كثيرة هي الدلالات والمؤشرات والقراءات التي انطوت عليها الزيارة الاخيرة للرئيس الفرنسي ايمانؤيل ماكرون للعراق، وما تخللها من تصريحات ومواقف وتعهدات، لايمكن التعاطي معها على انها جزء من الاستهلاك السياسي والتسويق الاعلامي الاني، بل لابد من تحليل مجمل معطياتها من زاوية استراتيجية عميقة، ربما لاتقتصر على العراق فحسب، وانما تمتد الى ما هو اوسع، لاسيما وان الزيارة جاءت ضمن جولة شملت لبنان، التي كان ماكرون قد زارها بعد وقوع انفجار مرفأ بيروت مباشرة في الرابع من شهر اب-اغسطس الماضي.
ولاشك ان اي قراءة او تحليل للحراك والتوجه الفرنسي نحو المنطقة، ينبغي ان يأخذ بنظر الاعتبار عدة امور، حتى ترتكز الرؤية العامة على ارضية واقعية، ومن هذه الامور، ان فرنسا تعد من الناحية التأريخية احد القوتين العالميتين الكبيرتين الى جانب بريطانيا، قبل ان تتغير الحسابات والمعادلات لصالح الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي السابق، بعد الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي، بيد انها-اي فرنسا-بقيت تحتفظ بقدر كبير من تأثيرها وحضورها ومكانتها، كعضو دائم في مجلس الامن الدولي، وكقوة سياسية واقتصادية متقدمة في الساحة الاوربية.
الامر الاخر، هو ان باريس، ربما تشعر بأنها لفترة غير قصيرة من الزمن انزوت ونأت بنفسها، في وقت راحت قوى كبرى، مثل الولايات المتحدة الاميركية تكرس وجودها ونفوذها وهيمنتها في كل مكان، وبسبب سياساتها العدائية والعدوانية، باتت الولايات المتحدة مرفوضة على نطاق عالمي واسع، لذلك فأن مبادرة قوى اخرى لاستعادة بعض الادوار وتعزيز قدر من الحضور، يبدو مناسبا ومتاحا الان اكثر من اي وقت مضى، خصوصا اذا لم يكن ذلك الحضور ذي طابع عسكري استفزازي.
اختيار الرئيس ماكرون كل من بيروت وبغداد كمنطلقات ومحطات اولى في اطار الحراك الدبلوماسي والسياسي الفرنسي على المنطقة، لم يكن اعتباطيا وعفويا، بل انه على ما يبدو خضع لحسابات دقيقة، ارتبطت بقراءة وتقييم حجم العداء والمشاعر السلبية على الصعيدين السياسي والشعبي حيال واشنطن، فضلا عن انطباعات راسخة بوجود فارق كبير بين منهج واشنطن ومنهج باريس في التعاطي مع مختلف القضايا والملفات، رغم تبعية وانسياق الاخيرة وراء الاولى في مراحل ومنعطفات عديدة.
ربما جاء ماكرون ليعزز الانطباعات الايجابية ويبدد الانطباعات السلبية، تمهيدا لتعزيز الحضور واستعادة الادوار في ساحة اقليمية شائكة ومعقدة وحافلة بالتقاطعات والاختلافات والصراعات، مع التأكيد والتذكير بأن مسيرة العلاقات العراقية-الفرنسية تعود الى عقود سابقة من حقبة نظام حزب البعث المنحل، وتواصلت بعد سقوط ذلك النظام بخط بياني متذبذب وغير مستقر، اخذ يتضح ويتبلور نوعا ما خلال الاعوام الثلاثة المنصرمة، بزيارات رفيعة المستوى، ابتدأها الرئيس السابق فرانسو اولاند بزيارة اولى في شهر ايلول-سبتمبر من عام 2014، اي بعد اجتياح تنظيم داعش الارهابي لعدة مدن ومناطق عراقية، ليؤكد التزام بلاده بمساعدة العراق في محاربة ذلك التنظيم، ومن ثم زيارة ثانية مطلع عام 2017، في الوقت الذي كانت القوات العراقية قد استعادت زمام المبادرة ونجحت بألحاق هزائم كبيرة بداعش. وهذا يعني ان زيارة ماكرون الاخيرة كانت الثالثة لرئيس فرنسي الى العراق في غضون ثلاثة اعوام، ولم يحصل ان قام زعيم دولة اوربية غربية، ولاحتى اي دولة-بأستثناء ايران-بذلك الكمّ من الزيارات الرسمية رفيعة المستوى.
وما تجدر الاشارة اليه هو ان زيارة ماكرون لبغداد، استبقتها زيارتين، الاولى لوزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في تموز-يوليو الماضي، ومن ثم زيارة وزيرة الدفاع فلورانس بارلي اواخر شهر اب-اغسطس الماضي.
ولعل مشهد زيارة ماكرون لبغداد، كان ملفتا وحافلا، من حيث طبيعة الاستقبال الرسمي وتعدد اللقاءات والاجتماعات مع رؤساء السلطات الثلاث وزعماء القوى والتيارات السياسية المختلفة، فضلا عن ما تحدث به وطرحه من مواقف وتوجهات ازاء العراق، وكل ذلك كان مختلفا تمام الاختلاف عن الزيارات التي قام بها كبار المسؤولين الاميركان للعراق، وفي مقدمتهم الرئيس دونالد ترامب، الذي جاء قبل اكثر من عام ونصف خلسة بعد منتصف الليل، وبطائرة مطفأة الانوار، ولم يأت الى بغداد ولم يلتق بأي من الساسة والقادة العراقيين، واكتفى بلقاء سريع مع بضعة مئات من الجنود الاميركان في قاعدة عين الاسد العسكرية بمحافظة الانبار!.
الى جانب ذلك، فأن تصريحات الرئيس الفرنسي انطوت على رسائل ايجابية مطمئنة الى حد ما، وقد كان بعضها –بحسب بعض التحليلات- موجها لواشنطن، من قبيل تأكيده على ضرورة تمتع العراق بكامل سيادته الوطنية بقوله، “إنّ المعركة من أجل سيادة العراق أساسية، وهناك قادة وشعب مدركون لذلك ويريدون أن يحددوا مصيرهم بأنفسهم، وان دور فرنسا يكمن في مساعدتهم على ذلك”، كذلك ابدى ماكرون استعداد بلاده في دعم مشاريع التنمية والاعمار في العراق، ومساعدته في تجاوز التحديات والمشاكل الاقتصادية والتنموية التي يواجهها.
قد يكون من غير الصحيح الاستغراق في التفاؤل والحماس للخطوات والمبادرات الفرنسية، لان حسابات ومصالح دولة مثل فرنسا ليس بالضرورة ان تأتي منسجمة ومتوافقة مع المصالح الوطنية العراقية او مصالح دول المنطقة، بيد انه في ذات الوقت من المهم جدا بالنسبة للعراق الانفتاح على مختلف الاطراف الاقليمية والدولية، لاسيما صاحبة التأثير الكبير، مثل الصين وروسيا وفرنسا وايران وغيرها، للاستفادة من مختلف التجارب والامكانيات، وللحد من النفوذ والهيمنة الاميركية وعدم رهن البلاد واخضاعها لمصالح ومزاجيات واهواء واشنطن التي غالبا ما تكون خلاف المصالح الوطنية، وهذا ما اثبتته واكدته التجارب السابقة، وتؤكده وتثبته مجمل المواقف والتوجهات الراهنة.