شعرت برعب حقيقي عندما سمعت هذه القصة المأساوية، مهاجر عراقي صدق الأكاذيب التي نسمعها ونقرأها كثيراً عن العودة الكريمة والتعويضات والأمتيازات للمهاجرين عن سنوات القهر والحرمان التي لاحدود لها للذين يعودون من منافيهم الى الوطن، خلال زيارتي الأخيرة الى العراق أقسم لي صديق عمري الذي أثق به كثيراً منذ كنا أطفالاً وحتى اليوم وقد تجاوزنا الخمسين من عمرنا، قال أنه شاهد بعينه التي سوف يأكلها الدود بأن فلان الفلاني أستلم أكثر من 100 مليون دينار عراقي عداً ونقداً من مصرف الرافدين وأستعان به لنقل هذه المبلغ الكبير بأكياس نايلون الى بيته، نعود الى قصة صاحبنا المأساوية، هذا المسكين صدق هذه الأخبار فحمل زوجته وأطفاله وعاد الى الوطن، نزل لأسبوعين ضيفاً في بيت شقيقه وكان عليه أن يستأجر بيتاً بسرعة بعد أن ضاقت زوجة أخية ذرعاً وبدأت تكز بأسنانها وهي تكتم غضبها وترسل لهم رسائل ناريه، وبدأ رحلة البحث عن بيت كبير يسعهُ وأطفاله الخمسة وفيهم ديكان مراهقان يخشى أن (يعوعيان) على حائط الجيران، فلابد أن يحسب حسابهما حتى لا يحصل ما لا يحمد عقباه، وبعد أن تقهقرت أحلامه الوردية أمام إرتفاع بدلات الإيجار، تنازل صاحبنا ليقبل ببيت صغير جداً (مشتمل) صار المهم أن يجد سقفاً لعائلته، سقفُ يحميه من الحر القائض والبرد اللاسع.
ربما يقول أحدكم، أذن أين (الدفاتر) التي جمعها هذا المهاجر خلال سنوات الغربة ؟!، صاحبنا يقسم بأغلظ الأيمان أنه لايملك أكثر من (نصف دفتر) هذه كل ثروته التي جمعها في المنفى، نعم كان يرسل الكثير من (الأوراق) الى والده ووالدته وأشقائه وشقيقاته خلال سنوات الحصار وكان يشعر بسعادة مفرطة لأنهم يفرحون بالورقة الواحدة أو الأثنين فرحاً غامراً ،وأستمر على هذا المنوال حتى عام 2003 ثم شعر فجأة بحدوث تحول مفاجيء لدى أهله في العراق، فجأة طلب منه أحد أشقائه أن يرسل فوراً (دفترين) وسيارة صالون وبالسرعة الممكنة، يقول صاحبنا أُصبت بالذهول لطلبه هذا ولم أجد جواباً في لحظتها، فصاحبنا لم ير في حياته (دفتراً واحداً) فكيف يرسل (دفترين) وهو لايملك سيارة مطلقاً، فكيف يُرسل سيارة الى شقيقه، بالطبع ليس لأن السيارات غالية الثمن، كان بإمكانه شراء سيارة مستعملة وبموديل قديم، لكنه تبقى تكاليف الوقود والضرائب والتأمين الألزامي وقطع الغيار وأجور التصليح وهي تكاليف مرهقه بالنسبة له، لاسيما وأنه غالباً مايكون عاطلاً عن العمل ويتلقى معونة الضمان الإجتماعي، لا أريد أن أطيل عليكم، عاد صاحبنا الى الوطن وذهب الى وزارة المهجرين والمهاجرين، يقول أستغربت من أسم الوزارة باديء الأمر، سألت مالمقصود بالمهجرين والمهاجرين، فقيل لي، المهجرون في الداخل والمهاجرون في الخارج، يقول كان إستقبال موظفي وموظفات وزارة الهجرة ودوائرها مشجعاً جداً، يتعاملون مع المراجعين بإحترام وتقدير كبيرين، هذه بداية جيدة (!) يقول سألت ماهي الحقوق التي سوف أحصل عليها بعد عودتي، فقالوا لي، سوف تحصل على أربعة ملايين دينار وشقة أو قطعة أرض وسوف نعيدك الى وظيفتك السابقة، ماذا أربعة ملايين فقط (!) ما أصنع بها ؟!، يقول هكذا رددت مع نفسي، ثم قلت لابأس سوف أحصل على رواتبي منذ فصلي من الوظيفة وحتى اليوم وهذا هو التعويض الحقيقي الذي سوف أحصل عليه، سألت الموظف في الوزارة التي أعمل بها، هل صحيح سوف أستلم رواتبي عن فترة إنقطاعي عن الوظيفة، قال نعم ولكن حتى يوم 9 نيسان 2003، لماذا ؟! قال هذه هي التعليمات !ماشي الحال، يقول حسبتها، يعني سوف أحصل على رواتب عشرة أعوام دفعة واحدة وهو مبلغ يكفيني لبداية حياة جديدة في الوطن !
لن أستغرق كثيراً في إسترجاعات صاحبنا العائد من المنفى، بإختصار لم يستلم المنحة البالغة أربعة ملايين دينار حتى اليوم وقد أنفق على المعاملة أكثر من هذا المبلغ بكثير حتى قبل عودته مع عائلته، أذ تطلبت المعاملة أن يحضر الى العراق ثلاثة مرات بالطائرة ذهاباً وأياباً، في كل مرة يقضي شهرين أو أكثر في مراجعة الوزارات ودوائر الدولة وصرف حوالي (1500 دولار) تكاليف للرحلة الواحدة (تذكرة الطائرة والمصروفات الأخرى)، يعني كما يقول المثل الريفي (فوق … جيلة ماش) والشقة الموعودة تحولت الى قطعة أرض في النهروان، الدلال قاله له، إنها لاتساوي قيمة الرسوم التي سوف يدفعها الى الدولة، موظف الحسابات في دائرته وبعد أن ظل لوقت طويل يتأمل سنوات خدمته بعد إحتساب سنوات الإنقطاع، قال له سوف أمنحك (المرتبة الرابعة)، المرتبة الرابعة !!! قال له (نعم .. هذا يعني أنك سوف تحصل على راتب أسمي 518 ألف دينار !)، ماذا، هل هذا كل شيء (!) قال الموظف (لا شلون ، هذا فقط الراتب الأسمي!) ثم سأله صاحبنا ومتى أستلم رواتبي، فكما تعرف أنا حالياً أعيش بدون مصدر دخل، قال الموظف (سوف نرسل معاملتك الى وزارة المالية حتى يعيدوا لك درجتك الوظيفية ويخصصوا لنا أموال حتى نستطيع أن نصرف رواتبك المتأخرة) يقول صاحبنا كانت تسحرني عبارة (رواتبك المتأخرة) التي كان يرددها الموظف دائماً، وكم ستأخذ وقتاً هذه العملية قال الموظف (ربما أربعة أو ستة أشهر) أذن لابد أن أصبر وأتحمل!
صاحبنا المسكين أُصيب بصدمة شديدة عندما أكتشف إنه كان ضحية أكاذيب ينشرها البعض، فالمقصود برواتبه المتأخرة هي أعتباراً من تاريخ مباشرته الوظيفة بعد العودة وليس من تاريخ فصله من الوظيفة أو مغادرته العراق، فما الذي تبقى أذن من إستحقاقات العودة الكريمة، تبخر ثروته التي عاد بها من المنفى (نصف دفتر) وهو ينتظر أن تُطلق وزارة المالية رواتبه منذ أكثر من عام، و مازال ينتظر أيضاً محافظة بغداد لتمنحه قطعة أرض في النهروان لا تساوي قيمتها في السوق الرسوم التي سوف يدفعها الى الدولة ولايستطيع البناء فيها ولاتتوفر لها خدمات أصلاً، مازال ينتظر منحة الأربعة ملايين أيضاً، الموظف يقول له(التخصيصات قليلة وأعداد المهجرين والمهاجرين كثيرة) وماعليه سوى مزيد من الإنتظار !.
لم تنتهي قصة صاحبنا عند هذا الحد وإلا لما أثارت إهتمامي وماكتبت عنه، فقد قرأت الكثير مما كُتب عن خيبات أمل مهاجرين عادوا من المنفى الى الوطن، ليس في قصة صاحبنا ما هو مثير ومأساوي حتى الآن، نعم أستعدوا لإستقبال المصيبة الكبيرة التي وقعت على رأس صاحبنا وحولته الى حطام وهو الآن شبه مجنون يجول في شوارع بغداد ويكلم نفسه، نعم تم أختطاف أبنه والعصابة طلبت منه (عشرين دفتر) ليطلقوا سراحه، قال له أحدهم(لك أبو التيسي فيسي تدفع عشرين دفتر لو تستلم أبنك من الطب العدلي!) لم يفهم معنى (التيسي فيسي) لكنه قال (ولكن عشرين دفتر مبلغ كبير لا أملكه) فرد عليه العصابجي (لك علينا مو ملينا أبو التيسي فيسي مو توك راجع من أوربا وأكيد عندك أكثر من مليون دولار، شيصير لو تدفع لنا الخمس، يعني حلل فلوسك) وأغلق سماعة الهاتف، وبعد مفاوضات شاقة تنازلت العصابة لتقبل ب (عشرة دفاتر) هرع أشقاؤه وشقيقاته وبعض الأقارب لمساعدته ولكن المبلغ كان أكثر من أمكانياته بكثير، ثروته (نصف دفتر) تبخرت ورواتبه المتأخرة لم يستلمها بعد، يبدو إن العصابة كانت في عجلة من أمرها ولم تنتظره طويلاً وهو يحاول إقتراض أو إستجداء مايستطيع من أموال، فخنقوا أبنه برباط ورموه بأقرب مزبلة، وفي اليوم الثاني وجده في الطب العدلي.
صاحبنا المسكين فقد عقله وهو حالياً يجول في شوارع بغداد دون وعي، يكلم نفسه ويردد دائماً بصوت مسموع ( ديروا بالكم لاترجعون !) وكأنه يخاطبنا نحن الذين نعيش في المنفى ونتطلع لعودة كريمة الى الوطن.