يشغل الدستور مكانة محورية في الحياة السياسية لجميع الدول، فهو الآلية التي تحمي الحقوق وتحدد الواجبات والمسئوليات لأجهزة الدولة فضلا عن تنظيم العلاقة بين المؤسسات. ولا تستطيع أية دولة حديثة أن تعمل بصورة فعالة دون أن يكون لها دستور سواء كان مدونا او غير مدون. فالدستور يُجسد القيم والمبادئ التي ترتكز عليها الدولة، والأهداف التي تسعى لتحقيقها لصالح أبناء شعبها، والآليات المستخدمة لضمان تحقيق هذه الأغراض .
يعتبر الدستور من الناحية القانونية والسياسية اهم وثيقة تحدد مهام وصلاحيات الهيئات العليا في الدولة، والمقصود طبعا بالسلطات العليا هي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما يتضمن الدستور حقوق وواجبات المواطنين الاساسية، والاسس العامه لسياسة الدولة العامة الخارجيه والداخليه ، هكذا اذن تبدو اهمية الدستور من الناحية القانونية، ولهذا نجد ان صياغة وثيقة الدستور تأخذ اهمية بالغة في المرحلة المقبلة من التطور السياسي. من هذا المنطلق فان أي كلمة او لفظ يرد في الدستور يجب دراسته بدقة خصوصا اذا كان المراد لهذا الدستور ان يبقى نافذا لفترة طويلة من الزمن خصوصا اذا كانت عملية تغيير الدستور معقدة كما هو الحال في الدستور العراقي الحالي .
مما يثير الاسى ان ابسط قرأة للدستور العراقي الحالي الذي تم التصويت عليه وتمريره بالاستفتاء الشعبي العام يحمل في طياته الكثير من المشاكل التي قد يتفاجاء البعض بوجودها والتي يصعب تعديلها او تغييرها ومن هذه المشاكل موضوع الطائفية السياسية والتي لاتقتصر فقط على موضوع شيعة وسنة فنصوص الدستور الحاليه تفرق بين المسلمين وغير المسلمين . وبغض النظر عن كل مايقال عن طبيعة الطائفية السياسية في العراق ، فلا يمكن ان ينكر احد ان تلك الطائفية موجودة حتى قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ، وتسللت الى الأساس والبنيان الذي تم على أساسه يناء الدولة العراقية مما حولها الى منظومة تخريبية تنخر في البناء المجتمعي . ومما يزيد المشكلة سوءا هي محاولة البعض بحسن نية او بسوء نية انكار وجود الظاهره الطائفية او التقليل من حجمها او اظهارها وكأنها وليدة ما بعد 2003 . وينسى هذا البعض ان الحكومة العراقية الملكية ، عندما أصدرت قانون الجنسية العراقية سنة 1924، قسمت العراقيين آنذاك إلى قسمين تبعية عثمانية وتبعية إيرانية. حيث اعتبرت الحكومة التبعية العثمانية مواطنين درجة أولى، والتبعية الإيرانية من الدرجة الثانية. كان من نتائج ذلك القانون تهجير حوالي مليون عراقي شيعي بحجة أن أصولهم إيرانية والقائهم على الحدود الإيرانية الملغومة إثناء الحرب، بعد مصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، وحتى وثائقهم الرسمية من شهادات دراسية وغيرها التي تثبت عراقيتهم، ويحجز عشرات الألوف من شبابهم وخاصة الكرد الفيلية، ليعدمهم فيما بعد بالجملة ويدفنهم في مقابر جماعية. بالإضافة الى شيوع الفاظ أصبحت متداولة ومنتشرة بين افراد الشعب تقسم العراقيين الى ” اهل الغربية واهل الشرجيه ” و ” عرب وشروك ” وغيرها من الالفاظ التي تحوى معاني مقززه . بل ان هذا التمييز الطائفي قد كان حاضرا حتى في المناصب القيادية في الدولة فعلى سبيل المثال من بين (69) حكومة تم تشكيلها في العراق منذ عام 1921 ولغاية اليوم كانت حصة الشيعة (9) روؤساء وزراء فقط ولم يتولى أي شيعي منصب رئيس الجمهورية الى اليوم . ومن بين (22) ضابطا تولوا رئاسة اركان الجيش العراقي منذ تاريخ تأسيسه الى اليوم كان عدد الضباط الشيعه (3) فقط ومن بين (89) وزير خارجية كانت حصة الشيعة (10) فقط . بالنسبة للقضاء فمنذ تأسيس محكمة التمييز العراقية لم يتولى رئاستها من الشيعة سوى قاضيين .
مما يؤسف له ان محاولة انكار وجود المشكلة في المجتمع أدى الى تسلل تلك المشكلة الى النصوص الدستورية فنجد ان ديباجة الدستور قد جعلت من كتابة الدستور ” َاسْتِجَابَةً لدعوةِ قِياداتِنَا الدِينيةِ وَقِوانَا الوَطَنِيةِ وَإصْرَارِ مَراجِعنا العظام ” مع تكرار الإشارة الى الطوائف العراقية من شيعة وسنة واكراد وغيرهم فهنا ديباجة الدستور تؤكد على البعد الطائفي للمجتمع ” شَعْب العراقِ الذي آلى على نَفْسهِ بكلِ مُكَونِاتهِ وأطْياَفهِ” غهذه الديباجة تهيئ الجو للمحاصصة الطائفية مستقبلا بدلا من علاج المشكلة الموجودة فعلا .
اما اذا اخذنا نصوص الدستور فنجد ان المادة (2) أولاً تنص على “الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع: أ- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام”. فهذه المادة تحمل في طياتها أولى فقرات الطائفية فهي تفرق بين العراقي المسلم والعراقي غير المسلم . اما المادة (3) من الدستور فهي تعترف صراحة بوجود عدة قوميات وأديان ومذاهب . ولو عرضنا هذه الفقرة على أي دستور في العالم ، لو اخذنا الدستور الهندي لسنة 1949 علي سبيل المثال حيث يوجد في الهند اكثر من اربعمائة لغة والمئات من الطوائف والأديان نجد ان الدستور الهندي قد اكد على لغة واحدة هي اللغة الهندية عدا المحاكم التي تم اعتماد اللغة الإنكليزية اللغة الرسمية فيها . كما ان الدستور ذكر موضوع الدين في مجال ” حظر التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطائفة أو الجنس أو مكان الولادة ” .
اذا عدنا الى الدستور العراقي نجد ان الدستور قد احتوى نصا يكرس الطائفية في البلاد وهو نص المادة (9) أولاً الذي يقول “أ- تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييزٍ أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون أداةً لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة”. فهذا النص يؤكد على ضرورة وجود “توازن ” بين المكونات داخل المؤسسة العسكرية . بمعنى اخر انه يجب تحديد “حصص ” لكل من المكونات بما يتناسب مع حجمها السكاني وتعدادها في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية .
مما تقدم نجد ان موضوع الطائفية الذي كما ذكرنا سابقا موجود قبل ان تتكون الدولة العراقية الحديثة قد تسلل الى الدستور العراقي متسترا بالنوايا الحسنة او السيئة التي حاولت انكار وجوده . ولكن هل اقتصر الموضوع على النصوص الدستورية فقط ؟
الجواب هو كلا ، فقد اصبح هناك عرفا غير مكتوب واتفاق بين القوى السياسية على تقاسم السلطة بحسب المكونات والطوائف فرئاسة الجمهورية أصبحت “حقا ” حصريا للكورد ورئاسة مجلس النواب “حقا” حصريا للسنة بينما رئاسة مجلس الوزراء فهي “حقا ” حصريا للشيعة . كما تم تقسيم الوزرات الى وزارات سيادية ووزرات خدمية ويتم توزيعها بحسب المكونات بغض النظر على الاختصاص والكفاءة فلم يعد عجيبا ان نجد مهندس حاسبات وزيرا للعدل او خريج لغات وزيرا للمالية المهم هو سد حصة المكون . بل وصل الاتفاق على توزيع الحصص الى الدرجات المتوسطة بعيدا عن معيار الكفاءة والاختصاص .
ان الغاية من هذا الاستعراض هي بيان عمق المشكلة والتاكيد على ان محاولة التغطية على المشكلة الطائفية تحت شعارات اللحمة الوطنية والدولة المدنية والاخوة لن يؤدي الا الى تعميق المشكلة وجعل نتائجها اكثر سوء . يجب على من يريد التصدي لهذه المشكلة ان يعترف بوجودها وبعمقها من اجل خلق حالة من المكاشفة بين مكونات الشعب وخلق وعي جماهيري ان من يريد المحافظة على العراق يجب ان ينظر الى جميع العراقيين بميزان واحد ، ويعترف بان هناك من مكونات الشعب من عانى اكثر من غيره وان له استحقاق لتعويضه عما عاناه في الماضي .