انهن يراعين حالتها النفسية ويتجنبن الانسياق وراء اي فعل قد يسبب لها الحرج او جرحا في كرامتها ؟ رغم انها لم تكن تعير اهمية لما يجري من حولها بشكل مطلق،إذ ليس من طبيعتها ان تراقب الاخرين،ولم اجدها مستفزة في يوم ما من تلك الوقاحة التي يظهرنهاعديد النساء ازاء مشيتها،وعلى العكس من ذلك دائما ما كنتُ هدفا لسهام نقدها ،فهي تعيب علي بأني اتمعن في متابعة ما يدور حولي من نماذج بشرية،والتقاط ما يميزها سواء في شكلها او هندامها او طريقة مشيها او اسلوبها في الكلام.وتجد في ذلك امعانا في معصية ما يأمرنا به الله،مع اني لم اكن اقصد الاساءة بقدر ما اود الاحتفاظ بمثل تلك الانطباعات في ذاكرتي،لربما تعينني في عملي سواء في الكتابة او في البرامج التلفزيونية التي اتولى اعدادها واخراجها،إلا انها لم تكن تقتنع بمثل هذه التبريرات،لان سلوكي من وجهة نظرها يتقاطع مع تعاليم الاسلام التي تحض المرء على ان يكف نظره عن الاخرين،وتزيد على ذلك فتقول بان استمراري بهذه التصرفات يجعلني اتحمل خطاياهم وذنوبهم .
اذكر انني في يوم ما،وبينما كنّا في احد مولات اربيل نتسوق حاجيات منزلية،وجدت نفسي في موقف لا احسد عليه،جعلني موزعا بين مشاعر مضطربة توزعت ما بين الشعور بالحنق والاهانة والغضب،بعد ان فقدتُ القدرة على التغاضي وتحمّل ما اعتبرته سلوكا مهينا يكشف عن تنمر صدَر عن زوجة شابة، بعد ان لفت انتباهها الطريقة التي كانت تمشي بها زوجتي،ولم تكتف بذلك بل همست في اذن زوجها وبدأ الاثنان يكركران بضحكهما وهما يتابعان سيرها وهي تعرج في مشيتها اثناء ما كانت تتجول في المول وتنتقي مانحتاجه من سلع غذائية ثم تضعها في العربة الصغيرة التي كانت تدفعها امامها.حاولت ان اجد سببا مقنعا لموقفهما،لكني لم اجد اي دافع منطقي ومقبول سوى ان هذا السلوك يعبر عن انحراف في الوعي والاخلاق لدى الانسان إذا ما استمتع بتوجيه الاساءة والانتقاص للاخرين لمجرد ان فيهم عوق جسدي،ولاينساق الى هذا المنزلق إلاَّ عندما يكون مغترا بهيئته ويجدها خالية من العيوب والنواقص، فيدفعه هذا التوهم بكماله وجماله الى ان يرى في نفسه ما ليس فيها،فيعجز عن رؤية حقيقتها الداخلية بما تخبئه من بشاعة وغرائز ربما يتساوى فيها الشخص مع الحيوان بتوحشه،وبينما كانت زوجتي قد ابتعدت عني مسافة عدة امتار لتستطلع اسعار الحاجيات التي تنوي شرائها،كنت اقف بعيدا عنها اتطلع الى الاجهزة الالكترونية، في حينه اصابتني حالة من التوتر لانني شعرت بجرح في كرامتي،رغم انها لم تكن منتبهة لسلوكهما وكانت منشغلة تماما بالبحث عما نحتاجه من سلع،وقررت ان اتجه اليهما وأنا معبأ بطاقة من الغضب لم استطع كبتها ومداراتها، لكني انتبهت على صوتها وهي تناديني، فتوقفت عما كنت عازما عليه.
لااستطيع ان انسى حالة الشعور بالقرف التي تلبستني في ذلك الموقف بعد ان اكتشف مدى مايحمله الانسان من قسوة ازاء اخيه الانسان خاصة إذا ما كان في حالة تشوّه او ضعف خلقي .
خلل اخلاقي
كثيرة هي المواقف التي نواجهها في حياتنا اليومية وتكشف عن عمق الخلل الاخلاقي الرازح فينا والمستتر تحت طبقات من الرياء امام المجتمع،لكن ردود افعال الناس ازاء بعضهم البعض وفي مواقف مختلفة تفضحها وتعريها،بما في ذلك حالات التنمّر،خاصة عندما يتعلق الامر باولئك الذين يعانون من عيب خَلقي،ومن ناحيتي حاولت قدر المستطاع ان استوعب ردود الافعال التي تعبر عن تنمر خاصة عندما نتواجد في اماكن عامة،وارغمت نفسي بمرور الايام كلما خرجنا معا في مشوار على ان اعتاد على مثل هذه الافعال التي تفتح جرحا في كرامة الانسان المعاق ،ومما ساعدني على ذلك انها لم تكن تولي اهمية لهذا الموضوع،لانها دائما ترى نفسها رابحة في هذه المعركة غير المتكافئة بين من هو معاق ومن يجد نفسه كاملا ،وقناعتها التي ما تنفك ترددها بان ضعف ايمان الاخرين بالله هو الذي يدفعهم الى ارتكاب الخطأ بحق غيرهم،كما انها لاتستطيع ان تعترض على ماكتبه الله لها،فالعوق الذي اصابها لايشكل بالنسبة لها عقدة نفسية او عقوبة بقدر ما تعتبره امتحانا لايمانها،واستطيع ان اجزم بانها استطاعت ان تجتاز اصعب السنين في هذه التجربة،فمنذ العام 2000 كان الروماتزم قد بدأ يرسخ حضوره بمفاصلها بصمت خفي ويستنزف طاقتها مخلفا وراءه يوما بعد اخر تدميرا داخليا في بنية عظامها،ولم تكن تتكشف اثاره بشكل واضح وسريع، انما كان يتوسع ويتمدد شيئا فشيئا من غير ان يثير الانتباه،وهنا لافرق بينه وبين السرطان في خبثه،وهذا ما جعل عظامها تتيبس وتصبح هشة،فاصبحت حركتها بالتالي ابعد ماتكون عن حركة الانسان في حالته الطبيعية.حتى انها ومنذ عدة اعوام لم تعد لديها الرغبة في ان نرفِّه عن انفسنا بالخروج من البيت والتوجه الى المتنزهات العامة،لانها كانت تعاني كثيرا في سيرها،ويزداد وجع قدميها ما ان نعود الى البيت.ولهذا لم اكن مستغربا عندما وجدتها على تلك الحالة التي بدت فيها غير مبالية بما كان عليه الطقس في بيروت من اعتدال ونحن في شهر حزيران،فنحن في العراق لم نعتد في صباحاتنا الصيفية على ان نستقبل نفحات من الهواء البارد خاصة بعد ان تهجم علينا اشعة الشمس بوقت مبكر مثل اي ضيف ثقيل يأتي دون سابق موعد،فرائحة البحر وماتمنحه من طراوة على ملامح الناس والاشياء وحركة الحياة لايمكن للغريب القادم من مدن القيظ الاَّ ان تتسلل اليه وتعلق بحواسه،ورغم ان اشعة الشمس كانت تحاول ان تؤكد حضورها إلا انني كنت اشعر بحرارتها اشبه بهفهفة ريح ناعمة،فكان من الطبيعي ان يغمرني احساس شفيف بحلاوة اللحظة التي كنت اعيشها،خاصة وان مدننا في العراق كانت تستيقظ في مثل تلك الايام على لفحات ساخنة من هواء مشبع بذرات من الرمال قادمة من قلب الصحراء،ولما سالتها عن رأيها بطبيعة المناخ اكتفت بكلمة واحدة “لطيف” ولم تزد عليها كلمة اخرى،لانها كانت منفصلة عما يحيطها،في محاولة منها ان تستجمع مشاعرها المضطربة التي كانت تتشظى كلما اقتربنا من المستشفى التي باتت تبعد عنا مسافة تقل عن خمسين مترا.

محطات انتظار
نولد ونموت عشرات المرات في مسيرة حياتنا،وبين الموت والميلاد هناك لحظات نتحرك فيها ونحن نحترق بغيوم داكنة سوداء تضلل كل خطوة نخطوها،احيانا ننجح في استرجاع اشلائنا ونعيد اليها صوتنا،ونفلح في ان لانستسلم للروائح المتعفنة التي تسد علينا سبل الخروج من محطات الانتظار،نحن هكذا ما أن تضرب اقدامنا الارض ونستفيق من سماء طفولتنا البريئة،حتى نجد انفسنا في غيبوبة ابدية لانصحو منها الا عندما يوشك ناقوس النهاية ان يُقرع.
لم استطع ان اقفز من ارجوحة التفكير التي اخذتني من حيث كنت اجلس معها داخل المستشفى ننتظر نتيجة فحص الدم،فقد طُلِبَ منها ذلك قبل ان تدخل الى غرفة جهاز الفحص الاشعاعي “PTE SCAN ” وخلال فترة الانتظار لفت انتباهي وجود الكثير من المراجعين العراقيين الذين جاءوا من بلد النفط والخيرات ليتلقوا العلاج في لبنان،فمن نجا منهم بحياته من نيران الحروب اصطاده السرطان،فقد تحول العراق الى لعنة سرطانية تطارد الجميع.
انتابتني رغبة كبيرة في ان اصرخ لعلّي استطيع ان احدث شرخا في هذا التآكل الذي اصابنا،حتى اننا لم نعد نوقن بامكانية الخلاص.
بقيت انظارنا خلال ساعة من الزمن ترنو الى الشاشة المعلقة على الجدار والتي كانت تعرض ارقام من ينتظرون استلام نتيجة فحص دمهم.واثناء ذلك مالت ناحيتي وهمست في اذني بان الدم والسوائل قد تجمعت في مكان العملية الجراحية،ولابد من سحبها اليوم،لانها بدأت تشعر بثقل يدها اليسرى ولم تعد تستطيع ان ترفعها او تحركها بسهولة.
“هل تستطيعين ان تتحملي الى ان تنتهين من اخذ الاشعة ؟ “سالتها لاتأكد فقط من قدرتها على التحمل .
” نعم استطيع ” .

شكوك
استلمنا النتيجة بعد ساعة من الانتظار،واتجهنا الى موظفي الاستعلامات لنسألهم عن كيفية الوصول الى غرفة الفحص بجهاز”PTE SCAN”وعلِمنا منهم بانها توجد في الطابق الذي يقع تحت الارض.وبعد بحث واستفسار بين الممرات الطويلة التي تشبه الملاجىء المحصنة في الحرب العالمية الثانية وصلنا الى غرفة الفحص وسلمنا البيانات الى فتاتين تديران مكتب الاستعلامات الخاص بجهاز الفحص،واحدة كانت محجبة والاخرى سافرة،وكان من ضمن البيانات التي سلمناها رسالة من الدكتور لقمان الذي سيشرف على علاجها الكيميائي ما أن نعود الى العراق مباشرة،كانت موجهة الى ادارة المستشفى يؤكد لهم فيها على اجراء الفحص بجهاز”pte scan”اكملت الفتاة المحجبة تسجيل المعلومات في الكومبيوتر استنادا على الرسالة ونتيجة فحص الدم وبقية البيانات الاخرى التي جلبناها معنا من العراق،ثم طلبت مني ان اذهب الى قسم الحسابات حتى اسدد مبلغا بقيمة 650 دولار ثمن الفحص،ومن ثم العودة والانتظار الى ان يحين موعدنا.
جلسنا على مصطبة مقابل غرفة الفحص لفترة من الزمن تصل الى اكثر من نصف ساعة،وكان من المفروض ان نجد التزاما وانضباطا في السلوك ما يعزز الثقة من اننا في مكان يليق باسم الجامعة الاميركية،ولكن ما مَثُل امامنا من مزاح بين الموظفتين الشابتين لم يكن الا شكلا من اشكال الاستهتارالذي لاينسجم مع وظيفة المكان،انذاك تعززت لدي قناعة لم استطع ان استبعادها ،بان لبنان والعراق اقرب شبها بالفتاتين في تارجحهما بين الحداثة والتقليد.
كان باب غرفة الفحص مواربا ويقع على مسافة قريبة منا،لذا كان من السهولة ان نرى جانبا من جهاز الفحص،وبقيت زوجتي تمد رأسها الى الامام حتى تتمكن من ان تعاينه بشكل جيد، فإذا بها ترفع حاجبيها الى الاعلى وتظهر عليها ملامح الاستغراب بينما كانت تهز راسها وكانها ليست مصدقة ما كانت تراه .
التفت ناحيتي وقالت”هذا الذي اراه امامي ماهو الا صورة طبق الاصل عن جهاز ال CTE SCAN الموجود في اربيل،والذي سبق ان فحصني به الطبيب الهندي،فهل هذا معقول !؟”.
“ولم لا ؟ ربما التشابه بينهما من حيث التصميم،بينما من حيث الوظيفة يختلفان ” .
نادت عليها الفتاة غير المحجبة وطلبت منها التوجه الى غرفة الفحص .

في غرفة الفحص
منذ ان اصيبت في نهاية شهر ايار حاولت قدر المستطاع ان اخفي عنها كل ما كنت احمله من قناعات متشائمة،وبدلا عن ذلك بدأت امضي في طريق آخر يخلو من النبوءات التي تجعل النهايات لاتبعث على التفاؤل خاصة ما يتعلق بالحياة في العراق ،حتى انني عملت على شطب القنوات الاخبارية من قائمة اهتمامتي،كل ذلك في محاولة مني لاشاعة مناخ من الهدوء في البيت،لانني اعلم جيدا ان متابعة الاخبار السياسية اكثر ما سمَّم حياتي،وفتحت قروحا في مسامات وجداني،وجعلتني اهدر الكثير من الجهد والوقت دون جدوى،فالتغيير في هذه البقعة من الكرة الارضية عبارة عن خرقة يمسح بها الساسة احذيتهم.
ايقنت من ان علاقتي بها بدات تخطو نحو منطقة عاطفية اكثر عمقا،لاعلاقة لها بالاشفاق عليها لانها مريضة،بقدر ما اكتشفت بان ما يبقى من المسيرة الحياتية هي الروابط الاسرية التي يؤسسها الانسان،ولن تجدي نفعا كل النجاحات المهنية التي من الممكن ان يحققها إذا لم يفلح في بناء اسرة متماسكة يسودها الحب.
عندما خَرجَت من غرفة الفحص بعد نصف ساعة بدت علامات الاستغراب على وجهها اشد وضوحا،فبادرت هي بالحديث” ليس هناك اي فرق بين هذا الجهاز وجهاز الفحص cte scan الموجود في اربيل،اكثر ما اخشاه ان يكون هناك خطأ ؟ ” .
“لا اعتقد،لان التقرير الذي كتبه د. لقمان كان واضحا ” .
على مايبدو فأنني قد تطوعت من ذاتي لتبديد وساوسها،مع اني لم اكن متأكدا في ما إذا كان هناك خطأ في الموضوع،ولاادري لماذا لم نحاول في حينه ان نستفسر من الطبيب نفسه الذي كان يعمل على الجهاز،على الاقل حتى نقطع الشك باليقين.وبينما كنا نتجادل حول موضوع الجهاز نادت علينا الفتاة المحجبة وابلغتنا بان النتيجة ستظهر بعد ثلاثة ايام،ولما اعترضت على طول الفترة،اجابتني بان من الممكن ان اتحدث مع الطبيبة المسؤولة عن القسم ،واشارت الى غرفة قريبة منّا.
وبعد جهد بذلته مع الطبيبة المسؤولة عن تسليم التقاريراستطعت ان اقنعها باننا لانستطيع الانتظار،ولابد ان نستلمه في اليوم التالي ووعدتني بانها ستبذل جهدها حتى نتمكن من استلامه في تمام الرابعة عصرا .

سَحبُ الدَّم
بقي لدينا فائض من الوقت ذاك النهار،وكانت الساعة تشير الى الحادية عشرة صباحا عندما نظرت اليها ووجدتها متعبة فكان لابد من اجراء عملية سحب للدم والسوائل،وسرعان ما تمكنا من الوصول الى الطبيب هاشم معتوق حتى يتولى عملية السحب. كانت عيادته تقع في مبنى كبير ملحق بالمستشفى.وبعد ان اطلع على مكان العملية،سالنا عن اسم الجراح العراقي الذي تولى اجرائها،وابدى اعجابه الشديد بدقة عمله،ثم رفع سماعة الهاتف الموضوع على مكتبه واجرى اتصالا هاتفيا،وعاد مرة اخرى يستفسر منها عن صحتها وفي ما اذا كانت تعاني من اية مشاكل وفي تلك الاثناء دخل شاب الى الغرفة يرتدي رداء ابيض خاص بالاطباء، طلب منه الطبيب معتوق ان يتولى بنفسه عملية سحب الدم.ثم استدار ناحيتنا ليطمئننا مشيدا بكفاءة الطبيب الشاب خاصة وانه يشرف شخصيا على رسالة الماجستير التي يواصل التحضير لها .

باتجاه البحر
عندما خرجنا قاصدين البحر مشيا على الاقدام كان جبين الشمس يلوح من نافذة الغرفة في الفندق معلنا اقتراب فترة العصر على الافول .اخبرنا عامل الاستعلامات بان من الممكن ان نصل الى الكورنيش من غير ان نستعين بسيارة اجرة لانه يبعد مسافة لاتزيد عن عشر دقائق.
دائما ما كنت اعتقد بان العلاقة بين الانسان والمكان ليس من السهولة ان تتشكل ويكتمل حضورها في طبيعته وثقافته وردود افعاله،فهي تحتاج الى مشاركة وتفاعل وجداني اكثر مما تحتاج الى سنوات طويلة من الاقامة،ومن الممكن هنا الحديث عن انطباعاتي الشخصية حول هذه المدينة التي كنت ازورها للمرة الاولى، ومع ذلك فإن قناعتي لايتوفر فيها قدر كبير من المصداقية، لانني لمستُ المدينة من السطح، ولم تتكامل الظروف بعد حتى تنبسط العلاقة بيني وبينها،ولتنشأ بيننا لغة عفوية في التعامل، فأنا بالكاد تعرفت اليها وجها لوجه منذ ساعات،رغم انني اعرف عن تاريخها الكثير،ولكني لااستطيع ان انكر بانني لم استلم اي اشارة حب تجاه هذه المدينة التي كانت في يوم ما الملاذ الذي كنت اتمنى ان ابدا منه حياة جديدة،إذا ما غادرت العراق ،وهذا ما صدمني منذ ان وطأتُ ارضها قبل يومين.
طيلة الطريق الطويل المؤدي الى البحر لم اجد فيها ما يدفعني الى ان اندهش، فليس فيها من ابنية معمارية تمنحني الشعور بانني في مكان لن اجد ما يشبهه في مدينة اخرى،انها نسخة من مدن كثيرة منتشرة في هذا العالم،فهي ليست مثل صنعاء على سبيل المثال المدينة اليمنية التي تفرض حضورها بخصوصية طرازها المعماري الذي يعود الى مئات السنين او ايطاليا التي لاتستطيع فيها الا ان تستنشق رائحة عصر النهضة بكل فخامته في النصب والتماثيل التي تواجهك اينما استقرت عيناك في الشوارع والساحات العامة. اما بيروت فلن ترى فيها اكثر مما تراه من تصحر في المدن العربية الاخرى، فخلف تلك الابنية والعمارات الحديثة لن تعثر على قصص تفتح الافاق امامك نحو المستقبل.
البحر هو الشيء الوحيد الذي جعلني استسلم لجاذبيته ما أن رايت اشعة الشمس بلونها الذهبي وهي تنعكس على امواجه،فكان الماء بذاك المدى الشاسع قد شكل مساحة حرة من المشاعر الناعمة مثل نعومة الرذاذ الذي ترسله الامواج ما ان تصطدم بالصخور الراسخة عند الشاطىء، وخلال لحظات ازاحت رائحة البحر الحواجز النفسية التي احالت بيني وبين بيروت.
وقفت مسحورا امام صخرة الروشة،ورحلتُ بمخيلتي معها الى سنين بعيدة من التاريخ مرت بها هذه المدينة التي كانت في ما مضى بوابة العبور نحو العالم المتمدن ،ولطالما بقيت ابوابها مفتوحة امام المغامرين والحالمين بعالم افضل . اطلتُ النظر طويلا وانا اتأمل الصخرة وهي تقف شامخة وسط الماء مثل كائن اسطوري عملاق ،غير عابئة بالامواج ، وكانت بمثابة شاهد على التاريخ ،إلا ان متعتنا افسدتها إمرأة بدينة ملحاحة بينما كنا نتكىء باذرعنا على السياج الحديدي نتأمل البحر،فما أن لمحتنا حتى اقتحمتنا ونحن نحلق بمخيلتنا مع سحر المكان،فانتزعتنا من صفاء تلك اللحظة الآسرة وهبطت بنا على الارض الى حيث الكورنيش الذي كان يعج بحركة الناس.بدت المرأة في لون بشرتها المائل الى سمرة داكنة اقرب ماتكون الى الغجر،وماعزز ذلك الاحساس تلك الوشوم التي كانت تزين ذقنها وكفيها اضافة الى سِنِّها الذهبي الذي كان يلمع بين بقية اسنانها الاخرى. ظلت تحوم حولنا لاقناعنا بقدرتها على قراءة الكف،ولكننا لم نعرها اهتماما،إلا ان زوجتي اشارت بحركة من راسها بان امنحها اي مبلغ بسيط ،لكني رفضت،لقناعتي بانها امرأة تحترف الشحاذة مثلما هي تحترف النصب والاحتيال،ولم نفلح بالخلاص منها الا بعد ان ابتعدنا عنها وغادرنا المكان .
شعور بالارتياح
قبل موعد عودتنا الى اربيل بيوم واحد،قررت ان نذهب الى الطبيب الذي سبق ان اجرى العملية الجراحية لزميلتي المهندسة في القناة الفضائية والتي سبق ان زودتني برقم هاتفه وعنوانه.
احيانا لاتحتاج الى وقت طويل حتى تكتشف حقيقة بعض الاشخاص،ومن الممكن ان تصل الى اعماقهم بكل سهولة ما أن تلتقيهم اول مرة،وكانك تعرفهم منذ فترة طويلة،وهذا ما حصل مع الطبيب رضا الطفيلي ما ان التقينا به في عيادته،فما أن علِم باننا من مدينة الموصل ابدى تعاطفه معنا،ولم يكن يحتاج الى ان يجاملنا،خاصة بعد ان وجدته يحمل ذاكرة عاطفية تطغي عليها مشاعر المحبة ازاء العراق،حيث سبق له ان زار النجف وكربلاء اكثر من مرة ،وبعد ان اطلع على التقرير الخاص بالفحص الذي اجريناه يوم امس اكد لنا بعدم وجود اي اشارة على ان النقاط السوداء هي عقد سرطانية،وبذلك تطابق رايه مع راي الطبيب الهندي في اربيل. انذاك استوت في جلستها،وكان من السهولة ملاحظة البريق الذي بدأ يشع من عينيها.

يتبع ..

أحدث المقالات

أحدث المقالات