18 ديسمبر، 2024 11:21 م

السرديات الكبرى وسرديات الضد.. إرهاصات ما بعد الحداثة في أدب احمد خلف

السرديات الكبرى وسرديات الضد.. إرهاصات ما بعد الحداثة في أدب احمد خلف

رواية مابعد الحداثة إحدى نتاجات التغير الحضاري والفكري الذي طرأ على المجتمعات الإنسانية في الخمسين سنة الماضية، وهي عملية تمترس لجيل ما بعد اليقينيات اتجاه الأفكار والنظم الاجتماعية التقليدية والنظريات الكبرى. وقد عرفتها الناقدة الجزائرية النية بوبكر (هي الرواية التي تخلّص فيها الإنسان من هيمنة السرديات الكبرى، واستبدلها بسرديات صغرى مرحلية ومؤقتة، وأدى ذلك إلى دمقرطة الرواية، حيث أصبحت الرواية فضاء حرا ومفتوحا على التجريب والتجديد شكلا ومضمونا، مما أدى إلى بروز أساليب جديدة مهيمنة كالتشظي والتهجين والمحاكاة الساخرة والميتاقص، بالإضافة إلى أساليب أخرى)1.
لكن على الرغم من هيمنة المفاهيم المابعد حداثوية على الرواية العربية لم يستطع السارد العربي من التخلص من رواسب الدين والتاريخ والتراث والانسلاخ عن سردياته الكبرى التي شكلت ثقافته الحتمية، وتعكز عليها مجتمعه، فقد شكلت هذه الثلاثية هرماَ بنيويا تغلغل إلى أدق تفاصيل حياة الإنسان العربي، وخالط تصوراته ورؤاه عن سرديات كبرى أخرى، هي انعكاس بديهي لتعالقه مع هذا الموروث الديني والفكري، فالفكر الذي ينطلق منه السارد العربي نحو القراء هو جزء من موروث ثقافي متصل لم يشهد أي عملية فك ارتباط في أي محطة من محطاته، بعكس عما حدث في الغرب إبان عصر النهضة الصناعية وعصر التنوير. فقد بقي الفكر العربي لقرون طويلة أسير تراثه وعجز إن إنتاج سرديات كبرى جديدة بإمكانها أن تبلور لمجتمعاتنا العربية صيغ للحياة تكون قادرة على احتضان الإنسان وجعله القيمة الأسمى والهدف المركزي لها، والاهتمام بجزئيات حياته وإنتاج ثقافة مضادة للموروث الذي تسبب لكل هذا التخلف والنكوص عن ركب الإنسانية، ولم يبقى أمام النخب العربية من سرديات كبرى رئيسية، يمكن تداولها والخوض فيها أو التنظير لها غير الدين والتراث بعد تلاشي الفكر القومي وفكرة الوحدة العربية، وغياب المشروع الإسلامي الحضاري الموحد الذي يجمع المتناقضات في بوتقة واحدة ويواجه العالم المتحضر بنظرية دينية قابلة للتطبيق والتعايش بين المسلمين أنفسهم ومع الآخر. وقد صنف الناقد رايفين فرجاني السرديات الكبرى التي مرت بها البشرية إلى سبعة أقسام (الأدب، السينما، التصوير،المسرح، الألعاب، التاريخ، الخيال). أي انه حول الأدب والسينما والمسرح من عاكس ومعالج ومناوئ لتلك السرديات إلى منتج لها، ان مثل هكذا تصنيف ينم عن نظرة وجودية بحته لمفهوم السرديات الكبرى وطريقة التعاطي معها متجاهلا النظريات الأكثر تأثيرا في البشرية ومنها الأديان السماوية والوضعية والأيدلوجيات المنبثقة منها وعنها.

احمد خلف من الروائيين العرب الرواد الذين عاصروا زمن السرديات الكبرى الحديثة وإرهاصاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على العالم والمنطقة العربية، ورافق عن وعي ثاقب نشوء الثقافات المضادة لها، وانخرط في هذا المشروع المضاد كغيره من الشباب العربي المثقف الذي شهد زمن التحولات الكبرى في المجتمعات العربية أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلا انه بقي يعيش حالة ارتباط المشيمي مع تراثه العربي بكل تجلياته الدينية والفكرية والتاريخية، كون الذائقة الأدبية للبيئة الفعالة المحيطة به مازالت عالقة في هذا التراث، وتأثر بالأحداث الكبيرة التي رافقت مسيرته الأدبية من انقلابات عسكرية وثورات وحروب وانتكاسات غيرت الوجه العام للمجتمعات العربية وطرحت تحديات جديدة أمام الإنسان العربي المعاصر وانعكست نتائجها سلبا أو إيجابا عليه بصورة مباشرة.
في مجموعته القصصية الأولى ( نزهة في شوارع مهجورة) الصادرة سنة 1974 في قصة ( خوذة رجل نصف ميت) نجد ان احمد خلف قد انطلق من سردية كبرى وهي الحرب نحو سردية مضادة وهي تداعيات هذه الحرب على الإنسان العربي الذي وقع ضحية لها، الشاب الذي يعود من حرب عربية خاسرة بعوق جنسي، لايستطيع مواجهة زوجته الفتية به. قصة (المحطة ) يطرح لنا جدلية مثيولوجية أزلية رافقت البشرية منذ مهدها ولغاية الآن، حتى تحولت إلى سردية كبرى عند الكثير من الشعوب والطوائف الدينية وهي انتظار المنقذ، هذه السردية الكبرى التي أعطى لها الكاتب الايرلندي صاموئيل بكت حيزا كبيرا في مسرحيته ( في انتظار غودو ) نجد إن احمد خلف يعيد طرحها من منظور جديد، فبطله سلمان يجلس في المحطة كل ليلة بانتظار من يحمل شيء جديد له، شيء يمكن أن يغير بعض تفاصيل حياته، وينتشلها من رتابتها، ويحقق له بعض أحلامه، التي تمثل (سرديات صغرى)، لتنتهي القصة بنوع من الكوميديا السوداء. قصة نزهة في شوارع مهجورة ( قضية الموت والغواية ) تناص سردي مع هاملت ومشهد حفار القبور، الموت احد السرديات الكبرى التي شغلت البشرية الى وقتنا الحاضر ولم تستطع تجاوزها على إنها حتمية وجودية لابد الوصول إليها كنهاية مطاف لمسيرة أي فرد على هذه الأرض. جنازة محمولة على الأكتاف بطريقها إلى المقبرة أمام هذا المشهد الأسطوري المهيب، تنبثق سردية مضادة تتغلغل إلى النفس الإنسانية ورغباتها، حين تظهر فتاة، يقع في غوايتها احد المشيعين، مشهد هو اقرب الى المسرح منه إلى السرد أصوات مجهولة تقرر طريقة قتله كونه وقع بالمحظور، فوضى فكرية، وعبثية أبدية يدور في فلكها الإنسان المعاصر، في محاولته للبحث عن إجابات يقينية.
يشرح الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار الفرق بين السرديات الكبرى والسرديات الصغرى، (أن الأولى تقدم نفسها على أنها منظومة فكرية وقيمية عامة تفسر الطبيعة والمجتمع بصورة شمولية ونهائية وتنزع نحو الهيمنة والإقصاء، بينما توظف الثانية لإطلاق أحكام قيمة على أحداث منفصلة ومعينة ضمن إطار زماني ومكاني محدد، ولا تدعي لنفسها صفة الشمولية ولا النهائية المطلقة. فالسرديات الصغرى تسمح للباحث نقد وتقويض إدعاءات وتحيزات السرديات الكبرى، وتمنحه، في الوقت نفسه، الأدوات المعرفية لتحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية من دون “إنشاء تأويل تفسيري جديد” قد يتحول مع الوقت والأحداث إلى سرديات كبرى بديلة) 3.
في روايته (الحلم العظيم) الصادرة سنة 2009 والتي تناول فيها فترة حرجة في تاريخ العراق الحديث، تمثل ذروة الصراعات الأيدلوجية على المستوى الإنساني والمستوى العراقي الداخلي، وهي محاولة لفهم العلاقة بين الوعي والوجود في خضم التزاحم الفكري الذي كان سائداَ آنذاك. شاب مثقف يكتب القصة القصيرة، الذي لم يجد لها سبيلا للنشر في الصحف والمجلات، يعيش فوضى اجتماعية ونفسية مصاحبة لوعي استثنائي، يرافقه شبق جنسي غير منضبط، يفسر طبيعة هذه الشخصية القلقة ومعالمها، هذه الرغبة الجنسية العارمة، دفعته إلى أن يصبح عشيقا لزوجة أب صديقه المقرب، وحبيباَ لأخت ذلك الصديق في نفس الوقت، وعشيقا لجارتهم الجميلة، هذا الجموح قاده إلى الوقوع بالمحظور، حين أقدم على قتل زوج جارتهم الجميلة، طمعا بها، وبأموال الزوج المغدور، التي يخفيها في مكان ما في داره، كما أخبرته الزوجة الخائنة. كانت حركة البطل وأرائه وتصوراته الشخصية، عن الأحداث السياسية والاجتماعية الدائرة من حوله، تمثل وجه من أوجه الصراع بين الموروث القيمي بسردياته الكبرى، وبين سرديات صغرى تمثل، جموح النفس الإنسانية ورغباتها وتصوراتها عن الواقع المعاش، فقد كان البطل أنموذجا للمثقف الستيني، الذي عاصر أهم التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية، التي مر بها العراق الحديث، وتأثر بالفلسفات الوجودية والمادية والجدلية التشكيكية، والأفكار التحررية القادمة من الغرب ( أفكار وتحولات ما بعد الحداثة) والتي هيمنت على الفكر الإنساني آنذاك، واعتنقها معظم الشباب العراقي في تلك المرحلة، كما في حديث البطل مع نفسه في إحدى المشاهد الصامتة (أنا أفكر فانا موجود، ليس ديكارد أفضل مني حين يفكر جادا انه موجود، من خلال التفكير الذي يميزه عن الحيوان).. كان هذا البطل يعيش صراعا فكريا ونفسيا حادا، بين ما يمكن أن يمثله من قيم وأخلاقيات إنسانية سامية، من خلال نشأته وموروثه البيئي وما يكتبه من نصوص قصصية، وبين حياته العبثية المنقسمة على نفسها، في فوضى العلائق المحرمة، وحب لا يجد له طريق، بين ركام الغرائز المحاط بها، لذا كانت الإشكالية الكبيرة التي يعانيها هي : عن ماذا يكتب ؟ ولمن ؟ وكيف؟ وهل يحق له الكتابة عن المثل العليا ؟ ..( عن أي شيء تريد الكتابة، ومن اجل من سوف تسود الصفحات الطوال ؟ عن الحبيبة المستحيلة أم عن الزوجة الخائنة ؟ وهل لك مقدرة على ترك مئات الناس الذين يتضورون من الجوع والآلام والاضطهاد أيضا ؟ مع من سوف تقف؟).
كان هذا الصراع يتجسد في النص، عبر حوارات ومشاهد صامتة، ومنولوجات داخلية، يعيشها البطل بمعزل عن محيطه البيئي، في عملية بحث مضنية عن ذاته، جدوى وجوده، وماذا يريد، لتشكل هذه التداعيات ردة فعل سلبية لديه، عن حياته الفوضوية وواقعه الاجتماعي المزري، الذي ظل يبحث عن وسيلة ناجعة للخلاص منه ( واحسرتاه على أيامي الضائعة، في هذه الطرق المغبرة، والأزقة المليئة بالبرك الأسنة، بالمياه، والبيوت التي يكاد بعضها يتهدم ). الحلم العظيم هي رواية الأسئلة المحيرة والمفتوحة على المجهول، وهذا الأسلوب قد اعتاد عليه احمد خلف في معظم نصوصه السابقة، فهو يعمد على إشراك القارئ بصورة فعلية في أن يجد حلول للإشكاليات التي يثيرها نصه، وفق نظرة حداثوية لبناء نصه الروائي، الذي يبقى مفتوحا إلى مديات تتجاوز إنهاء قراءته، لذا نجد أنفسنا كقراء، أمام أسئلة بحاجة إلى أجوبة بقدر أهميتها وهي:
هل كان الحلم العظيم، هو حلم البطل المؤلف بان يصبح كاتبا مشهورا يشار إليه بالبنان ؟ وهناك مؤشرات تشير إلى هذا المنحى، وهو سعيه الدءوب الذي وظف له كل إمكانياته الفكرية والثقافية، ليصبح كاتبا مشهورا، حتى أطلق عليه الروائي اسم (المؤلف).. أم إن الحلم العظيم، هو ذلك الكابوس الذي رافق طيلة النص، واحتل معظم مساحته، وشكل بعدا رابعا له، حين أقدم البطل المؤلف على قتل زوج عشيقته، طمعا بماله المخبئ ؟ فهل كل ما حدث هو مجرد وهم، وحكاية من وحي ألف ليلة وليلة ؟ كما في الحوار الذي دار بين البطل والزوجة الخائنة:
– ماذا تفعل لو كان الأمر كله مجرد حكاية ترويها لك امرأة مجنونة.
ضحك: – وما الذي يجمعني بالمجانين ؟
– لا اقصد مجنونة العقل . بل تهوى رواية الحكايات.
هذه التساؤلات جعلت من نهاية الرواية، تبدو عائمة مفتوحة نحو خواتيم حكائية أكثر اتساعا وتعقيدا، فقد مثلت الخاتمة بداية أخرى لحراك سياسي واجتماعي لا يختص بالبطل وحده، بل بالعراق بأكمله، كونها غضت الطرف عن الأحداث والمشاكل الاجتماعية الخاصة والشائكة التي خلفها البطل وراء ظهره، حين قرر الذهاب إلى معتقل مدينة الحلة، لرؤية أصدقاءه، ومعلمه الشاعر (مظفر النواب)، وبقيت جميعها معلقة وتتجه نهاياتها نحو المجهول، وأوكل احمد خلف للقارئ مهمة البحث عن مخارج منطقية لها ( لم يتوصل إلى قرار حازم بشان كل شيء يدور من حوله، هنا في هذا المكان، أو هناك في مدينة الحرية).
عرف ادوارد سعيد السرد على انه (تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزعات، وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته، بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه.. كما يصوغها، بقوة وفعالية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وإنهاج تأويله. ومن هذا الخليط العجيب، تُنسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تُمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا. وتدخل في هذه الحكاية، أو السردية، مكوّنات الدين، واللغة، والعرق، والأساطير، والخبرة الشعبية، وكل ما تهتزّ له جوانب النفس المتخيلة)4 .
في روايته ( نداء قديم) قدم لنا احمد خلف أنموذجا سرديا اخر امتزج فيه الماضي بالحاضر والواقع بالدين والأسطورة. تبدأ هذه الرواية القصيرة أو القصة الطويلة بمدخل فلسفي يغوص في أعماق الذات الإنسانية ، ويمهد لأحداث دراماتيكية سوف تطغى على المشهد العام للنص.. ( في أول المساء ، تحرك القطار وغادر بلدتنا النائية كعادته كل يوم، ثمة غيوم تحوم فوق رؤوسنا المشتتة البال، غيوم تتعدانا وتمضي إلى الناحية الأخرى، غيوم سود تخيم على يدي وأطراف جسدي، خفت أن تتساقط أطرافي واحدا اثر الآخر، كل شيء جائز ويمكن أن يكون، سأحتفظ بيدي إلى النهاية).. مشهد يصور سردية كبرى لأزلية الوجود وهي لحظة مغيب الشمس بكل ما يحمل هذا المشهد من تأثيرات سيكولوجية تبعث على الإحساس بالغربة والوحدة والوحشة والأفول، كونها نقطة الشروع للظلمة وتأثيرها على الفطرة البشرية بوجه عام، ليرتبط هذا المشهد المهيب بتحرك القطار مغادرا البلدة إلى أصقاع مجهولة لم يشر إليها الروائي، على الرغم من تكرار هذه الرحلة لعدة مرات في النص، قطار قادم من المجهول يتوقف عند بلدة نائية كما اسماها الروائي ، لا يُعرف مكانها، ويغادر إلى المجهول، نص سردي غاب عنه عنصري الزمان والمكان ، ارض افتراضية انبثقت من العدم يمر بها قطار المساء ويغادر مسرعا ، وكأنها رحلة الحياة وما هذه البلدة إلا محطة موحشة من محطاتها، التي قرر البطل السارد ان يحافظ بها على يديه حتى النهاية.
ويتكرر هذا الزخم من المفردات في ثنايا الرواية بشكل ملفت للنظر، ينم عن قصدية يكمن ورائها كاتب محترف يعرف ماذا يريد ان يقول، والى اين يسير بالقارئ، فنجد معظم الأشياء في هذه البلدة مسرح أحداث الرواية لها مدلولاتها المادية والنفسية، ( أسماء الأشخاص، القطار، النهر، الغجر).. كلها تمحورت حول حدث محوري استند عليه الروائي في بنائه الهرمي لنصه، وهو مقتل (يونس الغطاس) تلك الميتة الغامضة التي دارت حولها عدة فرضيات تركت مفتوحة دون الجزم بإحداها.
( يونس الغطاس) الذي حمل اسمه رمزية تعيش في حالة من التناقض مع نهايته المأساوية، حين افترض مقتله على يد امرأة غجرية تدعى (الحوت)، ووجد غريقا في نهر البلدة، هذه المقاربة المثيولوجية المستمدة من سردية كبرى، الدين والتراث نراها تتكرر كثيرا في كتابات احمد خلف ويوظفها بطريقة تخدم البعد الاجتماعي والإنساني والفلسفي ليثمة نصوصه، تجعل من القارئ في حالة تناغم معها ضمن اطر انتمائه الديني والعقائدي، يونس النبي الذي التقمه الحوت ونبذه في العراء ويونس الغطاس الذي ابتلعته المراة الغجرية (الحوت) وألقته في النهر، كما اخبر العجوز الغجري اهل البلدة.. (عندنا امرأة نسميها الحوت لكثرة ما ابتلعت من عشاق، عاشقها لا يستمر معها طويلا ، اما تراه يهرب من جورها الجنسي او يموت او يقتل).
في بلدة نائية يقرر مجموعة من الأصدقاء الانعزال عن سكانها في كوخ صنعوه لهذا الغرض، يقضون فيه أمسياتهم بمعزل عن عيون المتطفلين، فيختارون مكانا أكثر انعزالا ووحشة من بلدتهم ( البطل السارد، مزهر القصاب، زامل أبو الخواتم ، أيوب، حامد النجار، فاروق الأسود) ، هؤلاء الرجال حمل بعضهم رمزية لظواهر اجتماعية متناقضة، جمعهم الشعور بالضجر ، يقرر بعضهم الأخذ بثار صديقهم ( يونس الغطاس) من الغجر بعد أن طفت جثته على سطح النهر ، في مشهد يمثل انتقالة تكنيكية سردية قريبة من مفهوم (مسرح العبث) عبر حوارات مقتضبة بين أناس معظمهم مجهولي الهوية يتبادلون عبارات ذات مضامين فلسفية مبهمة ، تمثل جزء من ثقافة الضد وإشكاليات الإنسان المعاصر، وتساؤلات لا تنتظر الإجابة، وهم يقفون على ارض مجهولة ، على ضفاف نهر مجهول في زمن غير معلوم، انه الحوار لأجل الحوار، والتعبير عما يدور في خلجاتهم وانطباعاتهم عن ذلك المشهد المأساوي لجثة يونس الغطاس ..( لم تمض الجثة في سيرها البطيء أمام أبصارنا حتى انقلبت على ظهرها ثانية، ليكشف عن انتفاخ واضح وكدمات في جوانب متعددة من الجسد، مما أثار غضب الناس، وحرك هياجهم واستفز عواطفهم تجاه يونس الغطاس:
لا خير في نهر لا يحمي أهله.
وصاح صوت يجهش بالبكاء:
– نحن لا نخجل من أنفسنا.
وهنا يطرح الروائي نظرة مغايرة للمألوف، وجدلية يتقاطع فيها مع بديهيات أنتجتها الذاكرة المعرفية الإنسانية، ويسجل موقفا مختلفا (لسردية كبرى) لما عرف عن (النهر) الذي يعد مصدرا أزليا للخير والعطاء ومصدر من مصادر الحياة المهمة، ونشوء الحضارات الإنسانية، حين يصور لنا النهر رمزا للموت والخوف والغدر..( قال أيوب: كان يونس الغطاس يقول لي: أنا لا أحب النهر بل أخشاه إذا أردت الحقيقة.. النهر الساحر الملعون يغري البلهاء من الناس وأنا لست أبلها ). في روايته (محنة فينوس ) كان الأسطورة أساس لهرمية النص ومنطلقا مثيولوجيا يستمد وجوده من سردية كبرى، هي الإلهة والأساطير نحو سرديات صغرى تتعلق بمشاكل الإنسان العراقي المعاصر في ظل الحروب والانتكاسات والأزمات، وقد تحدث احمد خلف عن روايته هذه خلال لقاء صحفي نشره موقع إيلاف (هذه الرواية في الحقيقة استعارت من الأساطير الإغريقية مجموعة من الثيمات إشارات ودلائل عبر حبكات قصيرة استطاع المؤلف أن يبتدع بعضها ضمن افتراض خيالي في إنها حدثت لمجموعة من الإلهة الإغريقية ولكن توظيف الأسطورة في هذا العمل الروائي ليس من اجل كتابة رواية أسطورية، بل تم استخدام الأسطورة من اجل الرواية التي تعتمد اسطرة الواقع عبر الزمن بأبعاده الثلاثة تكون فيها حصة الماضي مختزلة بهيمنة الحاضر الذي يرشح مزيدا من الإشارات والعلامات التي تأخذ قارئ الرواية نحو آفاق جديدة غير ما أنتجه الماضي أو ما يدفع به الحاضر من إفرازات، لهذا.. فالرواية محنة فينوس بقدر ما هي ذات صبغة ماضوية فهي تستشرف المستقبل وتدين حاضرها بعد فضحها لماضي الأيام التي مرت وهي محملة بعذابات لا يحتملها جمل، عاشها الناس هنا في هذه الرقعة الجغرافية المباركة من العالم) 5 .

تميزت الرواية السبعينية في العراق، بسعة افقها، وتشعب القضايا التي تناولتها، وخروجها عن الحيز المكاني والأفق الأيدلوجي للبيئة المرافقة لها، وتعدد الأنماط السردية والفكرية التي تناولتها، كونها تماشت مع النهضة الفكرية والثقافية التي كانت تجتاح المحيط العربي آنذاك، وتوحد القضايا المصيرية التي تشغل الرأي العام فيه، بغض النظر عن الانتماء العرقي والديني والطائفي، و قد انعكس هذا على الوجه العام للأدب العربي، وتأثر به السرد العراقي بصورة كبيرة، فنجد معظم روايات تلك المرحلة طغى على وجهها العام النضوج في الطرح، وعمق القضايا التي تناولتها وشموليتها، وانشغالها بسرديات العرب الكبرى ( الوحدة العربية، لتنمية، القضية الفلسطينية، ومناصرة حركات التحرر في العالم الثالث) .. هذا التوجه خلق نوع من الوئام بين الكاتب ومجتمعه، فأنتج هذا الوئام، نصوص سردية يكون فيها البطل كمحصلة نهائية، في حالة تصالح مع بيئته، ويمتلك نظرة ايجابية اتجاه محيطه الاجتماعي، بعكس السرد الستيني الذي تميز بالعزلة الفكرية التي تفرض نفسها على البطل بسبب التباين الثقافي بينه وبين بيئته الاجتماعية، وانزوائه مع رؤاه وأفكاره الخاصة عبر ثقافة مضادة جعلت منه لا منتمياَ، إضافة إلى إن السرد في سبعينات القرن الماضي، تفرد بالحرص الشديد من الكاتب على أن يكون السياق العام للإحداث، ضمن نسق فكري مقيد بثوابت اجتماعية وسياسية لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها .. وتعد رواية ( الخراب الجميل) للروائي احمد خلف ، والتي كتبت بين عامي (1977- 1979) وصدرت عام 1981 أنموذجا متقدما لهذا النمط السردي في تلك المرحلة.. تناول فيها الروائي ثيمة تتلائم مع الانزياحات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي كانت تهيمن على العقل الجمعي العراقي، فاختار مجموعة من الصحفيين العاملين في مجلة حكومية ليشكلوا (البنية التكوينية للنص) كما عبر عنها الناقد لكولد هان.. ( محمود، مها، ليلى، يوسف، خالد)، هؤلاء النخبة المثقفة زجهم احمد خلف في مقتربات عاطفية وتقاطعات فكرية ونفسية، أنتجت نصا ناضجا غنيا بالدوال الحسية المفعمة بالأمل والتطلعات الجميلة والمنتجة، فكان الصحفي (محمود)، ابن العائلة البسيطة المهاجرة من الريف إلى المدينة، محور هذا النص والبطل الإشكالي، الذي يعشق أكثر من فتاة في آن واحد ( ليلى ، مها، جيني) ، ويعاقر الخمر بنهم، ويكرر تأجيل مشاريعه المهمة والمفصلية في حياته الأدبية والمهنية، والذي تربطه علاقة متذبذبة مع أسرته.. هذه الشخصية المستديرة ( الديناميكية) كما أطلق عليها (فوستر) ، هي شخصية نامية ثلاثية الأبعاد، تتميز بقدرتها على التطور في سياق الفعل، وغناء الحركة داخل العمل السردي، وقدرتها العالية على تقبل العلاقات مع الشخصيات الأخرى، فكان عشقه للمسرح وليلى، عاملان رئيسيان مؤثران في حياته، وفي تحديد ملامح سلوكه الاجتماعي وتعاطيه مع الآخر، أو كما عبر عنهما الناقد عبد الإله احمد (القوى الكبيرة المؤثرة في حركة البطل داخل النص)6 .. هذا العشق قد تماهى مع شخصيته الشجاعة والمغامرة والمعقدة (لا يمكنه أن يركز عند شيء معين ، كل شيء متغير ولا يستقر عند مرساة قط).. هذه الصورة المتغيرة التي يمتلكها البطل محمود عما يدور حوله ويحيط به ، خلقت نوع من التدرج الفكري والعاطفي لديه، فنجد انتقاله خلال سياق النص من إدانته لنفسه، إلى البحث عن حلول لهزائمه، وفق تسلسل حكائي تضامني، وقد انعكس هذا النسق السردي (التسلسل الموباساني) على أبطال الرواية الآخرين، فنجدهم قد وصلوا إلى نهاياتهم وتحددت مصائرهم، وفق أحلامهم ورؤاهم الشخصية وتطلعاتهم .. وقد زج احمد خلف نوع جديد من الصراع القيمي طرأ على المجتمع العراقي كنتيجة طبيعية لحركة التاريخ والتطور الحضاري والفكري الذي شهده العراق في تلك المرحلة، هذا الصراع بين السرديات الرئيسية الكبرى (الدين والعرف والموروث البيئي وعادات وقيم الريف) من جهة، والواقع المادي والحضاري للمدينة من جهة أخرى، الذي مثل ثقافة مضادة، تجسد في قرار (خيرية ) زوجة شقيق محمود بالعمل في أحد معامل الخياطة، هذا القرار الذي افرز هذا التباين والتقاطع بين قيم البيئتين، حين رفضت أسرة زوجها هذا القرار وحاربته بكل السبل، إيمانا منها بخطأ وكارثية هذا القرار على سمعتها، وعاداتها وأعرافها التي ما زالت متشبثة بجذورهم الريفية، التي ترفض مثل هكذا نوع من الاختلاط بين الرجل والمرأة.
ربما أنتج الحراك الشعبي في بعض البلدان العربية، والذي أطلق عليه (الربيع العربي) واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في ربيع 2003 شكلا من أشكال السرديات الكبرى التي غيرت في طبيعة النظم السياسية التقليدية العربية، وأفرزت واقعا سياسيا واجتماعيا جديدا، انعكست نتائجه على المواطن العربي سلبا أو إيجابا، وساعد هذا التغيير على ولادة أدبا جديدا، تمتع بفسحة وحيز اكبر للتعبير عن مشاكل الإنسان العربي وهمومه واحتياجاته، وبرز هذا النوع من الأدب في العراق بشكل ملحوظ بعد أن تخطى الأديب العراقي حاجز الممنوع والبوابات السوداء التي كانت تعيق أي عمل أدبي لاينسجم مع رؤى وتوجهات النظام الحاكم آنذاك، ونشأ بما يعرف (أدب مابعد التغيير) الذي أماط اللثام عن سوداوية الحقبة السابقة من تاريخ العراق الحديث، وتعامل مع الواقع الجديد بوعي وحرية مطلقة، في مواجهة الفساد والإرهاب والانفلات الأمني والفوضى التي أنتجها الاحتلال. وقد عبرت عن ذلك الناقدة سمية العزام (إن التعامل مع الواقع كما هو يحيلنا إلى التعامل مع النص بوصفه حدثًا نتجاوز معه التجريد والتنظير الماقبلي، وهو النص السرديّ العربيّ تحديدًا، بات في بعض اتّجاهاته، يتأثّث من الحالات الراهنة المفتوحة على التوقعات، ويرصد برامج سرديّة لحركات مطلبيّة لتجمّعات وجماعات من الحراك الشعبيّ المدنيّ تبتغي تحقيق مطالب معيّنة لا تحمل الطّابع الشمولي، ولا تنحو باتّجاه أن تتحوّل إلى أيديولوجيا ثابتة، وتاليًا، إلى سرديّة كبرى) 7. وهذا المنحى السردي يتجلى بشكل واضح في رواية (تسارع الخطى) الصادرة سنة 2014 فهي إشارة واضحة إلى حجم السوء الذي طرأ على المجتمع العراقي بعد الاحتلال بسبب الإرهاب والفساد الإداري والمالي والانفلات الأمني الذي شهده، تبدأ الرواية بصوت أنثوي، ينبثق من وحشة المكان، ورعب اللحظة التي كانا يعيشهما بطل الرواية (عبد الله)، وهو يعيش محنة الخطف من قبل أناس مجهولين لديه، كان الكلام قد حمل بعدا فلسفيا وإيحائيا عميقا، تجاوز ثقافة المتكلم والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها، ومستوى وعيه وإدراكه وفهمه، حتى يعتقد القارئ انه صوت صادر من عالم آخر، وليس من فتاة صغيرة تعمل خادمة في بيت الدعارة الذي احتجز فيه رهينة.. لكننا ندرك بعد حين، كغيرها من الفخاخ التي وضعها لنا الروائي، إن هذه الفتاة في إحدى صورها، ما هي إلا رمزية غارقة في التعقيد لشريحة واسعة من مجتمعنا تعاني الاستلاب، مغلوبة على أمرها، منقادة لأقدارها بصورة قسرية، تبحث لها عن متنفس لتطلق صرختها الاحتجاجية على كل ما هو قائم.. (أي خديعة قادك إليها أيها القدر مرغما ؟ كم من السنوات ضاعت وتلاشى بريقها الان ؟ في أي شارع أو زقاق منسي التقطوك وأرغموك على المجيء معهم..).
يسلط احمد خلف الضوء في روايته هذه على جزئية مهمة، تمثل احدى أوجه الثقافة المضادة، اتجاه مثل هكذا تحولات كبيرة وخطيرة في البنية السياسية والاجتماعية العراقية، وهي أزمة المثقف العراقي، حيث شكلت أزمة المثقف، النافذة الرئيسية التي أطلت بالقارئ على المشكلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عراق ما بعد 2003، عبد الله الفنان والكاتب المسرحي، كان يمثل رمزا للقوى الناعمة التي فقدت بوصلتها في خضم فوضى الشد والجذب بين، القوى السياسية من جهة، والإرهاب والفساد من جهة أخرى..( إذن أنت المسرحي الذي يحرص البعض منا على العثور عليه، ماذا تقول في مسرحياتك؟ هل تتحدث عن النساء الجميلات؟ أم عن التجار المفلسين؟ وعن حرامية الكهرباء؟ عن أي شيء تتكلم في مسرحياتك؟ أم تتحدث عن الخطف والاغتيال وسرقة المال العام؟ ).
وهذا المنحى السردي نجده حاضرا أيضا وبقوة في روايته (الذئاب على الأبواب) الصادرة سنة 2018 . نص يخاطب الضمير الإنساني ويسلط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث، أراد من خلاله أن يبين احمد خلف حجم المأساة التي عاشها بطله والذي يمثل أيقونة لشريحة مهمة من الشعب العراقي عاشت محنة الفوضى بعد الاحتلال الأمريكي، مستعينا بأكثر من راو ليغطي تلك المساحة الكبيرة المفتوحة على الفوضى والقتل والخوف والفساد بكل أنواعه وأشكاله.
كان يوسف النجار بطلا إشكاليا حسب تصنيف ( لوكاش) 8 . يعيش الماضي والحاضر برؤية هي اقرب إلى الهذيان في بعض محطات حياته، لكنها اتسمت بالغالب بوعي قائم رافض لكل ما هو حوله، استطاع من خلاله البطل تشخيص كل مواطن الخلل التي أدت إلى هذا التداعي والسوء في الوضع العراقي، فقد جعل احمد خلف من بطله شماعة علق عليها آرائه وتصوراته عن الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي العراقي الحالي، وانتقد الوضع الذي نشئ بعد الاحتلال الأمريكي بجرأة ومصداقية عاليتين، وهذا هو دور الأدب الحقيقي في الحياة، كما عرفه المفكر الفرنسي فرنسيس ايغلتون( بوصفه أيدلوجية واعية تعمل من اجل إعادة بناء النظام الاجتماعي في سنوات التمزق الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والاضطراب السياسي الذي يلي الحروب)9. يوسف النجار المواطن العراقي صاحب التاريخ المليء بالمفارقات الاجتماعية، ورب أسرة صغيرة تتكون من زوجة وابنة، وجد هذا الشخص نفسه وحيدا بعد أن فقد أسرته بتفجير منزلهم من قبل مجموعة مسلحة مجهولة، ثم ما لبث أن أصبح مطاردا من قبل تلك المجموعة المسلحة لأسباب غامضة ومجهولة، يجبره هذا الوضع الشائك على العيش بطريقة متخفية متوجسا من كل ما حوله حتى (عبير) المرأة الأربعينية التي ظهرت في حياته فجأة والتي كانت تمثل ذكرى من حياة جامعية جميلة مرت به قبل عقود.
هذه المتوالية الحياتية الصعبة في حياة هذا المواطن العراقي استثمرها احمد خلف ليفتح فوهة قلمه على كل ما هو سلبي في المشهد العراقي القائم، حتى استطال نصه إلى أكثر من ثلاثمائة صفحة كان معظمها يمثل نظرة أحادية بنيوية ناضجة، فككت الوضع العراقي وشخصت مواطن الخلل فيه بوضوح.. ليُنهي روايته الماراثونية بان يختار لبطله المواجهة مع أعدائه المفترضين بديلا عن التخفي والهروب، في مشهد دراماتيكي تُرك مفتوحا عائما على عدة احتمالات وتوقعات، غير إن هذه النهاية تشير إلى أن (الذئاب على الأبواب) قد استنزفت من الروائي الكثير على الصعيد النفسي والعاطفي، وأجهدت مشاعره وأحاسيسه ككاتب كبير يحمل مسؤولية تاريخية اتجاه قلمه وبلده (تيقن من وضع سلاحه تحت طيات ثيابه قام بفحص السلاح الناري قبل الهبوط نحو الأسفل تأكد من وجود أطلاقات داخل السبطانة أعاد مسدسه ورتب هندامه، أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين استجابة لتحديهما العنيد). هذه النبوءة لأحمد خلف بأن المواجهة قادمة لا محال بين القوى الناعمة والطبقات الفقيرة من الشعب العراقي التي تنشد العدل والإصلاح، التي تمثل ثقافة الضد، وبين قوى الفساد التي تسترت بلباس الدين والوطنية.
كانت رواية (موت الأب) الصادرة سنة 2002 هي المؤشر الحقيقي لقدرة أدب احمد خلف على التعاطي مع السرديات الكبرى المؤثرة على مجتمعه، وطريقة التصدي لها، بطرقة غير مباشرة، اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن هذه الرواية كتبت في زمن النظام السابق ولم ترى النور إلا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لذلك كان احمد خلف ذكيا في التعبير عن مشاكل مجتمعه آنذاك، بطريقة تنم عن امتلاكه لسعة أفق كبيرة، وإخضاعه البنية الاجتماعية العراقية في زمن الحروب والحصار الاقتصادي وتداعي مفهوم الدولة إلى مشرطه الفكري والمعرفي، وقيامه بعملية تشريح دقيقة للكم الهائل من المشاكل السياسية والاجتماعية والنفسية التي نخرت المجتمع العراقي كنتاج طبيعي للحروب والأزمات التي لازمت تاريخ العراق الحديث، وقيامه باستشراف المستقبل عبر نبوءة سياسية خطيرة كان تحتاج للبوح بها إلى شجاعة كبيرة من قبل الروائي، وهي اقتراب نهاية النظام الحاكم، فقد كانت دلالة الطائر الأسود في الرواية، تشير إلى نذر الحرب التي كانت تلوح في أفق العراق وبداية النهاية للرئيس، والعم نوح إشارة إلى القوى الوطنية التي سحقها النظام ، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن هذه الرواية كتبت بين عامي (1995-2000) كان فيها العراق على شفا حرب مدمرة وحصول تداعي كبير في البنية الاجتماعية والسياسية له، حتى أطلق الروائي على هذه الفترة (بزمن الحيوانات)، في حوار بين الابن وصديقه (لقد عشت معه زمن يليق بالحيوانات)، وفي موضع آخر ( ستكون شاهدا على زمن الحيوانات)، إشارة إلى حالة التدجين القسري التي مورست على الشعب العراقي آنذاك.
أخذت السرديات الكبرى الرئيسية ( الدين والأسطورة والتراث) حيزا كبيرا من أدب احمد خلف، من خلال (الأسماء، الاستعارات اللفظية، المقاربات القصصية، التناص المعرفي للشخصيات) وهذا أمر طبيعي، كون لا يمكن تجريد الكاتب من محيطه البيئي والديني الذي يفرض نفسه عليه، فقد قام باستحضارها برمزيتها التاريخية وإسقاطها على الواقع المعاش بطريقة بنيوية تفكيكية، تتغلغل إلى أدق تفاصيل حياة الإنسان المعاصر، ليشكل منها سرديات صغرى تعنى بالإنسان ووجوده.

احمد عواد الخزاعي

 

 

 

 

المصادر :

1- رواية مابعد الحداثة وبدالاتها السردية (مقال) \ الناقدة الجزائرية النية بوبكر.
2- السرديات الكبرى: التجليات الثقافية الأهم في مسيرة البشر عبر التاريخ (مقال) \ رايفين فرجاني.
3- حالة مابعد الحداثة (كتاب) \ فرانسوا ليوتار
4- الثقافة والامبريالية (كتاب) \ ادوارد سعيد
5- احمد خلف صرح سردي للعذابات العراقية \ لقاء عبد الجبار العتابي \ موقع ايلاف
6- نشاة القصة وتطورها في العراق (كتاب) \ عبد الاله احمد
7- من السرديات الكبرى الى السرديات الصغرى تصور مغاير (مقال) \ الدكتورة سمية عزام.
8- الرواية التاريخية (كتاب) \جورج لوكاش
9- نظرية الادب (كتاب) \ تيري فرنسيس ايغلتون