ليلة أمس أثارني منشور لصديقي ابو عمار الابراهيمي عبر صفحته على التواصل الاجتماعي يعمل خياطا بشحمة عيونه كما يقولون , ناذرا نفسه وماله كحال غيره لأحياء شعائر سيد الشهداء وبنيه , بالسماح لأقامه الشعائر الحسينية برغم جائحة كورونا وتكهنات الكثير ومراهنتهم على عدم قيامها هذا العام , إلا ان مظاهرها حزنها غزت مدن العراق جميعها متشحة بالسواد ونصبت منابر الخطابة وبنيت سرادقات الحزن وصدحت اصوات الرواديد بقصائد واللطم وانين النعي , وسُيرت المواكب الراجلة, ضمن الشروط التي وضعتها خلية الأزمة الصحية في البلاد وتوجيهات المرجعية العليا , وبذلك خسر المراهنون وخسأ الشامتون ممن أجزم استحالة أقامتها وحرمان المحب والعاشق من ثوابها :
أحضَر مجلِسَك يا حسين خلّيني خلها تجيبني الدمعة وتِوَدّيني
بجاه اختَك المسبيّة تساعدني خلّيني أحضَر وأرجوك سامحني
الحب الإلهي والذوبان في روحية حب الحسين عليه السلام يثير العجب , فجموع المعزين تتوافد على هذه المنابر لسماع المواعظ وتشارك في تعزية الزهراء على ولدها وفلذة كبدها, انحناءة رأس وتعظيم سلام لكم ايها المنادون ( أحنه غير حسين ما عدنه وسيلة والذنوب هواي كفته ثجيلة) , الناس تسارع الخطى للخدمة والبذل والعطاء ممزوجة ببكاء لا يسكن ودموع لا تجف تذكرت عند ذاك روايات ذكرتها في مقالي السابق (ما هكذا تورد الابل ياسعد السامرائي) , رواية أم سلمه (كيف ان جبرئيل أخبر رسول الله بما يجري على ولده , وبكاء فاطمة الزهراء عليه وكذلك أخبار أمير المؤمنين علي عليه السلام اثناء مروره بكربلاء في طريقه الى معركة صفين عما يجري على ولده صبرا يا ابا عبد الله ), وما يضيف لواقعة الطف شرفا ونبلا ان جبرئيل عليه السلام أخبر رسول الله محمد (ص) ان عزاء ولدك الحسين (ع) قد أقيم في عليين . أي شرف هذا وأي تضحية تلك وانت تصارع قوما لا يعرفون للخلق ذرة ولا للشجاعة موقفا ولا للأيمان قلب ولا للإنسانية طيب , ذلك المنظر المأساوي اللاصق بجبين العار في أمة الغدر والضغائن بقتل ابن بنت نبيهم , الذي اصر على مواجهة حتفه بعد ان أستجاب لدعوة الناس اليه في الكوفة لأنفاذهم من براثن غدر يزيد وسلطة القهر والظلم التي حكم الناس بها :
فيا عاشوراء أوقدت في من الحزن نيرانا مدى الدهر لا تخبو
وقد كنت عيدا قبل يجني بك الهنا فعدت قذى الأجفان يجني بك الكرب
حزم أمره وشد رحاله مع ثلة طيبة من أهله ومحبيه مودعا اهل المدينة مخاطبا بني هاشم ) وَ مِنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ سَلَّمَ. خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَ خُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالٍ يقتطعها عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وكربلاء، فَيَمَلَأْنَ مِنِّي أَكْرَاشاً جَوْفاً وَ أَجْرِبَةً سُغْبا ، لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ. رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أهل البيت نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَ يُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ، لَنْ يَشُذَّ عَنْ رسول الله(صلى الله عليه واله) لَحْمَتُهُ، وَ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدُسِ، تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ وَ يَتَنَجَّزُ لَهُمْ وَعْدُهُ. مَنْ كان باذلاً فينا مهجتَه، وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا؛ فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى”اما بعد فان من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح )وبذلك فقد بلغ رسالته لمن تخلف عن صحبته وتعذر عن نصرته , ثم واصل مسيرته الى مكة ومنها الكوفة والى كربلاء , (نقل الشيخ الشريفي في كتابه كلمات الامام الحسين(ع) ما يلي: وهناك رواية عن ابى مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبى انه قال: وساروا جميعا الى ان اتوا الى ارض كربلاء وذلك في يوم الاربعاء فوقف فرس الحسين عليه السلام من تحته فنزل عنها وركب اخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة ولم يزل يركب فرسا بعد فرس حتى ركب سبعه افراس وهن على هذا الحال فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب. قال: ما يقال لهذا الأرض؟ قالوا: ارض الغاضرية. قال: فهل لها اسم غير هذا. قالوا: سمى نينوى. قال: هل لها اسم غير هذا قالوا: تسمى بشاطئ الفرات. قال: هل لها اسم غير هذا. قالوا: تسمى كربلاء. فتنفس الصعداء قال: (ارض كرب وبلاء، ثم قال: قفوا ولا ترحلوا منها فهاهنا والله مناخ ركابنا، وهاهنا والله سفك دمائنا، وهاهنا والله هتك حريمنا، وهاهنا والله قتل رجالنا، وهاهنا والله ذبح اطفالنا، وهاهنا والله تزال قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ولا خلف لقوله( , ان ثورة الحسين عليه السلام كانت بحكم العزيمة التي يمتلكها بعد ان تمادى يزيد بغيه واستفحل ببطشه وخرج عن ملته ودخل في حكم هواه , وتهديم اسس المرؤة ومبادئ الاسلام وتعاليم نبيه ليحيلها الى مملكة وامارة يستعبد الناس وهم احرار , برغم قلة امكانياته وعدد ناصريه الذين يقول عنهم الامام السجاد لا يبلغون العشرون ناصرا ومحبا , الا ان الإرادة لن تضعف والشجاعة لن تخور والايمان لن يتزحزح فسلاح المؤمن قوة ايمانه بالله(ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم) فالإصلاح منهاج وتضحيات وسلوك لم تغب عن قائد الثورة وربان سفينتها وهو ابن علي بن ابي طالب (ع) , بأشد الظروف التي مر بها بمعية الابرار من اصحابه الذين بذلوا مهجهم دونه وايتموا العيال .الحسين عليه السلام يوم كربلاء مارس طاقة العزة لان من عرف نفسه فقد عرف الله ( عندما قال إلا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت وانوف حمية ونفوس ابية ان تؤثر طاعت اللئام على مصارع الكرام والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد ) , عندما أيقن ان الثورة الاصلاحية والعزيمة لن يأفل نورها أو يطفأ سراجها فهي جمرة في قلب كل مؤمن لن تنطفئ الى يوم القيامة ورحم الله الشاعر :
أبى ان يعيش إلا عزيزا أو تجلى الكفاح وهو صريع
كيف يلوي على الدنية جيدا لسوى الله مالواه الخضوع
وبالتالي فقد ضرب مثلا في القدرة القيادية لتغيير واقع واصلاح مجتمع وسلوك منهج محاولا قدر تعلق الأمر بتكليفه الشرعي والاخلاقي وارادة في نفسه الأبية وذاته الملكوتية , ان يوظفها لتعديل مسار واجتراح طريق ينجي الامة من وحل الكفر والعبودية , نتطلع في قادة بلدنا ان يستلهمون هذه الدروس والعزيمة و الإرادة لبناء بلدهم واسعاد شعبهم بممارسات تعيد للبلد استقراره وللشعب أمانه .