على مدى عقود من الزمن، اتهُم الكُرد بدعمهم إسرائيل ومعارضة القضية الفلسطينية. وإلى جانب النزاع العرقي، فإن القضية الحقيقية بين الكُرد والعرب هي أن أحد الأطراف يريد جر الآخر إلى المشاركة في حروبه. وفى الوقت عينه، تحاول بعض وسائل الإعلام العربيّة وأحياناً التُركية والإيرانيّة تبرير الجرائم الّتي يتعرض لها الكُرد منذ عقود في سوريا والعراق وتركيا وإيران. وعلى الرغم من ادعاء أنقرة دوماً أنها تحارب إسرائيل، إلا أنها تواصل في خط موازٍ إرسال قوافلها التجارية إلى إسرائيل، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 4 مليار دولار في العام 2017.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن الكُردي ليس عربياً وليس مجبراً ولا مطلوباً منه إعلان عداوته لأعداء العرب. ثم ثانياً، لماذا يجب أن يكون الكُردي ضد إسرائيل بسبب احتلالها للدولة الفلسطينية أو للجولان، بينما لا يُفرض الأمر ذاته على العرب، باعتبار أن تركيا بالنسبة للكُرد هي دولة تحتل أراضيهم، ورغم ذلك لم يسمع يوماً أن الكُرد طالبوا الشعوب العربية أو الدولة السورية والعراقية بإعلان العداء للأتراك أو بطرد السفراء الأتراك من دمشق أو بغداد.
أن العرب بغالبيتهم والسوريين المعارضين لنظام بشار الأسد بشكل خاص، يرون إسرائيل وحدها دولة احتلال، في حين أن تركيا تحتل مساحة جغرافية كبيرة من سوريا قديماً مثل لواء اسكندرون وجرابلس والباب وعفرين حديثاً. هذا ناهيك عن الاحتلال العثماني للبلدان العربيّة لعدة قرون. وربما يكون التبرير الأوضح لذلك هو أن تركيا دولة إسلاميّة.
ومن ثم، فان من يتضامن مع الفلسطيني ضد إسرائيل، عليه أن يتضامن مع الكردي ضد تركيا ودول أخرى تحتل أراضيه، وإلاّ فإننا سنكون أمام معادلة مليئة بالازدواجية في التعامل مع شرعية حقوق الإنسان والحريات والمعتقدات.
وبالتالي، كيف يمكن لمن يطلب من الآخر أن يكون ضد إسرائيل لجرائمها على شعبه وأراضيه، أن يقف مع آخرين مارسوا أبشع الجرائم وأعنفها ضد الكُرد في التاريخ المعاصر؟ وأعني بهم غالبيّة النخب العربيّة الّتي تُعادي إسرائيل دوماً وترحبُ بتركيا أينما كانت.
والملفت أن مظاهر الصراع العربي – الإسرائيلي بدأت في التلاشي بين اغلب المسؤولين العرب وذلك واضحاً مع وجود السفارات الإسرائيلية وقنصلياتها في عددٍ من العواصم العربية مثل القاهرة وعمّان، ورغم ذلك لا تتوانى بعض وسائل الإعلام والنخبّ العربيّة وقضيتها من وصف كُردستان المُحتمل قيامها في المنطقة بـ “إسرائيل الثانيّة” رغم البعد الجغرافي بين إسرائيل ومناطق الكُرد في كل من سوريا والعراق وإيران وتُركيا، ورغم عدم وجود أيّ علاقات إسرائيلية ـ كُرديّة رسميّة كانت أم ديبلوماسيّة ثابتة وواضحة.
وما يثير الحيرة حول هذه الصفة الملتصقة بالكرد عند بعض العرب، هو عدم وجود أسباب أو براهين واضحة لإطلاقها عليهم، فالكُرد يعيشون على أرضهم التاريخية بعد اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916، والتي قسّمت بلدهم بين أربعة دول، فإذا ما قمنا على سبيل المثال بإزالة الأسلاك الحدودية بين سوريا وتركيا في كوباني مثلاً، سنجد عائلات كُرديّة مقسّمة بين دولتين وفي كلّ دولةٍ منها يعيش عدداً من أفراد نفس العائلة الكُرديّة، كذلك الأمر بالنسبة إلى العراق وإيران، حيث يتعرّضون دائماً للقمع وتربطهم هذه العلاقات الأًسريّة.
أمام هذه الاتهامات العنصريّة اليوميّة ضد الكرد وقضيتهم التي تُعد من أعقد قضايا الشرق الأوسط، لا بدّ من التذكّير مرةً أخرى، أن إسرائيل لم تكن يوماً إلى جانب الكُرد، لكنها أيضاً لم تحاربهم بشكل مباشر كما تفعل الأنظمة الأربعة، إما عسكرياً كما حصل في عفرين مؤخراً أو معنوياً بمنع لغتهم وثقافتهم كما هو الحال في سوريا، مع الإشارة إلى أن عشرات المقاتلين الكُرد اليساريين قاتلوا ضد إسرائيل في فلسطين وجنوب لبنان مع فصائل عسكريّة فلسطينيّة، وكانوا في غالبيتهم من مقاتلي حزب العُمال الكُردستاني ذو التوجّهات اليساريّة في الثمانينات من القرن الماضي.
ومن المهم في هذا الصدد، العودة لمرحلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في نشأتهِ الأولى، أثناء الحروب التي نشبت بين الطرفين في فلسطين والجولان ولبنان وسيناء والأردن من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، وكل المجازر التي قامت بها في تلك الفترة والدمار والتهجير، إلا أن سكان تلك الدول والمناطق من الفلسطينيين لم يكونوا دون أوراق ثبوتية، بل كانوا يتنقلون ويسافرون عبر وثائق سفر مؤقتة أو دائمة تصدر عن سلطات بلادهم أو سلطات الدول التي لجأوا إليها كما هو حالهم في سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر وغيرها من الدول الأخرى، بل إن إسرائيل منحت غالبيتهم جنسية دولتها، حتى أن بعض النخب الفلسطينية اليوم تحمل جوازات سفر إسرائيلية ومنهم منْ يدير مؤسسات إعلاميّة عربيّة تؤيد ثورات الربيع العربي والإسلامي السياسي المُعتدل والراديكالي أيضاً. يضاف إلى هذا الأمر، أن السلطات الإسرائيلية خلال صراعها مع العرب، لم تمنع الفلسطينيين يوماً واحداً من حق التكلّم والتداول بلغتهم الأم “العربيّة”، على عكس ما عاشه الكرد في أراضيهم.
وفى ظل الصراع العربي ـ الإسرائيلي الحالي والّذي يظهرُ حالياً على شكلٍ حربٍ إعلامية فقط على بعض وسائل الإعلام العربيّة وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، كان القادة العرب ووسائل إعلامهم يحاربون إسرائيل ـ العنصريّة والمحتلّة ـ كما يصفونها، في حين أنهم في الوقت ذاته في سوريا والعراق وعبر نظام هاتين الدولتين، كانوا يحرمون الكُرد من أبسط حقوقهم المدنيّة ومنها منعهم من حق التكلم والتداول بلغتهم الكُرديّة، حيث كان الكُرد في سوريا يعيشون دون أوراق ثبوتية، وكانت السلطات السورية لا تعترف بوجودهم أصلاً، رغم أنهم يعيشون على أرضهم التاريخية، حتى أن بعض الممارسات العنصريّة للدولة السوريّة كانت ترغم بعض الكُرد ممنْ كانوا يحملون الجنسية السورية على كتابة أنهم “عرب سوريون” في بعض الوثائق التي كانوا يطلبونها من الدولة وفي شهادات ميلادهم.
هذا عدا عن تعريب أسماء المدن والقرى والبلدات الكُرديّة في سوريا ناهيك عن العراق، والتي عَمِلَ النظامين السوري والعراقي على تغيير ديموغرافية المناطق الكُردية فيها من خلال توطين عائلات عربيّة في مناطقهم سواءً في شمال سوريا أو العراق الّتي ربّما لن يتوقف فيها صراع المناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد اليوم.
وفي هذا السياق، يمكننا العودة لأرشيف المجازر الدموية التي نفذتها إسرائيل بحق الشعوب العربية في فلسطين المحتلة، والجولان، ولبنان وسيناء، والأردن، والتي رغم قساوتها وظلمها إلا أنها لا تضاهي المجزرة الكردية التي راح ضحيتها في أقلِ من نصفِ ساعة خمسة آلاف مدني إثر السلاح الكيماوي الذي استخدمه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ضدهم في العام 1988 بمدينة حلبجة في إقليم كُردستان العراق.
وفي السياق نفسه، لا يمكن إغفال الجرائم والعنف ضد الكُرد في تُركيا التي قالت يوماً، إن “كلمة الكُردي في اللغة التُركية تعني وقع أصواتِ أقدامِ جنودنا على الثلج”، في محاولةٍ منها لتصغير الكُرد. وهذه الإهانة لم تتوقف هنا، بل تواصل السلطات التركية حربها على الأراضي الكردية من خلال هجومها المبرمج والمنظم على مدينة عفرين بداية العام الحالي، حيث نجحت بمساعدة بعض المقاتلين من المعارضة السورية أن تحتلها وتهجر سكانها، وتقتل المئات بنيران طيرانها الحربي، دون أن يكون هناك أي موقف عربي واضح يستنكر هذه الجرائم ويطالب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالتراجع والتوقّف عن قتل المدنيين في منطقة تتمتع بحكمٍ شبه ذاتي داخل الحدود السورية.
ولكن استبداد واحتلال هذه الأنظمة الثلاث وممارساتها العنصريّة ضد الكرد لا تختلف أبداً عن الدولة الإيرانية التي تعدمُ الكُرد بشكلٍ شبهِ يومي، فقط لأنهم يطالبون بحقهم في الحياة في أرضهم.
وإزاء كل ما ذكر أعلاه، نجد من الصعوبة مقارنة كل ما تعرّض له الكُرد في مناطقهم، بما عاشه الفلسطيني في إسرائيل أو في الشتات خلال فترة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبالتالي لا مبرر لدى غالبية هؤلاء العرب في إعلان العداء للكردي، ولا يوجد وجه حق في أن يطالبه بإعلان العداء المطلق والأعمى لإسرائيل كشرط لتضامنه معهم، لا سيما وأن الأنظمة العربية تقف بصمت إزاء الاحتلال التركي الحاصل اليوم، ولم يعلن أي عربي العداء، المطلوب فقط من الكردي، ضد السلطات التركية التي تقتل وتذبح وتشرد أهالي سالمين في عفرين تحت ذريعة طرد “الإرهاب”.
وباعتقادي كحلّ لمثل هذه المشاكل الّتي تقف عائقاً في وجه التعايش المشترك بين أبناء هذه الدول التي تقمّع الكُرد، على النخب العربيّة حين تقف مع الكُرد ألّا تضع شروطها الخاصة وتلعب دور الوصي عليهم. كذلك الأمر بالنسبة للكُرد، حين يكونون مع قضيّة عربيّة، عليهم ألّا يملوا شروطهم على الطرف الآخر. ولكن إذا استمر الوضع القائم والصمت المطبق على الظلم والتجاوزات التي تحصل وتتكرر بحق الكرد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، سيكون من الطبيعي أن يتمنى الكُردي، لو أن إسرائيل هي الّتي احتلتْ أرضه عوضاً عن العرب والإيرانيين والأتراك!