ما إن تسلمت الحكومة العراقية الموقتة الجديدة مقاليد الحكم إلا واتخذت بعض الإجراءات المريبة و المثيرة التي زعزعة ثقة الشارع بها وجعلتها في موضع الاتهام و عدم حياديتها مع كافة الشرائح المجتمع العراقي و ضد بعض الشرائح المجتمع ممن ضحوا و كافحوا النظام البائد و لقوا ما لقوا من تعسفه ونير ظلمه . قد بررت الحكومة الحالية إجرائاتها بأنها مساع لتحقيق العدالة . لكن العدالة و هي وضع كل شيء في موضعه المناسب واللائق له ، لن تتحقق إلا إذا توفرت المقومات والركائز الاساسية التي تشيد عليها صرح العدالة . فلتحقيق العدالة يجب أن يعمد إلى تعميم مصداقيتها على الجميع وبصورة شاملة وبأن لا تكون على أساس محاباة جهة دون أخرى . إن عدم تحقيق هذا الشرط يظهر جليا في قرارات الحكومة الأخيرة . فهي لم تحرك ساكنا لمعالجة القضايا و الملفات المهمة التي تنزف من ميزانية البلد و قوت شعبه كالصفقات المشبوهة والفساد المالي و الإداري المستشري في كل مفاصل الدولة ، ملف الخدمات ، قضية تصدير نفط اقليم كردستان ، رواتب كبار البعثيين و الأجهزة القمعية في النظام البائد و….. و بدلا من كل ذلك عمدت في باكورة أيامها الأولى على مجابهة المتقاعدين و الشهداء و السجناء السياسييين و محتجزي رفحاء ومجاهدي الحشد الشعبي . فالعدالة لم تكن موضوعية وغير شاملة فحسب بل معكوسة أيضا تماما فيبنما يتم معاقبة المجاهدين والمناضلين ، لم تسمح الحكومة الحالية لنفسها بأن تمس قضية رواتب أزلام النظام البائد و تعكر مشاعرهم الرهيفة التي لم تتحمل بأقل من قطع الأذان و الإعناق و التعذيب والمقابر الجماعية و …. !!! تثمينا لخدماتهم في قمع هذا الشعب !!!. الركيزة الثانية لتحقيق العدالة هي أن يكون تحقيق العدالة وفقا لأهمية الأحداث و على أساس مبدأ الأهم فألأهم خاصة و أن الحكومة الحالية هي موقتة و لها صلاحيات محدودة والتي على رأسها هي إجراء الإنتخابات المبكرة . فعليه فإن الحكومة الحالية لا تملك صلاحيات واسعة شأنها كشان حكومة دائمية . مع كل ذلك ومع ما نشاهده من الظروف الحرجة و الكارثية التي تعصف بالبلاد من جائحة كورونا ، الأزمة الإقتصادية ، ملف الخدمات ، أزمة البطالة ، اجتياح القوات التركية لشمال العراق ، الفساد المالي والإداري و …. مع كل هذه الأزمات القاصمة ، نرى أن الحكومة الموقتة تركت كل هذه المشاكل و كأنها لا تهم البلد وهرعت منذ أيامها الاولى إلى التصدي لملف الشهداء والسجناء السياسيين و محتجزي رفحاء ؟! و نرى أنها و بموازاة ذلك لم تغض الطرف ( كما أشرنا ) عن إمتيازات جلاوزة النظام البائد فحسب بل عمدت وكما تتحدث الأنباء عن ذلك ، الى تمكين بعض البعثيين من المراكز الحساسة في الدولة وجهاز المخابرات والإفراج عن بعض المعتقليين البعثيين و …. مما يرجح من أنها تفعل ذلك على أساس نوايا مبطنة ظهرت بوادرها حاليا و هنالك أشواط أبعد و أعمق لتنفيذ هذه النوايا كليا . الركيزة الثالثة والمهمة الأخرى لتحقيق العدالة هي أنها يجب أن تكون على أسس قانونية وموضوعية و أن لا تنقض القوانين السارية وهذا مما أتضح جليا من القرارات الحكومة الأخيرة في نقضها للقوانين حيث أنه لم يجز إصدار قرارات وتعليمات تخالف القوانين السارية و المشرعة من قبل مجلس النواب وفقا لمبدأ تدرج القوانين و نشير هنا إلى بعض من هذه المخالفات : عمدت الحكومة إلى وضع ضريبة الدخل على رواتب المتقاعىين و هذا يخالف صراحة المادة 28 اولا من الدستور الحالي حيث لم تجوّز فرض ضرائب إلا بقانون و المادة 7/6 من قانون ضريبة التي تنص على أن مدخولات المتقاعديين تكون معفية عن ضريبة الدخل وأن ما قيل من قبل البعض الذين لم يألوا جهدا من تبرير أفعال أي حكومة جائت للسلطة بإعطائها شرعية قانونية بزعمهم ، من أن هذا القانون قديم و هنالك تعليمات جديدة تصدر سنويا للضرائب و تقديراتها ، فهو واضح البطلان حيث أن هذا القانون لا يزال نافذا و لم يغير سوى بعض التعديلات التي طرأت على بعض مواده فحسب و أن المادة التي تشير إلى إعفاء مدخولات المتقاعدين ، لم يشملها أي تعديل . و العجيب أن مثل هؤلاء المبريين نسوا أو بالأحرى تناسوا الفرق مابين القانون و التعليمات التي تصدر بين حين و أخرى على أساس ذلك القانون وتسهيلا لتطبيقه ؟ فمثلا التعليمات التي توضع تقديرات جديدة لجباية الضرائب و نظرا لتغيير الأسعار في المجتمع ، هي تقع في درجة أقل من القانون نفسه ووفقا له وعلى أساس نفس النسب المئوية التي نص عليها القانون و أنى لهذه التعليمات بأن تغيرالقانون نفسه ؟ و لو كان القول بقدم القانون على أساس الفترة الزمنية التي تم تشريعه مبررا لتركه ، فعلى غرار هذا المنطق يجب أن لا يعمل في يومنا هذا بالقانون المدني العراقي أيضا كونه شرع عام 1951 أيضا و هو أقدم بكثير من قانون ضريبة الدخل سالف الذكر ؟!! صحيح أن الحكومة الحالية سارعت ونتيجة للإستياء الشعبي ألتي جوبهت به ، إلى التراجع عن قرارها فيما يخص رواتب المتقاعدين و لكن نفس هكذا قرارات والتراجع عنها بسرعة ، يدل على وجود تخبط في قرارات الدولة و عدم إمتلاكها رؤية صحيحة , قانونية و مدروسة لتحديد مسارها و قد ابتليت الحكومة العراقية بنفس التخبط أيضا بالنسبة لرواتب ذوي الشهداء والسجناء السياسيين ففي بداية الأمر منعت كل من ينتمي إلى واحدة من هاتين الشريحتين ، من أخذ الراتب المخصص له إن كان يستلم راتبا آخر وكان راتبه أكثر من مليون دينار و هذا القرار كان مخالفا مع ما تنص عليه المادة 10 من القانون المرقم 26 لعام 2019 ( التعديل الأول لقانون التقاعد العام المرقم 9 لسنة 2014 ) من جعل هاتين الشريحتين من جملة مما إستثنوا من عدم جواز الجمع بين راتبين حيث أن كلا من قانون مؤسسة الشهداء المرقم 2 لعام 2016 ( المادة 11 / ثانيا / ألف ) و قانون مؤسسة السجناء السياسيين المرقم 35 لعام 2013 المعدل لقانون مؤسسة السجناء السياسيين المرقم 4 لعام 2004 ( المادة 7/ عاشرا / ألف ) أجاز لهاتين الشريحتين الجمع بين راتبين . من جهة أخرى نحن نتسائل بجد ، ماهو الأساس القانوني ألذي إعتمدت عليه الحكومة الحالية في قرارها هذا ؟ إن كان الأساس هو التذرع بعدم جواز الجمع بين راتبين ، فلوفرضنا جدلا أنه لم يتم إستثنائهما قانونيا من عدم هذا الجواز ولم ينص القانون على مشروعية ذلك لهاتين الشريحتين ، فلماذا جوزت الحكومة الحالية لمن يقل راتبه من هاتين الفئتين عن مليون دينار بالجمع بين راتبين ؟! طالما أن المبدأ الذي تتذرع به الحكومة من عدم جوازالجمع بين راتبين ، لو أرادت أن تتغاضى عن الإستثنائات القانونية ألتي أشرنا إليها ، يبقى عاما لم يفرق بين من زاد راتبه عن مليون دينار أو كان أقل منه ؟! وإن كان و كما بينا من أنه يجوز لهما الجمع بين راتبين ، فلماذا إختصت الحكومة هذا الجواز بمن يقل راتبه عن المبلغ المذكور فحسب ؟! ألم تدل هكذا قرارات إرتجالية و غير مدروسة ، بأنها كانت تنبع من دوافع سياسية فحسب بدلا من أسس قانونية و موضوعية ؟!
و أما بالنسبة لرواتب محتجزي رفحاء وألتي لازالت تصر الحكومة على إستقطاعها وفقا لقرارها المرقم27 لسنة 2020 ، فيمكن القول أن هذا القرار يحتوي على جملة من المخالفات القانونية الصريحة و السؤال الذي يطرح هنا هو أنه لماذا التركيز هكذا على محتجزي رفحاء فحسب ؟! حيث أنه لا يوجد قانون خاص لهم بمعزل عن قانون مؤسسة السجناء السياسيين وأن هذا القانون يشكل الأساس القانوني لمشروعية حقوقهم . فوفقا للمادة 5 منه ، فإن أحكام هذا القانون يترتب على محتجزي رفحاء أيضا شأنهم في ذلك شأن السجناء السياسيين . كما أنه هنالك فئات أخرى أتاح لها هذا القانون ، التمتع بالحقوق و الإمتيازات ألتي منحت للسجناء السياسيين . فمثلا أن المادة 2 / ثانيا / و من قانون مؤسسة السجناء السياسيين شمل ضحايا حلبجه أيضا من ضمن هذا القانون و لكن لماذا لا نرى أي إعتراض عليهم كالهجمة الشرسة ألتي جوبه بها محتجزي رفحاء ؟! ألم يدل ذلك على دوافع طائفية و سياسية بحتة ؟! و أما فيما يخص الإشكالات القانونية ألتي تضمنها قرار مجلس الوزراء الأخير بالنسبة لمحتجزي رفحاء فيمكن الإشارة إلى هذه النماذج :
حصر حق أخذ الراتب برب ألاسرة فحسب و هذا يعارض نص المادة 2/ اولا من قانون مؤسسة السجناء السياسيين ، حيث أعتبرت بأن محتجزي رفحاء و كذلك السجناء ( ممن يحق لهم إستلام الراتب وفقا من المادة 7/ تاسعا منه ) هم كل العراقيين و أزواجهم و أولادهم من ألاجانب ممن سجن أو أعتقل أو أحتجز في ظل النظام البائد . هنا مسألة مهمة أخرى يجدر الوقوف عندها و أخذها بنظر الأعتبار و هي أنها صحيح أن هذا القانون ، أسمه قانون مؤسسة السجناء السياسيين و لكن مضمونه كما أشرنا ، يشمل حتى من أحتجزوا في ظل السياسات القمعية و التعسفية للنظام البائد و منهم محتجزوا رفحاء حيث أحتجزوا في تلك المنطقة بسبب الويلات التي لحقتهم من ذلك النظام و هم قد هربوا من ظلمه و قمعه ، فالمادة القانونية سالفة الذكر تقول : في ظل النظام البائد … و لم تشترط أن يكون فعل إحتجازهم من قبله مباشرة و في المعتقلات الكائنة في داخل العراق بل أن قانون مؤسسة السجناء السياسيين قطع شوطا أكبر من ذلك حيث وسع نطاقه و كما أشرنا ليشمل حتى ضحايا حلبجه و لكن لانرى أحدا رفع عقيرته و أعترض على ذلك من أن ضحايا حلبجه لم يكونوا أساسا محتجزين فضلا عن كونهم سجناء كما أعترض على محتجزي رفحاء بحجة أنهم لم يكونوا سجناء؟! فإن أردنا أن نتحكم بالقانون فقانون مؤسسة السجناء السياسيين هو وحده الذي يحدد نطاق شموله و سريانه والعبرة ليست بالأسماء بل بالمسميات التي يتطرق إليها هذا القانون في مواده .
من جهة أخرى فقد حدد قرار مجلس الوزراء الأخير السقف الأعلى للراتب الذي يتقاضاه محتجزوا رفحاء ب مليون دينار و هذا أيضا بدوره يتعارض مع نص المادة 7/ تاسعا / ثالثا / اولا من قانون مؤسسة السجناء السياسيين , حيث جعل لمحتجزي رفحاء راتبا كالمعتقل و السجين السياسي و الذي يبلغ ( كما جاء في تفصيل هذه المادة ) إلى أكثر من مليون دينار حيث تطرقت هذه المادة بأنه يجب أن لا يقل الراتب الذي يمنح للسجناء السياسيين والمعتقليين و محتجزي رفحاء عن (3) ثلاثة أمثال أميال للحد الأدنى للراتب التقاعدي المنصوص عليه في قانون التقاعد الموحد المرقم (27) لسنة 2006 و تعديلاته أو أي قانون يحل محله ووفقا لآخر قانون تقاعد صدر في العراق و تعديلاته ( المادة 5 من قانون رقم 26 لسنة 2019 و هو التعديل الأول لقانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 حيث جائت المادة 5 من التعديل ، تعديلا للمادة 21 / رابعا / ألف / من قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 ، فإن الحد الأدنى للراتب التقاعدي هو 400000أربعمأئة الف دينار.
ألاغرب في قرار مجلس الوزراء الأخير هو إشتراط أن يكون من يستلم راتبا من محتجزي رفحاء ساكنا في العراق ؟! فعلى أي أصل و مبدأ قانوني يبتني هذا الإشتراط ؟! فهل هم موظفون حتى يشترط إقامتهم داخل العراق للحضور في أماكن عملهم ؟ و هل أن المتقاعدين ألآخرين يشترط عليهم هذا الشرط أيضا ؟ أم هل يشترط ذلك على الفئات الأخرى المشمولة بقانون مؤسسة السجناء السياسيين أيضا ؟ و بما أن قرار مجلس الوزراء الأخير لم يشمل تلك الفئات الأخرى بهذا الإلزام ، فما هو إذا المبرر القانوني للتمييز وإلقاء التزامات إضافية على عاتق محتجزي رفحاء دون أقرانهم من الفئات الأخرى في قانون مؤسسة السجناء السياسيين ؟ أم هل أن محتجزي رفحاء محكوم عليهم بمنع السفر وإقامة جبرية في داخل العراق وفقا لحكم قضائي بات ؟ ألم يكن من حق المواطن العراقي حرية التنقل و السفر والسكن داخل العراق وخارجه وفقا للمادة 44/ اولا من الدستور ؟! لماذا لم يطلب من أزلام صدام و البعثيين أن يرجعوا أيضا من جحورهم من ألاردن و تركيا و …. و يقيموا في داخل العراق كشرط لإستلام رواتبهم طالما أن الحكومة تأبى أن تمس رواتبهم و إمتيازاتهم ؟! بل أن بعض ألأصوات الناشزة و المتوغلة في مراكز القرار و وزارة المالية ، تسول له نفسه أن ينبري مبررا إستحقاق البعثيين و أعوان النظام القمعي البائد، في إستلام رواتبهم في حين يستقطع من رواتب مجاهدي رفحاء قائلا : ( أنه كان يستقطع من رواتب البعثيين لصندوق التقاعد وأن محتجزي رفحاء لم يدفعوا شيئا لهذا الصندوق ) في حين أنه إذا كان الأساس القانوني ألذي يشترط لأخذ الراتب التقاعدي الإستقطاع لصندوق التقاعد ، هو قوانين التقاعد كقانون التقاعد الموحد و غيرها ، فإن الرواتب التي يستحقها محتجزوا رفحاء بني على أساس قانون مؤسسة السجناء السياسيين و أن هذا القانون لم يشترط في طياته ، الإستقطاع لصندوق التقاعد ومن جهة الأخرى فإن الجرائم ألتي أرتكبها البعثييون بحق الشعب العراقي لهي أكبر و أدهى بكثير من مبالغ زهيدة كانت تستقطع من رواتبهم و هي أساسا كانت من قوت هذا الشعب كان يتنعمون ويستقوون به أزلام النظام البائد للفتك والقمع بحق هذا الشعب ومنهم الشهداء والسجناء السياسيين و محتجزي رفحاء .
إن المخالفات القانونية الصريحة ألتي ينطوي عليه قرار مجلس الوزراء الأخير حرى به أن يدان بقوة من قبل الإعلام و القانونيين و أن يتابع عن كثب الإجرائات التي تتعلق بطعنه أمام المحكمة الإتحادية من قبل مجاهدي رفحاء و مؤسسة السجناء السياسيين . فإدانة هكذا قرارات ليست لأسباب مادية بحتة ( إستقطاع راتب ) بل الموضوع أكبر وأدهى بكثير من ذلك فهي قضية موقف و مبدأ لشجب و صد المسار والتوجه الذي يسير شيئا فشيئا إلى تهميش و إقصاء المجاهدين والمناضليين على حساب تعزيز مكانة البعثيين و أزلام النظام البائد و ما أشرنا إليها من نماذج هي بوادر و بصيص من هذا المسار الذي إن لم يوقف بوجهه ، يؤدي إلى عواقب لا تحمد عقباه وليست الحكومة الحالية المسئولة الوحيدة عنه بل أن المسئولية أيضا تتوجه بشكل رئيسي إلى الأحزاب الشيعية ألتي مكنت هذا المسار من تسنم السلطة وقبلت به ، فهي مسئولة أيضا بذلك أمام الله و ضمائرهم و دماء الشهداء و التضحيات الجسام ألتي بذلت من أجل هذا البلد طوال عشرات السنين في أن تذهب كل هذه التضحيات سدى .