أثار حديث السيد كمال الحيدري –حفظه الله- حول الآفات التي أصيب بها الموروث الروائي الشيعي، وبالخصوص حديثه حول تسرب الإسرائيليات إلى موروثنا الروائي الكثير من السجالات وردود الأفعال الواسعة (الرافضة والساخطة)، حيث رفض الكثيرون ذلك واعتبروه اتهاماً باطلاً لا يصح نسبته لموروثنا الروائي، لأنه موروث يختلف في طبيعة تكوينه ومصادره عن موروث الآخرين من المخالفين، ولأن الأئمة (ع) أيضاً ومن بعدهم علماؤنا الأبرار قد بذلوا جهوداً جبارة ليس من أجل جمع هذا الموروث وحفظه فحسب، وإنما من أجل تنقيته وتصفيته من كل الآفات التي علقت به .
وبهذا الكلام يحاول البعض الرد على ما طرحه السيد الحيدري حول تسرب الإسرائيليات إلى موروثنا الروائي، وهذا باعتقادي اختزال مخل لكلامه، لأنه تجاهل للكثير من النقاط الأساسية التي بحثها في هذا الأمر، كما أنه أيضاً يُعد قفزاً على كل ما أورده من حقائق وشواهد تؤكد ذلك، فالسيد الحيدري لم يصل إلى هذه النتيجة ويؤكدها –أعني تسرب الإسرائيليات إلى موروثنا الروائي- إلا بعد أن بحث المراحل التي مر بها تكون الموروث الروائي الرسمي (السني)، وما صاحب ذلك من إشكاليات في مرحلة ما قبل التدوين وفي مرحلة التدوين، إذ بعدها ذهب لبحث تأثير هذا الموروث الرسمي (السني) واختراقه للموروث الروائي الشيعي، وأثبت ذلك بذكر بعض الشواهد الدالة عليه .
ولذا كان من المفترض على من يرفض النتيجة التي توصل إليها السيد الحيدري بتسرب الإسرائيليات إلى موروثنا الروائي أن يناقش المقدمات والركائز التي أعتمد عليها للوصول إلى هذه النتيجة، لا أن يكتفي فقط بمجرد الرفض أو الإعلان عن براءة هذا الموروث مما نسبه إليه، لأن هذا لا يدحض كلام السيد الحيدري، ولا يثبت صحة كلام من يخالفه الرأي.
وأستطيع أن أؤكد من خلال تتبعي للكثير من ردود الأفعال التي جاءت للرد على ما طرحه السيد الحيدري حول الآفات التي أصيب بها موروثنا الروائي، وبالخصوص كلامه حول تسرب الإسرائيليات إليه بأن الكثير منها تتسم بعدم الجدية في الطرح من الناحية العلمية، لأنها تعاني من علات كثيرة، ويمكن تلخيص أهم الثغرات التي اتسمت بها هذه الردود في الآتي:
1. التركيز على النتيجة ومناقشتها –تسرب الإسرائيليات إلى الموروث الروائي الشيعي- ومحاولة نفيها دون أي مناقشة فعلية للمرتكزات الأساسية التي أعتمد عليها للوصول إليها .
2. تجاهل الكثير من النقاط الأساسية والمحورية التي ذكرها السيد الحيدري والاكتفاء فقط بالتشبث ببعض العناوين الهامشية وإعطائها العناية الكبرى على حسابها.
3. الاعتماد على مخاطبة العواطف وإثارتها بتهويل كلامه وتضخيمه أو حرفه عن مساره؛ لدرجة يصل الحال أحياناً إلى تجاوز حقيقة ما طرحه بالفعل .
4. إصدار الحكم عليه أو على ما طرحه دون مناقشة فعلية للمرتكزات والأسس التي أعتمد عليها فيما إذا كانت تامة أو غير تامة، وذلك بإصدار الفتاوى أو البيانات أو بالإدلاء بتصريحات عشوائية منددة .
5. محاولة الربط بين الأفكار التي طرحها وأفكار بعض الشخصيات التي لا تلقى قبولاً لدى الأوساط الدينية، وذلك باستغلال نقاط التطابق أو التشابه التي بينهما في بعض الجزئيات والنواحي بهدف تنفير الناس منه، ومن أطروحاته دون تكليف النفس بمناقشتها لإثبات بطلانها .
وهكذا إلى غيرها من الثغرات والعيوب التي تدور تقريباً في فلكها، وهذا ما يجعلنا نؤكد بأن الكثير من هذه الردود لم تُلامس جوهر ما ذكره السيد الحيدري إلا في بعض النواحي البسيطة، والتي يبقى الاختلاف حولها قابل للأخذ والرد.
حقيقة تسرب الإسرائيليات إلى موروثنا الروائي
من المهم الإجابة على هذا السؤال: هل تسربت الإسرائيليات إلى موروثنا الروائي أم لا؟ لأن غالبية الردود كانت متركزة على نفي صحة كلام السيد الحيدري في ذلك ، فهل هذا الرأي هو رأي شاذ قد تفرد به السيد الحيدري، أم يوجد مثله عند غيره من العلماء الآخرين؟!
وللإجابة على هذه التساؤلات أستطيع القول من خلال الاطلاع على بعض الآراء بأن الإسرائيليات قد تسربت إلى موروثنا الروائي، وأن هذا الرأي لم ينفرد به السيد الحيدري، لأنه موجود لدى غيره من العلماء والشخصيات الدينية، وسوف أذكر نماذج لبعض من أطلعت على رأيه ووجدته متقارب مع السيد الحيدري في ذلك من خلال الآتي:
السيد الطباطبائي (تسرب الإسرائيليات لا سبيل إلى إنكاره)
يؤكد السيد الطباطبائي صاحب الميزان في جواب شبهة وقوع تحريف القرآن بالنقص والتغيير من خلال التمسك ببعض الأخبار بقوله: “وهذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس فان انسراب الإسرائيليات وما يحلق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى انكاره ولا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس والوضع” .
الشيخ محمد هادي معرفة (قصة خلق حواء من ضلع آدم من الإسرائيليات التي تسربت إلى كتب التفسير)
ينقل الشيخ محمد هادي معرفة ما جاء في التفسير المنسوب إلى علي بن ابراهيم القمي في تفسير قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) بقوله نقلاً عنه: “ان حوا براها اللّه من اسفل اضلاع آدم تجد ذلك في مواضع من هذا التفسير. في حين ان المراد هنا: الجنس اي من جنسه كما في قوله تعالى: ﴿واللّه جعل لكم من انفسكم ازواجا، وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة﴾. وقوله تعالى: ﴿ومن اياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ وقصة خلقة حوا من ضلع آدم ذات منشا اسرائيلي تسرب في التفسير” .
ويردف بقوله: “وهكذا قصة الملكين ببابل هاروت وماروت كفرا -والعياذ باللّه – وزنيا وعبدا للصنم، ومسخت المراة نجمة في السما وغير ذلك مما ينافي عصمة الملائكة المنصوص عليها في القرآن الكريم. وقصة الجن والنسناس، خلقوا قبل الانسان، فكانوا موضع عبرة الملائكة. وكذا تسمية آدم وحوا وليدهما بعبد الحارث، فجعلا للّه شريكا. وقصة: ان الارض على الحوت، والحوت على الما، والما على الصخرة، والصخرة على قرن ثور املس، والثور على الثرى ثم لا يعلم بعدها شي. كلها اساطير بائدة، جات في هذا التفسير عفوا، ومن غيرما سبب معقول. وجا فيه ما ينافي عصمة الانبيا كما ينافي مقام قداستهم بين الناس. فتلك قصة دأود وأوريا -على ما جات في الاساطير الاسرائيلية- جات في هذا التفسير مع الاسف” .
الشيخ جعفر السبحاني (بعض المفسرين من الشيعة ذكروا جملة من الإسرائيليات في ثنايا تفاسيرهم)
يقول الشيخ السبحاني في نقده للتفسيرات الوارد عند أهل السنة: “تلك -والله- خسارة فادحة، حيث إن جماعة من المحدثين والفقهاء والمفسرين دقوا كل باب ولم يدقوا باب أهل البيت إلا شيئا لا يذكر ففسروا كتاب الله بآرائهم وأفتوا في المسائل الشرعية بالمقاييس الظنية التي ليس عليها مسحة من الحق، ولا لمسة من الصدق حتى حشوا تفاسيرهم بإسرائيليات ومسيحيات بثها مسلمة أهل الكتاب ككعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري وأضرابهم بين المسلمين، وأخذها عنهم المحدثون والرواة والمفسرون في القرون الأولى، زاعمين أنها علوم ناجعة وقضايا صادقة، فيها شفاء العليل، ورواء الغليل والحال أنك إذ فتشت التفاسير المؤلفة في القرون الغابرة لا تجد تفسيراً علمياً أو روائياً من أهل السنة إلا وهو طافح بآرائهم الشخصية وأقوالهم التي لا قيمة لها في سوق العلم، وقد استفحل أمر هؤلاء الرواة حتى اغتر بهم بعض المفسرين من الشيعة، فذكروا جملة من الإسرائيليات في ثنايا تفاسيرهم، وما ذلك إلا لأن تلك الأفكار كانت رائجة إلى حد كان يعد الجهل بها، وعدم نقلها قصورا في التفسير وقلة اطلاع فيه، ولأجل ذلك لم يجد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي بدا من نقل آراء هؤلاء في تفسيره “التبيان”، وتبعه أمين الإسلام في تفسير “مجمع البيان”، ولكن لم يكن ذكرهم لآراء هؤلاء لأجل الاعتماد عليهم والركون إليهم، وإنما ألجأتهم إليه الضرورة الزمنية والسياسة العلمية السائدة على الأوساط آنذاك” .
وكذلك نجد الشيخ السبحاني يؤكد على ذلك عندما تحدث عن التفسير بالمأثور لدى السنة والشيعة، إذ بعد أن عدد تفاسير السنة بالمأثور ذهب لذكر بعض التفاسير بالمأثور لدى بعض الشيعة بقوله: “«البرهان في تفسير القرآن» للسيد هاشم البحرانى المتوفي (1107 ه). و«نور الثقلين» للشيخ عبد علي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر. والاستفادة من التفسير بالمأثور يتوقف على تحقيق اسناد الروايات لكثرة تطرق الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها أو مستسلمتهم” .
الشيخ الكوراني (بلاء الإسرائيليات مشتركاً بين السنة والشيعة إلا أن منبعه عند السنة وبعض ترشحاته عند الشيعة)
يقول الشيخ علي الكوراني وهو يتحدث عن جهود ومواقف أئمة أهل البيت عليهم السلام والعلماء في تنزيه الأنبياء بقوله:”اتضح بما تقدم أن أئمة أهل البيت عليهم السلام رسموا خطاً في تنزيه الأنبياء عليهم السلام والدفاع عنهم، وأن علماء المذهب رضوان الله عليهم اتبعوهم فأجادوا الإتباع والشرح والاستدلال، وكان موقفهم ثابتاً في أن الآيات التي يبدو منها وقوع المعصية من الأنبياء عليهم السلام وأنها ليست على ظاهرها بل يجب اتباع الراسخين في العلم في تأويلها. واتضح أن الأحاديث الصريحة في ارتكاب الأنبياء عليهم السلام للمعاصي مكذوبة، وأنها من موضوعات رواة السلطة القرشية لتبرير معاصي الخلفاء أو من الإسرائيليات التي ابتليت بها مصادر السنة عندهم، وكلها روايات باطلة يجب التوقف فيها أو تكذيبها، حتى لو تسرب بعضها إلى مصادرنا” .
كذلك ينقل الشيخ الكوراني هذه القصة بقوله: “حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا، وهو من كبار فقهاء السنة في عصرنا، ومن أبرز عقولهم العلمية المحترمة، عن جلسة من جلسات مؤتمر البحوث الإسلامية في القاهرة في أواخر الستينات فقال: تحدث أحد المحاضرين عن مشكلة الإسرائيليات في مصادر المسلمين فحمل على الشيعة الذين جلبوا على المسلمين هذا البلاء، وأطال في ذلك. فطلبت الكلام بعده وقلت: لا يصح أن نظلم الشيعة، لأنهم طائفة إسلامية لها عراقتها وأصالتها العلمية، وقد اطلعت على مصادر من فقههم فرأيته فقهاً قوي المنطق والحجة مستنداً إلى القرآن والسنة.. والإسرائيليات بلاء عام ابتليت به مصادرنا كما ابتليت به مصادر الشيعة ، فلا يصح أن نقول إنه جاءنا منهم” .
ويعلق الشيخ الكوراني على كلام الشيخ مصطفى الزرقا قائلاً: “إن هذا الموقف شبه المنصف لهذا الفقيه يدل على اطلاعه على مصادر السنة وشيء من مصادر الشيعة.. ولكني مطمئن بأنه لو اطلع أكثر لقال: إن بلاء الإسرائيليات في مصادر المسلمين وإن كان مشتركاً بين السنة والشيعة، إلا أن منبعه عند السنة وبعض ترشحاته عند الشيعة، والسبب في ذلك أن السلطة كانت بيد خلفاء السنة وأئمتهم، وكان علماء اليهود وحملة ثقافتهم يتقربون إليهم فقربوهم وأجازوا لهم بث ثقافتهم في المسلمين! أما الشيعة فكانوا أقلية محكومين، وكان اليهود يبتعدون عنهم خوفاً من غضب السلطة” .
لماذا الحديث عن الإسرائيليات في موروثنا الروائي؟!
يُعد الدس والوضع بشكل عام ووجود الإسرائيليات بشكل خاص من أهم العوامل التي تمنع من فهم النص الديني، ولهذا فمن المهم الالتفات إليه والعمل على اكتشافه لكي لا يتم التأثر به سلبياً في عملية فهم النص الديني، ولقد أشار السيد الحيدري إلى ذلك في كتاب التفقه في الدين، حيث عدد موانع فهم النص الديني وذكر منها الدس والتزوير بقوله:”وأما العامل السادس: فهو الدس والتزوير الذي دخل في تراثنا، ولعل هذا العامل يعتبر من أشد العوامل إضراراً بفهم النصوص الدينية، فإن هنالك آلاف الروايات الموضوعة… ومن هنا لو جاء من يريد أن يتعامل مع النص الديني لكي يفهم حقيقة من الحقائق العقائدية أو العملية فإنه سوف يصاب بالحيرة والذهول حيث يجد نفسه أمام ذلك الكم الهائل من الروايات التي يعلم جزماً أن كثيراً منها قد وضع على الرسول الأكرم (ص)، وليس ببعيد عنا أبو سليمان المروزي الذي يقول: وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، والغريب أنه عندما أريد إعدامه قيل له: لماذا وضعت على لسان الرسول (ص) أربعة آلاف في فضل القرآن؟ فقال: وجدت أن الناس قد انشغلوا بالحديث عن كتاب الله فأردت أن أرجعهم إلى كتاب الله، فقيل له: أما قرأت أن رسول الله (ص) قال: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار؟ قال: أنا لم أكذب عليه وإنما كذبت له. وهذا يعني أن هذا الوضاع كان يريد التقرب إلى الله تعالى بوضعه لتلك الأحاديث، وهكذا حصل الدس والوضع من هذا وغيره من قبيل أبي الخطاب” .
ويواصل السيد الحيدري حديث قائلاً:” وهذا يعني أن ظاهرة الوضع والدس قد بدأت في حياة الرسول (ص)، ولا يخفى أن كثيراً من الروايات الواردة في فهم القرآن قد وردت عن أصحاب النبي (ص) وأصحاب أهل البيت (عليهم السلام) ولذا فإن الدس والتزوير سوف يمس التراث القرآني أيضاً، خصوصاً فيما يتعلق بالإسرائيليات” .
إذاً، فالحديث عن الدس والوضع والإسرائيليات مهم جداً لعملية فهم النص الديني.
مجالات الوضع واختراق الإسرائيليات
لا يتوقف الوضع واختراق الأحاديث المدسوسة على المجال الفقهي فقط، ولذلك فمن غير الصحيح حصر تنقية التراث في الجانب الفقهي دون الجوانب الأخرى، وذلك لأن دواعي الوضع في الجوانب الأخرى أكثر، وفي ذلك يقول السيد الطباطبائي صاحب الميزان: “ومن المعلوم ان الدس والوضع غير مقصورين في اخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس والوضع في المعارف الاعتقادية وقصص الأنبياء والأمم الماضين وأوصاف المبدء والمعاد أكثر وأوفر ويؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات وما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح وأبين. ” .
وهذا أيضاً ما أكد عليه السيد الحيدري، وهو يستعرض الأدلة الروائية على عدم تحريف القرآن، حيث رد على ما ذكره بعضهم من أن ذلك في الأحكام الفقهية فقط، وأنه من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام، ولا ينفع لسائر الآيات. ولقد رد السيد الحيدري على هذا القول بذكر ما نقلناه عن السيد الطباطبائي من أن دواعي الدس والوضع في غير الجوانب الفقهية أكثر .
إذن فالوضع والدس بشكل عام، والإسرائيليات بشكل خاص لم يقتصر وجودها في مجال واحد فقط، فلم يقتصر وجودها على الفقه أو التفسير أو أي مجال آخر غيره، بل كان لها وجود في العديد من مجالات المعرفة الدينية، خصوصاً فيما يتعلق بالأمور العقائدية وقصص الأنبياء والتاريخ، وهذا يعني أن الدس والتزوير قد وقع في كل فروع المعرفة الدينية كما يؤكد عليه السيد الحيدري .
ومن هنا نفهم دعوة السيد الحيدري إلى ضرورة تأسيس علم أصول العقائد، وعلم أصول التفسير، وعلم أصول الأخلاق كما هو الحال في علم أصول الفقه، فهو يدعو لذلك لكي تدون في كل علم من هذه العلوم مجموعة من القواعد والضوابط لتشكل منهجاً يستعان به في فهم النص، وكل بحسب مورده كما يقول .
ومن هنا نعرف أيضاً لماذا وصف السيد الحيدري المدرسة الأصولية بأنها أصولية في الفقه الأصغر أما في غيره فهي إخبارية، وذلك لأنها لم تهتم بتنقية التراث في غير الجوانب الفقهية، إذ يقول في ذلك: “وهنا لابدّ أن أشير إلى أن العقل الأصولي الشيعي المتكون من زمان الشيخ الأنصاري وإلى يومنا هذا والآن سواء في مدرسة النجف الحديثة أو في مدرسة قم أو في غيرها، طبعا أتكلم الحالة العامة ويوجد لكل حالة عامة استثناءات، العقل الأصولي وإن كان أصولياً وعقلياً بالمعنى الذي يدعي، ولكنه في الفروع وأمّا على مستوى الفقه الأكبر والعقائد فهو منهجهم منهج أخباري… إذن حوزاتنا العلمية سواء كانت في النجف أو كانت في قم أو في أي حواضر أخرى هذه الحوزات على مستوى البحث الفقهي وإن صارت أصولية كما يقال إلّا أنّها بقيت أخبارية على مستوى العقائد يعني المدار هو الرواية وليس القرآن الكريم، وهذا بحث في محله” .
الإسرائيليات في موروثنا الروائي (روايات كعب الأحبار نموذجاً)
هل هناك روايات عن كعب الأحبار في موروثنا الروائي أم لا؟ فهناك وللأسف الشديد من يحاول أن ينفي وجود أية روايات لكعب الأحبار في موروثنا الروائي ، وهذا بالطبع غير صحيح، لأنه بعد الرجوع إلى بعض المصادر وجدتُ العديد من الروايات التي تروى عنه مباشرة، فضلاً عن الروايات التي تذكر نفس مضامين كلامه، ولكنها مروية عن غيره.
وسوف أنقل لكم بعض الروايات الموجودة في بعض المصادر والمروية عن كعب الأحبار بشكل مباشر، علماً بأنني هنا لا أنوي مناقشتها من ناحية الصحة أو عدم الصحة، ولكن أذكرها فقط للتأكيد على وجود هذه المرويات في مصادرنا الروائية.
ابن المتوكل، عن محمد العطار، عن ابن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عمر بن حفص، عن زياد بن المنذر، عن سالم بن أبي جعدة قال: “سمعت كعب الأحبار يقول: إن في كتابنا أن رجلاً من ولد محمد رسول الله يقتل ولا يجف عرق دواب أصحابه حتى يدخلوا الجنة فيعانقوا الحور العين، فمر بنا الحسن عليه السلام فقلنا: هو هذا ؟ قال: لا، فمر بنا الحسين فقلنا: هو هذا ؟ قال: نعم” .
تفسير الفرات: باسناده عن الحسن عليه السلام فيما سأل كعب الأحبار أمير المؤمنين عليه السلام قال: لما أراد الله تعالى خلق آدم بعث جبرئيل فأخذ من أديم الارض قبضة فعجنه بالماء العذب والمالح وركب فيه الطبايع قبل أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من أديم الأرض فطرحه كالجبل العظيم، وكان إبليس يومئذ خازنا على السماء الخامسة يدخل في منخر آدم ثم يخرج من دبره، ثم يضرب بيده على بطنه فيقول: لأي أمر خلقت؟ لئن جعلت فوقي لا أطعتك، ولئن جعلت أسفل مني لأعينك فمكث في الجنة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح الحديث” .
عن كعب الاحبار أنه قال: “إذا كان يوم القيامة حشر الخلق على أربعة أصناف: صنف ركبان، وصنف على أقدامهم يمشون، وصنف مكبون، وصنف على وجوههم صم بكم عمي فهم لا يعقلون ولا يكلمون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، أولئك الذين تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، فقيل له: يا كعب من هؤلاء الذين يحشرون على وجوههم وهذه الحال حالهم؟ فقال كعب: أولئك كانوا على الضلال والارتداد والنكث، فبئس ما قدمت لهم أنفسهم إذا لقوا الله بحرب خليفتهم ووصى نبيهم وعالمهم وسيدهم وفاضلهم، وحامل اللواء وولى الحوض والمرتجى والرجا دون هذا العالم، وهو العلم الذي لا يجهل والمحجة التي من زال عنها عطب وفي النار هوى، ذاك علي ورب كعب أعلمهم علما، وأقدمهم سلما(5)، وأوفرهم حلما، عجب كعب ممن قدم على غيره. ومن نسل على القائم المهدي الذي يبدل الارض غير الارض، وبه يحتج عيسى بن مريم (عليه السلام) على نصارى الروم والصين، إن القائم المهدي من نسل علي أشبه الناس بعيسى بن مريم خلقا وخلقا وسمتا وهيبة، يعطيه الله جل” .
عن كعب الاحبار حين أسلم في أيام خلافة عمر بن الخطاب وجعل الناس يسألونه عن الملاحم التي تظهر في آخر الزمان فصار كعب يخبرهم بأنواع الاخبار والملاحم والفتن التي تظهر في العالم ثم قال: “وأعظمها فتنة وأشدها مصيبة لا تنسى إلى أبد الآبدين مصيبة الحسين عليه السلام وهي الفساد الذي ذكره الله تعالى في كتابه المجيد حيث قال: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس” وإنما فتح الفساد بقتل هابيل بن آدم، وختم بقتل الحسين عليه السلام أو لا تعلمون أنه يفتح يوم قتله أبواب السماوات ويؤذه السماء بالبكاء فتبكي دما فإذا رأيتم الحمرة في السماء قد ارتفعت ، فاعلموا أن السماء تبكي حسينا فقيل: يا كعب لم لا تفعل السماء كذلك ولا تبكي دما لقتل الانبياء ممن كان أفضل من الحسين؟ فقال: ويحكم إن قتل الحسين أمر عظيم وإنه ابن سيد المرسلين، وإنه يقتل علانية مبارزة ظلما وعدوانا ولا تحفظ فيه وصية جده رسول الله وهو مزاج مائه وبضعة من لحمه، يذبح بعرصة كربلاء فو الذي نفس كعب بيده لتبكينه زمرة من الملائكة في السماوات السبع، لا يقطعون بكاءهم عليه إلى آخر الدهر، وإن البقعة التي يدفن فيها خير البقاع، وما من نبي إلا ويأتي إليها ويزورها ويبكي على مصابه، ولكربلاء في كل يوم زيارة من الملائكة والجن والانس فاذا كانت ليلة الجمعة ينزل إليها تسعون ألف ملك يبكون على الحسين، ويذكرون فضله وإنه يسمى في السماء حسيناً المذبوح وفي الارض أبا عبدالله المقتول، وفي البحار الفرخ الازهر المظلوم، وإنه يوم قتله تنكسف الشمس بالنهار، ومن الليل ينخسف القمر، وتدوم الظلمة على الناس ثلاثة أيام وتمطر السماء دما، وتدكدك الجبال وتغطمط البحار، ولولا بقية من ذريته وطائفة من شيعته الذين يطلبون بدمه ويأخذون بثأره، لصب الله عليهم ناراً من السماء أحرقت الارض ومن عليها” .
الامام الصادق يستشهد بما قاله كعب الاحبار
هناك أيضاً رواية موجودة في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (ع) وفيها يروي رواية عن كعب الأحبار، وهذا نصها: عن الصادق (عليه السلام) يقول: بلغني انه سئل كعب الاحبار ما الاصلح في الدين وما الافسد فقال الاصلح الورع والافسد الطمع فقال له السائل صدقت يا كعب والطمع خمر الشيطان يسقى بيده لخواصه فمن سكر منه يصحى إلا في اليم عذاب الله تعالى بمجاورة ساقيه ولو لم يكن في الطمع سخطه إلا مثارات الدين بالدنيا لكان سخطاً عظيما. قال الله عز وجل: (اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة)” .
عموماً، لقد كان ما نقلناه في السابق ذكر لبعض الروايات الواردة مباشرة عن طريق كعب الأحبار في موروثنا الروائي دون مناقشة لها، وكان الغرض من جميع ما ذكرناه هو تبيين أن كتب الحديث عندنا ليست بريئة من روايات كعب الأحبار وأمثاله كما يقول البعض ، علماً بأن كلام السيد الحيدري لم يكن عن تسرب الموروث الروائي الإسرائيلي بشكل مباشر، وإنما كان في اختراقه لموروثنا ونسبته للأئمة (ع) أيضاً، وهذا ما أوضحه في قوله: “أن ذلك الموروث الإسرائيلي انتقل إلى الموروث الروائي عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام وخصوصاً عند المفسرين والمؤرخين، وبالعكس بدل أن ينسب إلى أنه من أهل الكتاب نسب إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام” .
نموذج لنسبة بعض الروايات الإسرائيلية إلى الأئمة (ع)
(كيفية تكاثر أبناء آدم نموذجاً)
تناول السيد كمال الحيدري بعض الروايات الواردة عن كيفية تكاثر أبناء آدم (ع) ، حيث ذكر ما جاء في زواج أبناء آدم عليه السلام في تفسير الطبري جامع البيان، تحقيق الدكتور التركي الجزء الثامن، دار عالم الكتب في ص 321، في ذيل الآية 27 من سورة المائدة، الرواية: «حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأماه هابيل وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمه قابيل فسلم لذلك هابيل ورضي وأبى قابيل ذلك وكره تكرما عن أخت هابيل ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض وأنا أحق بأختي، ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول كانت أخت قابيل من أحسن الناس يعني جميلة فظن بها على أخيه وأرادها لنفسه فالله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه يا بني إنها لا تحل لك، أنت لا يحق لك أن تأخذ أخت التوأم لابد أن تأخذ أختك غير التوأم فأبى قابيل أن يقبل ذلك من أبيه فقال له أبوه: يا نبي فقرب قربانا ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها وكان قابيل على بذر الأرض وكان هابيل على رعاية الماشية (راعي)، فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول قرب بقرة، فأرسل الله نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله”.
ويبين السيد الحيدري بأنه لا يقول بأن سند هذه الرواية صحيح بقوله: “بحمد الله تعال الطبري نقل الرواية في تاريخ الطبري وهي في ضعيف تاريخ الطبري، فالرواية سندها غير تام، بغض النظر عن مضمونها، سندها غير تام” ويبين أنه في الجزء السادس من ضعيف تاريخ الطبري، ص 89، رقم الرواية 194 يذكر الرواية ببعض الاختلاف حيث يقول الحيدري: “طبعا هناك عبر عن قابيل بقين وفي بعض النسخ عبر عنه بقائين، أما هابيل فعلى اسمه، هذه أصل الرواية الموجودة في تفسير الطبري وفي تاريخ الطبري”.
ثم يذكر السيد الحيدري نقل الشيخ الطوسي لنفس مضمون هذه الرواية الإسرائيلية في كتابه التبيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي بيروت، حيث قال في ذيل نفس هذه الآية من سورة المائدة: “وقال أكثر المفسرين ورواه أبو جعفر وغيره من المفسرين ولد لكل واحد من قابيل وهابيل أخت توأم له فأمر آدم كل واحد بتزويج أخت الآخر وكانت أخت قابيل أحسن من الأخرى فأرادها وحسد أخاه عليها فقال آدم قربا قربانا فأيكما قبل قربانه فهي له”.
وبعدها ينتقل السيد الحيدري لذكر ما يصفه بالطامة، وهي نقل هذه الرواية في مجمع البيان في تفسير القرآن لأمين الإسلام الطبرسي، طبعة جديدة ومنقحة دار المرتضى، في ذيل الآية المباركة وهي الآية 27 من سورة المائدة، حيث ذكر القصة وبعدها قال: “روي ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السلام وغيره من المفسرين”.
ويعلق السيد الحيدري بأن العبارة كانت عن أبي جعفر وغيره من المفسرين، ولكن أضيف الباقر بعد أبي جعفر للاشتباه بأن المقصود من أبي جعفر هو الإمام الباقر عليه السلام، كما وضح السيد الحيدري بأنه لا يتكلم عن النسخة الأصلية لمجمع البيان، وإنما يتكلم عن النسخ المنتشرة المطبوعة، لأنه قد تكون في النسخة الأصلية موجودة أو غير موجودة، ولكنه يتكلم عن النسخ المطبوعة لا عن النسخ المخطوطة، لأن أهل المنبر والقنوات والعلماء والمفسرين عندما ينقلون رواية يرجعون للنسخ المطبوعة لا النسخ المخطوطة .
وبعدها يخلص السيد الحيدري إلى هذه النتيجة بقوله: “إذن إلى هنا اتضح رواية بعض أهل العلم بالكتاب الأول يعني من التوراة خرجت في مجمع البيان وصارت بعنوان الإمام الباقر” . كما يوضح بأن القضية لم تتوقف على هذا الكتاب، بل نسبت الرواية إلى الإمام الباقر عليه السلام في بعض الكتب، منها: ما نقله الفيض الكاشاني في تفسير الصافي، وكذلك ما نقله العلامة المجلسي في البحار، وأخيراً ما نقله الحويزي في تفسير نور الثقلين .
لذلك نجد السيد الحيدري يؤكد بقوله: “أن جزءاً من المورث الإسرائيلي الذي أسس له في العهد الأموي لتدمير الثقافة والمنظومة الدينية تسربت واخترقت المنظومة الروائية الشيعية، وبيني وبين الله لا أقل هناك العشرات من الموارد في هذه، بحسب إحصائي الناقص” .
كما يبين السيد الحيدري بأنه لا توجد لديه نسبة معينة لتسرب الإسرائيليات إلى الفكر الشيعي بقوله: “الواقع لا توجد عندي نسبة ولكنها ليست قليلة، لأنه إذا كانت النسبة واحد بالمائة أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة بالمائة قد لا تستطيع أن تؤثر …لو كانت قضية واحد أو ثلاث أو عشرة بالمائة ما كانت تستحق أن أقف عندها، ولكنها تشكل منظومة وظاهرة قوية في المورث الروائي الشيعي” .
رواية تكاثر النسل بعد آدم مروية عن طرق أهل البيت (ع)
لم يتوقف الأمر عند السابق، من ورود الاشتباه ودخول هذه الرواية على أنها مروية عن أهل البيت عليهم السلام عن طريق الخطأ فقط، بل نجد أنها اخترقت وأضيفت في بعض المصادر على أنها صادرة عن الأئمة عليهم السلام، ويورد السيد الحيدري نماذج لنفس مضمون الرواية التي نقلها سابقاً، ولكنها مروية عن الأئمة عليهم السلام، وسوف نذكر ما أورده في الآتي :
في كتاب الاحتجاج للطبرسي تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، الشيخ محمد هادي بإشراف العلامة الشيخ جعفر السبحاني دار الأسوة إيران، الجزء الثاني ص 142، الرواية عن أبي حمزة الثمالي قال: “سمعت علي بن الحسين يحدث رجلاً من قريش فولد لآدم من حواء عشرون ذكراً وعشرون أنثى، فولد له في كل بطن ذكر وأنثى فأول بطن ولدت حواء هابيل ومع جارية يقال لها إقليما، قال وولدت في البطن الثاني قابيل ومعه جارية يقال لها لوزا، وكانت لوزا أجمل بنات آدم فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه فقال أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا وأنكحك يا قابيل أقليما قال قابيل ما أرضى بهذا، أتنكحني أخت هابيل القبيحة وتنكح هابيل أختي الجميلة فأنا أقرع بينكم فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا وخرج سهمك يا هابيل على إقليما زوجت كلّ واحد منكما قال فرضيا بذلك فاقترعاً فخرجت” .
الكتاب الثاني قرب الإسناد تأليف الشيخ الجليل الحميري من أعلام القرن الثالث للهجري، الرواية في ص 366، رقم الرواية 1311، الرواية عن البزنطي عن الإمام الرضا قال:”وسألته عن الناس كيف تناسلوا من آدم فقال: حملت حواء هابيل وأختا له في بطنها، ثمّ حملت في البطن الثاني قابيل وأخته له في بطن، فزوج هابيل التي مع قابيل وتزوج قابيل التي مع هابيل، ثمّ حدث التحريم بعد ذلك”.
روايات ذات مضامين أخرى عن الأئمة (ع) في تكاثر أولاد آدم
يبين السيد الحيدري بأن هناك مجموعة أخرى من الروايات وردت عن الأئمة (ع) لا تنسجم في مضمونها مع مضمون الرواية الإسرائيلية، وهي واردة في كتب أفضل من تلك الكتب كما يقول منها الآتي:
ما ورد في تفسير العياشي المتوفى سنة 320 من الهجرة يعني في سنين الغيبة الصغرى، الجزء الثاي تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة ص 35 و 36، سورة المائدة الآية 27 قال: قلت لأبي عبد الله جعلت فداك إن الناس يزعمون أن آدم زوج ابنته من ابنه فقال أبو عبد الله قد قال الناس في ذلك؟ ولكن يا سليمان أمّا لو علمت أن رسول الله قال: لو علمت أن آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم وما كنت لأرغب عن دين آدم، فقلت جعلت فداك أنّهم يزعمون أن قابيل إنّما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على أختهما فقال له: يا سليمان تقول هذا، أمّا تستحي أن تروي هذا على نبي الله فقلت جعلت فداك ففيما قتل قابيل هابيل؟ قال: ذلك في الوصية”.
في علل الشرائع للشيخ الصدوق المتوفى 381 من الهجرة، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات المجلد الأوّل، باب 17، علّة كيفية بدء النسل قال: “عن زرارة قال سئل أبو عبد الله كيف بدأت بدأ النسل من ذرية آدم، فإن عندنا أناس يقولون إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يزوج بناته من بنيه وأن هذا الخلق كلّه أصله من الإخوة والأخوات قال أبو عبد الله: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يقول من يقول هذا إن الله عز وجل جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله وحججه والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلّمات من حرام ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطاهر الطيب والله لقد نبئت أن بعض البهائم فعلت ذلك فما استطاعت أن تفعل”.
طبعاً يبين السيد الحيدري بأنه في هذه القضية قد لا نصادف أية مشكلة، لأنه يمكن حل المشكلة سندياً، فيتم تقديم هذه الروايات على تلك الروايات، لأن تفسير العياشي وعلل الشرائع أهمّ من كتاب الاحتجاج وقرب الإسناد، ولكنه في بعض الحالات قد لا يكون الحال كهذا الحال، ولهذا نجد السيد الحيدري يقول: “بيني وبين الله هذا الحل ليس حلاً ناجعاً… لأن الذين وضعوا الروايات على أهل البيت لم يضعوا فقط المضمون بل تلاعبوا بالسند أيضاً” .
نقطة أخيرة: موقف السيد الحيدري من الإسرائيليات
قد يكون هنالك قلق يخالج البعض من أن السيد الحيدري قد يتساهل في رفض بعض الروايات لمجرد الاشتباه بكونها من الاسرائيليات، وذلك نتيجة لاتخاذه هذا المنحى الخطير في النقد-كما يعتقدون طبعاً- ولكي نطمئن هؤلاء سوف نذكر ما يقوله السيد الحيدري نفسه، ليتبين لهم هل أنه فعلاً ممن يدعو للتساهل في رفض الرواية فقط لأنها إسرائيلية أم أن عنده معايير أخرى يعتمدها لقبول الرواية أرفضها؟
يتحدث السيد كمال الحيدري عن قبول أو رفض الروايات التي توصف بالإسرائيليات بقوله: “وعليه فصفة الإسرائيلية لا تصلح أن تكون مناطاً في رفض الرواية، وإنما للقبول والرفض مناطات أُخرى، فما خالف منها القرآن أو السنّة الصحيحة أو الضرورات الدينية أو البراهين العقلية يضرب بها عرض الجدار، وهذا ضابط عامّ تُقاس به الروايات الإسرائيلية وغيرها” .
فالسيد الحيدري إذن يرفض أن يكون نسبة الرواية للإسرائيليات فقط هو المناط لرفض الرواية، بل وينقد من يتساهل في رفض الروايات لمجرد نسبتها للإسرائيليات دون أن تكون مخالفة للضوابط التي ذكرها، وهي: (مخالفة القرآن أو السنة الصحيحة أو الضرورات الدينية أو البراهين العقلية)، إذ يقول:”إنَّ هذا الضابط التحقيقي لم يلتزم به كثير من الأعلام، فصار الرفض عنده ووصف بعض المرويات بالإسرائيليات لأجل عدم مطابقة ما فيها مع معتقداته الشخصية، فليس المعيار قرآناً أو سنّة أو ضرورة دينية، وإنما لأغراض ثانوية تدعوه للرفض بقوّة لكي لا يتآكل بنيانه وينهدم صرحه العقدي…” .
ولذا نقول لمن يشعرون بالقلق على الموروث الروائي من هذا الطرح بأنه لا داعي لهذا القلق، لأن السيد الحيدري حريص جداً على الروايات الثابتة، ولا يرفض أي رواية لمجرد نسبتها للإسرائيليات ما دامت لم تخالف الضوابط التي ذكرها فتأملوا !!