توطئة:
ظهرت الحركة السريالية بوصفها دعوة في مجال الأدب ــ لكي تنادي بالتخلي عن الواقع الخارجي وأستلهام ما يمكن في عالم اللاشعور وأن الستاطيق اللاشعور التي نجدها عند السرياليين،هي من آثار المذهب القائل بالتحليل النفسي،وهي النتيجة المباشرة للنظرية السيكلوجية للفن تابع كتاب مصطفى سويف/الأسس النفسية اللابداع الفني.من هنا يمكننا تسليط الضوء على معطيات الإجرائية السريالية النفسية التصوفية في رواية(سيدات زحل)للروائية الأستاذة لطفية الدليمي،حيث تتحول كافة موجهات العقل و الأحساس بكل قدرات الذات الباطنية،إلى مؤهلات و تأهيلات سيكلوجية في تخيلات رؤى عوالم اللاشعور،وبطريقة الإجرائية الباطنية في تمييز محاور فضاء الرؤيا الأستلهامية التي هي خارج إطار الأحساس بمباشرة عينية حقائق ومعايير صور وقائع الظاهر اليومي من موقعية إدراك العقل لها.بذلك الاحساس التواصلي المشارك تتم إعادة الاستجابة إليه من خلال محاور وثيمات النص الشخوصية،دون النظر في صورة مشاهد واقع الظواهر المفترضة،بعين الإجرائية التقليدية الكامنة في تشكلات و تخيلات الذاكرة الحرفية وصور ملازمات الحياة الخارجية لأهم خصائصها.
ـ الفضاء بين الرؤية للأمكنة وسياق الزمن.
نستشف من خلال قراءتنا لرواية(سيدات زحل)بصفة خاصة إلى خصوصية الوعي بتجربة المكان،والقبض عليه في تمظهرات الإضافة النوعية من اللغة المجردة والشعرية في وصف ملامسات الأنا الساردة المشاركة في متخيل أسرار المدهش والعجائبي،تجنبا من الروائية ذاتها من السقوط،في شرك المعاينة الحرفية للواقع المتخيل وموضوعة ظاهرية الإشارة المباشرة إلى ذلك الواقع،المحفوف بشعرية أعماق مسرودات الأنا الشخوصية،في تنظيرات مسرودها ووعيها الناجم عن وحشة الانفراد في واقع الحرب والحروب،في محيط من زمن ذلك السرداب المشحون بالمرايا وعقارب أجساد تلك الساعات المستنفذة لوقائع وتقاويم أزمنتها التحققية.
1ـ الفضاء المغلق ولغة ذاتية المكان:
تقترح علينا قراءة تفاصيل فصول الرواية الأولى،ذلك الوعي الاستعادي من الشخصية المشاركة(حياة)إمعانا منها في رفع قيمة وعيها المستشعر إلى مجالية الفضاء المغلق،في جسد وبطون ذلك السرداب الأرضي من المنزل،ليصبح الزمن المحكي معبرا عن طريق صوغ تخييلي غير مألوف،ليبرز من خلاله الوصف المسرودي شعرا نثريا غالبا،في غواية الفضاء المغلق،كنتيجة تأتي بتفاصيل سرانية و تكثيفية تحصيل ثراء الموصوف استذكارا إجماليا،نقرأ مثالا ما جاءت به فقرات فصل(الأسماء) :(أأنا حياة البابلي..أم أنني أخرى؟؟ومن تكون أسيا كنعان التي أحمل جواز سفرها؟؟أنت أنت،أجل حبيبتي أنك هي،أنت حياة،ثقي بي..أنت حياتي..منتشية بلذة الغياب وألتباس وعيي بهويتي..خرق ذهولي الرجل الذي به بحة ـ شهوةونبرة أب حكيم..طوق رأسي قبل أن ينفذ إلى حواسي..خفق على وجهي كجناح يمامة فأيقظني من تشوشي..تماوجت نبرته في دمي..رعشة خفية سرت في ظهري كأن أصابعه تمسد فقراتي واحدة واحدة وتصوغ منها قلادة الرغبات: ـ أنت حياة..أنت هي حياة،حياتي؟./ص9 الرواية)هكذا تطالعنا شخصية حياة،وكأنها تعددا صوتيا في مرويات مساحة الوعي و اللاوعي،والشعور من جهة ما وحافزية اللاشعور من جهة أخرى.الروائية الدليمي لا تسمح بإظهار مساحة السرد،على النحو من سياق توكيد الهوية أو الوجود الفعلي لصوت حاضر شخصيتها الساردة المشاركة في النص،اللهم إلا من منظور التخلف عن مجال الوجود الحقيقي لشخصيتها،إيذانا منها إلى إدخال الشخصية حياة في غواية المساءلة و تساؤلات ذاكرة الذات،كشخصية مأزومة في مبالغات استشعار واقع وجودها،كمنتمية لذلك الوطن الغاطس في بلاغة أوجاعه وجغرافية موته الدامي،في فضاء مغلق من مسرود الأنا الراوية،وكلعبة تقنية في تضخيم و تركيز فعالية معزولية الذات عن فضاء الخارج جسدا و ليس روحا.
2ـ حوارية الأسماء وتعددية ذاكرة الأسماء:
الرواية يمتلكها زمن استشعارات الشخصية المشاركة،حياة الشخصية ذاتها التي يتصارع من خلالها منظور زمنها في الحرب و الحروب التحقيبية و التاريخية من واقع تقاويم خرائب مدينة بغداد،لذا نجدها النقطة المستلهمة في وجهات النظر التأليفية والشخوصية الكامنة بين حصيلة رواة التأريخ،كمساحة مغايرة وبين أفعال الحكي القادم من ظاهر التعدد في مرويات السرد الروائي.ومن الضروري هنا أن نقول في هذا السياق أيا من العلامات المروية التي تشيد العمل وأية وجهة نظر للشخصية راح يتبناها كاتب النص؟تبعا لهذا الأمر نقول أن صوت المؤلف يشكل في وظيفة الوجه الشخوصي ـ حياة ـ كأولية تماثلية من شأنها تحفيز وترميز أسطورة استعادة محاور النص،ضمن تعددية تمثيلية خاصة بكامل أبعاد الموضوعة الروائية،لكن هذه المحاولة من لدن الروائية الدليمي تبقى تمثل في ذاتها العملية كواقعة استراتيجية أساسية نابعة من المؤلف ذاته تحديدا،وليس من المؤلف غالبا،فليس بأستطاعة المؤلف أخفاء شخصيته في الرواية،دون كشوفات توظيفية مبررة في وجهات نظر الشخصية ذاتها في محاور النص.فالشخصية حياة هي نقطة تمكين جهة نظر المؤلف الأولى،ولكنها تبقى في ذاتها الموظفة،تشكل ذلك الحيز من المساحة المعادلة من منظور(قناع المؤلف)في نصه.ويمكن لنا أن ندلل على ذلك من خلال شواهد نص الرواية،خصوصا في أوجه ما من التماثل بين صوت المؤلف وصوت الشخصية المشاركة،وذلك تزامنا مع مواقع مشتركة من خصائص مبئرات الرؤيا والرؤية المحددتان في حدود الفاصلة و الواصلة في سياق نص التشارك و التداخل في مسار التوظيف:(ينهمر صوته كإيقاع المطر:أنت حياة،حياتي..يعانق خفتي وأنا أعوم في دخان الجحيم..أشم من شعره الجعد الطويل رائحة طفل رضيع ومن أصابعه عبق عاصفة وبرق..كمثل سائرة في نومها ـ وقد أفقت على صدى صوته النائي ـ غادرت الأريكة التي أتخذتها سريرا وملاذا في ليل بغداد المروع..صعدت الدرجات الأربع عشرة خارجة من السرداب بقميص نومي..ضربني ضوء صاعق..وسمعت تغريد طائر حزين وشهقة غامضة في الحديقة وعويلا مكتوما ودوي إنفجار..بين إفاقتي القلقة وذاكرتي الملتبسة و رؤيا الرجل تذكرت إنها الحرب..تلك التي تنام على وسادتي الأخرى منذ دهر وتلتهم الرجال..ليس من أحد معي ..جميعهم رحلوا إلى ما بعد الحياة أو ضاعوا في متاهة الدم أو طواهم النسيان في المهاجر..إلا هو القاصي في القارة الأخرى..سأموت وحدي..الموت أيسر ما يتاح لامرأة في بلاد الجنون./ص10 الرواية).
3ـ المسافة الفاصلة بين التبئير الداخلي و الخارجي:
من علامات حيادية الشخصية المشاركة في نص الرواية هو محدودية سطوتها في استحداث الإمكان في السرد،فهي تتلقى ما ينقل إليها عن طريق مروية حواسها الخمس،وتظهر حيادية الشخصية المشاركة أيضا،إنطلاقا من طريقة الحكي المتوخاة بشبه الإحاطة بالموصوف السردي(شخصيات/أماكن /أشياء /تأريخ/رائحة)بل أنها تحددها بأحجامها الواردة،أو أشكالها،أو أنواعها الاستعادية،أو بأتجاهاتها أو بأسماءها.و الشخصية حياة في هذا الأمر لها نوازع فراسية متكاثرة في هجس أصداء و مراكمات ذاكرة الأشياء،ومما يقع عليه إلهامها أو نظرها أو إحساسها أو توجساتها اللاشعورية غالبا:(لعنت خوفي وفتحت مزاليج الباب الأربعة وأقفالها الضخمة التي تليق بقلعة أو سجن..خرجت إلى الحديقة شبه عمياء لما بهر الضوء عيني..تعثرت لدى الباب بمظروف أزرق فتحته فإذا بداخله بطاقة عليها رسم كوكب زحل..ما يعني هذا؟؟ولماذا زحل؟./ص11 الرواية)أن لجوء الشخصية المشاركة إلى نداءات البيانات أو الرسائل أو الحوارات المكتوبة في أقوال الرسائل،يعد علامة لافتة للإنتباه على حيادية الشخصية في تعاملاتها مع رؤية موضوعة حواجب النص،أو أنها الطريقة المثلى على ترجيح أفعال اتصالها بمعادلات زمنها الداخلي المحدد أو الخارجي في دائرة خاصة من الاحتمال والمفترض،وإذا كانت شخصية حياة في الرواية،قد تشهد بحيادية ذاتها إزاء أفعال مشاعرها و أفعال الشخوص الأخرى،فهذا الأمر بذاته ما راح يتطلبه دورها الذي يغدو غالبا مبئرا في عداد الصفر من مجرى المسافة الزمنية الخارجية و الداخلية الواقعة بين الراوي والمروي.
ـ ضمنية علاقة وحدات السرد.
ويستمد هذا الجزء المبحثي أهميته القصوى،من ما يمكن أن تضيفه المادة الروائية/الحكائية،من أحداث في تسلسلها،وعبر زمن رؤيتها المحبوكة في توظيفاتها الابعادية المتماسكة(ضمنية علاقة=وحدات صيغة السرد=تفاعل السرد)ففي رواية(سيدات زحل)ثمة مادة هائلة وجديرة بالدراسة النقدية الإجرائية،كما أنها تتميز بحركة سردية أقرب ما تكون في فصولها الأولى و المتوسطة،إلى روايات (تيار الوعي)وبتمييز خطابها ببعده الإحالي وبلغته الشعرية السردية.ولقد توفرت في هذه الرواية تمايزية رائعة،هي ضمنية علاقة وحدات السرد و المسرود،في بنية متماسكة ذات السرد المتكاتف في الوصف الذي من شأنه توفير أحقية كينونة داخلية مهيمنة على محورية بداية النص و نهايته،ودون حدوث أي خلل أو ترهل أو برود في جسد الرواية.وعلى هذا النحو وجدنا السرد الوصفي قادرا على أن يشد مستوى مكنونمن علاقة ضمنية راحت بدورها تمنح وحدات النص تصورا كيفيا في لحاظ خطاب الأحداث في نص الرواية:(بعد الأنفجارات أشرقت الشمس الجديدة فوق البلاد المحروقة النازفة..الشمس الساخنة الحلوة..بدت كرغيف ذهبي أنضجته السماء..في أهوال المخاوف عافت نفسي كل الطعام..منذ متى لم أذق خبزا ساخنا؟؟..يا إلهي!..كأنها ألف ليلة ويوم من الجوع والظمأ..لم يخبز أحد في تلك الأيام..عشنا على خبز الرقاق المجفف الذي نرطبه بالماء ونسخنه على فرن الغاز ومع الخبز قد نجد حبات تمر أو زيتون أو بعض دبس التمر وفصوص لبن مجفف..بحثت في البيت عنما يأكل لم أجد إلا كسرات خبز متعفنة تجمع فوقها النمل./ص13 الرواية)تقودنا ضمنية فقرات معالجات وحدات النص، إلى التعلق بطبيعة مرحلة زمنية قاهرة،إيذانا منها إلى الدخول إلى رؤية جديدة من مرحلة زمن الحرب الدموية،بكافة لوازمها الإمكانية في طرح إشكالية الذات المأزومة،وهي في رحم طواحين العزلة المكانية قريبا روحيا من مواجهة حقيقة هذا الزمن،حيث تنفتح الشخصية حياة ضيقا في سرداب مشاهد ذكرياتها العائلية وحكاية عشقها اليوتوبية،إذ أن المشاهد في قاع السرداب تموج بموجات أصوات ذويها الأموات،تتوغل في منجاة الرؤيا في صحوتها ومنامها أي بين الرؤيا و الرؤية،ول تنقطع الأصوات من فوق سطوح المرآة،ولا مع دكتكات عقارب الساعات القديمة:(انهمرت العبارات من صوتي أسرع من ذي قبل..ولم أستطع التوقف عن الهذيان..أهي مادة حكاياتي تتدفق من رأسي؟؟سمعت صوتي وأنا في دوامة من الزمن السائل والتوله الجارف للرجل البعيد وقد غطتني الكلمات كعباءة من نور..شف الجسد في بهجته وانتفضت الروح في يقظتها..لعلني غفوت بعدها في خدر يسير ثم أفقت من تيه المتع وطوفان الكلام وفي من التعب ما لا تصفه الكلمات./ص15 الرواية)لا نلمس في حدود آفاق الرواية،وعبر صفحاتها التصديرية،حضورا فيزيقيا ملموسا لفعل العشق،ولكن رغم غياب ذلك الرجل في تجربة الرواية التحيينية،غير أننا نتابع تلذذ الشخصية المشاركة بإعادة تمثيل فعل العشق أستذكارا،وقد يكون ربما استلهاما أو هو محض مبئراتوهمية من التوظيف الموزع بين فضاء الرؤيا ومؤشرات متعلقات الفصول اللاحقة من مسار العشق في ذاكرةالسرداب و الحرب مشهدا متخيلا،بتأملات الشخصية الروائية الطافحة في موجهات علاقات وحدات السرد الروائي المركب.
ـ تعليق القراءة:
نكتشف في جملة تحصيلات هذا الجزء المبحثي من دراستنا ذلك السياق الضمني من مسار السرد،حيث يتمثل هذا التوظيف في كون الشخصية الروائية تحيا داخل كشوفات أزمنة سرانية من علاقة الوعي و اللاوعي أو الزمن أو اللازمن في تعديلات رؤيتها وفي مواجهة تماثلاتها الأحوالية في نقطة تأريخ نشوء بدأ حكايتها الأبدية مع ذاتها المأزومة بطوالع كوكب زحل، الذي من شأنه راح يفرض جملة تساؤلات امرأة تحيا وتبحث في ظل الحروب عن أنوثتها المعلقة بين ذكريات الأموات من ذويها وبين ملفات عمها قيدار في السرداب وبين صورة ضياع مدينتها في مواطن ذاتها وفي جغرافيا حروب الخنادق وحروب النهب على مدى مسار أحقاب التواريخ والتقاويم الدامية التي تقص حكاية نهش أوصال البلاد وجلد ذوات أهلها.