يبدو أن تراثنا العربي يتفوق على تراث الأمم الأخرى في ثقافة الربابة وما تشيعه في الأمة من قيم المدح أو الهجاء، وما يتبع ذلك من أخلاق شعراء الربابة الذين لا يجدون غضاضة في أن يشتموا ممدوحهم اليوم بعد أن أسبغوا عليه بالأمس ما ينكره العقل السليم من صفات البطولة والكرم والشجاعة، تبعا لعطاء ذلك الممدوح.
والأغرب من كل ذلك أن الأمة تقبلت ذلك وتعودت عليه وصار كل ما يهمها من (معلقات) المدح والهجاء ما فيهما من بلاغة في القول وجدة في الابتكار. ومن المتنبي إلى الجواهري لم يتوقف الضمير النقدي العربي عن أخلاق شاعر الربابة بقدر ما أنفق في التنقيب عن إبداعه الشعري وبراعته البيانية وابتكاراته البلاغية المعجزة.
ويبدو أننا ورثنا هذه الربابة حتى ونحن ندخل في تكنلوجيات القرن الواحد والعشرين . فقد تطورت خيمة شيخ القبيلة وصارت فضائية أو إذاعة أو جريدة. ونزع الشاعر القديم عقاله وعباءته وكسر ربابته وظهر علينا بهيئة كاتب أو مفكر أو محلل، وصارت الربابة قلما يعزف لشيخ القبيلة ويغني ما يسعده وما يجعل ظلمَه عدلا وكذبَه صدقا وخيانتـَه أمانة.
ولكن أمام صحافة الكذب والنفاق والكلمة البذيئة التي تغدق عليها جهات عديدة، خاصة أو حزبية أو حكومية، تجد صحافة الكلمة الصادقة الأمينة البانية المهذبة كثيرا من العناء في الحفاظ على كرامتها واستقلالها وبقائها على قيد الحياة.
وفي تاريخ صحافتنا العربية الطويل عرفنا كتابا صادقين طيبين بنائين يتميزون بالحشمة والنزاهة والرقي، لا يكتبون من أجل المال، بل إن ما يهمهم ويؤرقهم هو البحث عن الحق ونشره وإشاعته بين الناس، ولكنهم قليلون.
لكننا بالمقابل، عرفنا طوفانا من كتاب مبرزين في الشتيمة والكلمة البذيئة واختراع الأباطيل القاسية والقاتلة أحيانا كثيرة، مشككين بكل شيء، وكارهين لكل نجاح وكل ناجح. يحتكرون الوطنية والشرف، وينكرونها على سواهم، ولا يعتقدون بوجود إنسان مبرأ من الغرض ومن فساد النية. وحدهم المثقفون، ووحدهم المخولون بتوزيع ألقاب الخيانة والعمالة على الآخرين. يحبون فينكرون كل نقيصة عمن أحبوه، ويكرهون فيجردون مكروهم من كل فضيلة. يبالغون في العداء، ويتطرفون في ادعاء المودة. لا يؤتمنون على سر ولا على خصوصية. خائضون في دماء عباد الله، لا يتورعون عن ثلم أعراض الآخرين وتلويثها.
وقد أصبح خطرهم أكثر فداحة في عصر الصحافة الإلكترونية الرائجة. فقد وجدت كلماتهم البذيئة طوفانا من المواقع الالكترونية الفاسدة التي تبحث عن أرباب سوابق فكرية أوخلقية أو مهنية وليس عن أصحاب أقلام نزيهة لا تُساوَم ولا تُشترَى.
ويفهم هذا النوع من الصحفيين والكتاب أن الديمقراطية والحرية هما انفلات شامل من أية مسؤولية أو أمانة أو موضوعية، يساعدهم على ذلك أنهم وجدوا في الصحافة الالكترونية مهربا من المراقبة والمحاسبة، فنقلوا لوثة الصحافة المكتوبة التي تعارفنا على تسميتها بالصحافة الصفراء الى صحافة الإنترنيت. والمخيف في الأمر أن ثقافة الشتم والكتابة البذيئة بدأت تتحول إلى ثقافة عامة يتلقفها الكتاب الناشئون، وقد تصبح لغة العصر القادم وإعلامه وفنونه والعياذ بالله.
والمؤسف أن مخابرات بعض دولنا العربية نزلت إلى ميدان الصحافة الالكترونية فاستحدثت مواقع ألكترونية تمارس من خلالها بث الإشاعات وترويج الاتهامات وتلفيق الفضائح لإرهاب الخصوم ودفعهم إلى الصمت والانزواء.
والخوف الخوف من أن يتسلل كتاب الربابة العرب من صحافة الكلمة البذيئة إلى مواقع الصحافة النظيفة. خصوصا وأن مجتمعاتنا العربية لم تبلغ بعد مرحلة النضوج الفكري والسياسي والاجتماعي الذي يحصنها من أضرار كتاب الربابة.
هذه إشكالية يصعب على الحكومات أو المؤسسات القانونية حلها. فليس هناك من وسيلة لمحاسبة تلك المواقع أو كتابها، مثلما يجري مع الصحافة المكتوبة إذا ما روجت لخبر أو مقالة تمس خصوصيات المواطنين أو تهين كراماتهم أو تهدد حياتهم وأمنهم.
وقد جرت محاولات عديدة للبحث عن حلول ناجعة للحد من التأثيرات التخريبية والأضرار المالية الكبرى التي تلحقها تلك المواقع بالأفراد والمؤسسات الخاصة والعامة، وأحيانا.
وينصح خبراء الإعلام العرب بإصدار وثيقة أخلاقيات المهنة professional ethics تنظم الرقابة الذاتية، وتمنع الكتاب من تجاوز حدود المهنة. ولكن المشكلة تكمن في أن أصحاب تلك المواقع وكتابها غير معنيين بما يقرره الإعلاميون والتربيون، وليس لديهم القدرة على هضمه واحترامه، وبالتالي الالتزام بأحكامه.
في أمريكا، على علمي ومن تجربتي البسيطة، تسهل السيطرة على هذه الظاهرة. فالقضاء ينظر في أية شكوى من أي نوع. وعلى القاضي والمحلفين أن يسمعوا ثم يحكموا للمشتكي أو ضده. وأية وسيلة نشر ثقافي أو إعلامي لابد من أن تكون مملوكة من قبل شخص معروف أو جهة معنوية معروفة ومسجلة لدى مكتب تسجيل الشركات. وأية شركة من شركات استضافة مواقع الانترنيت لابد أن تكون مجازة قانونيا. ومن هنا يصبح في إمكان أي متضرر أن يلجأ إلى القضاء.