19 ديسمبر، 2024 1:54 ص

بديهة الاستقرار

بديهة الاستقرار

في أرض عُلِم أنها أرض الحضارات ومهبط الأنبياء والرسل، عُلِم أيضا أنها محط أطماع أٌقوام وأمم عبرت البحار والجبال على مر العصور، للوصول اليها والاستحواذ على ما فوقها وما في باطن أرضها، تارة تحت مسمى الفتوحات، وأخرى تحت مسمى العائدية، وثالثة تحت مسمى التحرير، وبتحصيل حاصل من كل هذا شاء قدر سكان هذي الأرض أن يعيشوا تحت اضطراب وقلق مستمرين، على أيدي أشرار وافدين اليهم من غياهب الأرض ومتاهاتها.
وظل هذا الحال ملازما لحياة السكان اليومية قرونا طويلة، تخللتها بين الفينة والأخرى بضع سنين تنفسوا خلالها الصعداء بفعل بطل أسطوري، تمثل لهم بشخص حاكم او سلطان مسك زمام أمور هذي الأرض وأحسن صنيعا فيها، ولسوء حظهم أن الأخير هذا سرعان مايرحل ويعود الاضطراب والقلق أشد من سابق عهده. وهناك نظرية بديهة تخضع لها كل ظواهر الحياة، تلك النظرية تنص على أن الطبيعة تميل دوما الى الاستقرار، فالرياح العاصفة لابد لها من هدوء، والبركان لابد له من خمود، والأعاصير لابد لها من سكون، وكذا الحال مع باقي ظواهر الحياة.
بعد عقود الجور والدكتاتورية والظلم، وسني القمع والبطش والكبت، والحروب والحصار والحزب الواحد والقائد الأوحد، هبط من السماء الأمريكية وحي الديمقراطية، مبشرا وليس نذيرا، فقد بشرنا بأدواتها ولم ينذرنا بتداعيات سوء استخداماتها، وفي جميع الأحوال (أنعم الله من الأجاويد) فقد أزاحوا صنما كان قد نأى بالعراق والعراقيين بعيدا عن ركب الحضارات الغربية والشرقية عقودا، فبين ليلة وضحاها وبعد ان كان العراق مركونا فوق رفوف الحصار مكبل العقول والطاقات والقدرات، ناهيك عن كبحها وتعطيلها المتعمد، فاذا بإطلالة عام 2003 واذا بالحريات تنهمر عليه كالسيل الجارف، وبذا تكون نظريتنا التي ذكرتها بدءًا فُصِّلت للعراقيين (تفصال) فاصبحوا يميلون الى الاستقرار على ضوئها. ومعلوم ان الفرد لايشعر باستقرار في بلده إلا إذا توافرت له جملة حيثيات، منها وأهمها الضمان، وهذا بدوره تندرج تحته مسميات عدة أهمها حلول الأمن واستتبابه، وعند توفيره له على الدوام ومن دون غبن او غدر، يشعر الفرد بالتصاقه بتربة وطنه، حيث ان الضمان يحقق له كيانا ووجودا وشعورا بان له حضورا دائما لدى حاكميه ومسؤوليه، ومن غير ذاك الضمان فهم جلادوه وسجانوه. فضمان أمن المواطن حق على الحكومة ان ترعاه، ليرعى -بالمثل- الواجبات المنوطة على عاتقه تجاهها.
لو قلبنا صفحات تاريخ العراق القديم والحديث، تبين لنا أن القلق والاضطراب اللذين أشرت اليهما، كان أغلبهما تجلبه رياح الشر من خارج الحدود، غير أن المنظر لأحداث العراق بعد عام 1963 يلمس أن رياح الشر تلك لم تكن تعبر الحدود لولا الأجواء الملائمة لها داخلها، كما أنها لم تكن شرورا بفعل خارج عن إرادة البشر، بل هي من صنع البشر وحياكته وصياغته وسباكته، بشكل يتلبس واقع الحال العراقي حسب تقلبات الظرف ومستجداته، ولاسيما بعد سقوط النظام السابق، فاضطرابات السنة الأولى بعد سقوطه لم تكن كاضطرابات عام 2005.. وكذلك اضطرابات عامي 2006- 2007 لم تكن كمثيلتها في الأعوام 2008- 2009- 2010.. والفرق ذاته بعد انتهاء الاحتلال وخروج آخر جندي امريكي من العراق في ديسمبر2011.. واللافت للنظر ان الاضطرابات لم تكن تتمحور بشخص قائد او سياسي بعينه، كما كان بعضهم ينحى باللائمة على رئيس الوزراء، ولو كان الأمر كذلك لانتهت الاضطرابات بانتهاء مهمته، لكنها أخذت قالبا آخر ونمطا ثانيا مع معطيات رئيس الوزراء اللاحق، وإن كان بعضها -الاضطرابات- قد خفت وتيرته، فإن بعضها الآخر ازداد حدة ونكوصا وخطورة وتداعيات، الأمر الذي إن دل على شيء فإنما يدل على عزم جهات -داخلية بالدرجة الأساس- للإبقاء على القلق والاضطراب في الساحة العراقية، سواء أكان المالكي حاكما أم العبادي أم من أخلفوهما!. وقطعا هذا لغاية في نفس يعقوب قضاها، ولو أسلمنا الأمر لتلك الجهات فإن نظرية ميل الطبيعة الى الاستقرار تكون معطلة في العراق وغير قابلة للتطبيق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات