قصة قصيرة
البيوت تتشابه ، الشوارع ، الدكاكين ،حتى وجوه الناس وحركاتهم تتشابه الى حد كبير .. من يود البحث عن شخص أو عنوان في هذا الحي ، ماعليه سوى التعرف على إحدى هذه العلامات الثابتة منذ زمن طويل ، منها : قرب جامع فلان ، على يمين دكان فلان ، قبل بيت السيد ، بعد بيت الحاج ، خلف الطاحونة ، بعد ال……
لكن هذا الغريب ذو الشارب الكثيف والعينان اللتان تبرقان بعدائية دونما سبب للاخرين ،لم يسأل أحداً إستعلاءاً وكبرياء ، بل طرق الباب التي تشبه كل الابواب بشدة ، ثم تابع الطرق بكلتا يديه ، ظهرت له طفلة صغيرة في السابعة من عمرها ، تولاها الرعب وأرتسمت على وجهها الوديع علامات الخوف حينما لمحت وجه الغريب وعينيه الخبيثتين ، بادرها بصوت أمر وكأنه يكلم شخصاً بعمره :
أين أخوك ؟؟؟
-لاأعرف
أين أبوك؟؟
-في العمل
هِممممم يعني لاأحد في البيت ؟؟ خذي هذا الظرف وأعطيه لأمكِ ، إياك أن يسقط من يدك أو تسلميه لشخص أخر ..
هرعت الطفلة خائفة ، مرعوبة الى أمها التي إنشغلت بسجر التنور في الزاوية البعيدة من البيت ..
تناولت الظرف من إبنتها بأطراف أصابعها بعد أن جففت بثوبها كفها المبلولة ، وماعلق بها من بقايا عجين.
دارت علامات إستفهام كثيرة في خاطرها ، خالجها شعور غريب بين فرح المفاجأة كونها المرة الاولى التي تصل اليهم رسالة أو ظرف بهذا الحجم الكبير .. وبين توجس من مجهول غامض إستشعرته دون أن تعرف سببه.
هزت الظرف لعلها تسمع خشخشة أو صرير ، غير أن ظنونها تبددت حينما لم يصل الى سمعها سوى هفهفة أوراق متراصة ، والتي يبدو أن عددها كبيراً كي تكون بهذا الثقل.
لم تلحظ الختم المدموغ على الحد الفاصل بين دفتي الظرف .. فضّته بحذر خشية أن تمزق ورقة أو تتلف شيئاً ما في داخله ، ربما تكون أوراقاً نقدية أو سندات مهمة ؟؟ ، هكذا حدثت نفسها ..
باعدت دفتي الظرف بسبابة وإبهام يدها اليسرى ، ليتسنى لها القبض على حزمة الاوراق باليد الاخرى..
لم تكن الاوراق مطوية ، لكنها مقلوبة ، أدارتها حيث يمكن قرائتها ، باغتها عنوان كبيرمطبوع بخط سميك مميز ( مديرية الامن ) وتحته كُتِبَ :إستدعاء ..
ودونما إرادة سقطت الاوراق من يدها ، ثم فردت ذراعيها وصرخت : يبووووووووووووووه
خربشت خديها ، لطمت ، صرخت ، دارت بحركة غريبة ، تلوح بيديها ، ينقطع صوتها حيناً ، ثم ينفلت محشرجا مدوياً حيناً أخر..
تجمع اولادها مذعورين ، راحوا يصرخون معها ويبكون ، دون معرفة السبب ، دارت في فناء الدار والصغار خلفها يتملكهم الخوف والهلع..
دخل الزوج جافلاً ، مرتاعاً من صراخ زوجته المسموع في أخر الشارع ، أرسل نظرة سريعة ، وجلة ، متفحصاً دون وعي أولاده الخمسة ، عدّهم بقلبه ، تفحص أجسادهم بلمح البصر ، إطمأن بعض الشيئ ، كون أن ماقد يكون مصاباً أو فجيعة هي خارج حدود بيته ،أوبعيدة عن أولاده على الاقل ، لكن صراخ زوجته وتشبثها بثيابه ،نَمَّ عن مصيبة كبيرة ، رغم أنه إعتاد صراخها وولولتها على صغائر الامور وكبارها..
لّوحت له بالأوراق مذعورة ، تناولها بيد مرتعشةٍ ، وقلب خافق ، لبث برهة طويلة يحدق في العنوان المطبوع بالخط العريض ، لم يفهم شئياً مما رأى ، تهدلت ذراعاه وسقط أحد الكيسين اللذين كان يحملهما معه ، تدحرجت طماطات وتوزعت هنا وهناك في ارجاء المكان..
تسمرت قدما المسكين ، أحس بنار تستعر في جسده ، ثم صعدت الى صلعته ، تصفد جبينه وتعرق ، فالعنوان يكفي لجلط أقوى القلوب ، إستند الى الجدار وسقط جلوساً على الأرض ، ثم مالبث أن قام متكئاً كأنه تذكر شيئاً خطيراً ..
دخل إحدى الغرفتين اللتين تكونان بيته الفقير، ثم عاد مسرعاً الى الغرفة الاخرى والكيس مازال في يده ، يفتش ببصره في ارجاءها ، دون أن ينبس بكلمة..
خفَّ صراخ الزوجة وأستحال الى نشيج بلادموع ، تركض خلف زوجها وتتطلع نحو الاماكن التي يحدق بها ، لعلها تجد في بحثه المبهم شيئاً يخرجهم من هذا الكابوس المخيف..
لكن خوفها بدأ يتفاقم عندما لم تسمع منه كلمة واحدة ، ولم تر سوى حركاته الغريبة وهرولته من غرفة الى أخرى دونما قصد مفهوم.. يرفع بعض الاشياء من أماكانها ثم يعيدها بحركة مكرورة غامضة ..
خرج الى فناء الدار وتسمّر هناك والاوراق بيدٍ ، والكيس بيده الاخرى ، يحدق في الفراغ ولايستجيب لتوسلات المسكينة بأن يسمعها كلمة واحدة وهي تهزه وتناديه بإرتياب ، خشية أن تكون الصدمة أفقدته عقله .
تدفق الناس على صوت الصراخ ، يدفع بعضهم الفضول ، وبعضهم الاخر الواجب وإغاثة الجار..
إقترب أحدهم منه وهزه برفق مستفهماً عن الامر ، لكنه كان صامتا مثل الجدار ..
صاحت الزوجة بنبرة حزينة باكية : يطلبوه في مديرية الامن..
كان وقع كلماتها مثل الزلزال ، تفرق بعض الناس مسرعين دون إلتفاتة أو كلمة ، وظل البعض الاخرمتردداً بين الخروج والبقاء لمعرفة المزيد ، ومامدى خطورة الامر ، ولِمَ هذا الاستدعاء ؟؟
الجميع يعرف هذا الرجل ، بسيط ، مسالم ، لايسمع له صوت ، لكن لابد أن الامر خطير ، وربما يكون هذا الرجل عكس مانعرفه عنه هكذا قال البعض بشماته وهم يهرعون خارج الدار !!
إحتضن رجل مسن الزوج المسكين وأنخرط في بكاء ونوح ، كأنه يبكي قرب شاهدة قبره ، ليزيد الطين بلة ، ويحفز دون قصد زوجته لمواصلة الصراخ واللطم..
خوف حقيقي ، لاوجود لإفتعال أية مشاعر ، (مديرية الامن) هي الدرب التي لايعود منها السائرون ،بوابات الجحيم ، من خرج منها وهم قلة ، خرجوا بلاذاكرة ، تغزوهم الكوابيس في المنام واليقظة..
ظلَّ الرجل واجماً ، صامتاً ، يحدق في الفراغ وكأن الامر لايعنيه ، قلة من أصحابه لم يغادروا الدار ، دنا أحدهم منه وأستل الأوراق بصعوبة من يديه ، قال دعني ياصاحبي أرى الرسالة وماتحتويه، فالأمر غريب ، إنهم لايستدعون أحداً ، بل يقتلعوه من فراشه ، في عمق الليل ، أو وضح النهار,,
وقعت عيناه على العنوان المخيف والمكتوب بخط سميك ، إنتابته رعشة خوف خفيفة نجح باخفائها ، وراح يقرأ بصوت أقرب الى الهمس..
إستدعاء : ندعوا المتطوع …… الى ملأ الاستمارة المرفقة ، والحضور الى مديرية الامن للمقابلة…..
تبسم الرجل وصاح : ابشروا إنها إستمارة تطوع فلان إبن جاركم ، إستمارة تطوع لاغير ، أخطأ الرجل الذي أوصلها بالعنوان ، فبيوتنا بلاأرقام..
بكت الزوجة فرحا ً، لكن الرجل ظل واجما يحتضن الكيس ،غارقاً الى الابد في صمت مطبق..
* القصة حقيقية حدثت في ثمانينيات القرن الماضي