لم يألف المشهد الروائي العراقي كتابة روايات باللهجة العامية , فقد اقتصر توظيف العامية في الحوارات فقط دون الاعتماد عليها في السرد , وثمة ذرائع كثيرة لهذه الظاهرة منها : أن العامية غير قادرة على التعبير عن الواقع , والقارئ العربي لا يمكن أن يفهمها بسهولة , وثمة من يربط القضية بقدسية اللغة العربية التي نزل بها القرآن ؛ فلابدّ من الحفاظ على فصاحة اللغة , فتواضع المشتغلون في ميدان السرد على استعمال العامية في الحوار فقط ؛ لتحقيق تعدد الأصوات بشكل يُقنع القارئ بحقيقة الشخصية , وتجنب العامية سرداً , وجعل الأخير ينهض على لغة مشتركة ليست فصيحة صرفة , ولا عامية صرفة إنما هي لغة بين منزلتين , يعرفها الجميع , ويتواصل بها .
رواية ( بلبل السيد ) للروائي العراقي (حسن بلاسم) نوع تجريبي جديد في المشهد الروائي العراقي ، وهذه الجِّدة متأتية من جانبين الأول : لأنها اعتمدت اللغة العامية سرداً وحواراً على امتداد صفحات الرواية , وهذه مجازفة كبيرة بحدّ ذاتها ، وريادة غير مسبوقة في السرد العربي أما الجانب الآخر : فهو اختيار (حسن بلاسم) أن ينشرها إلكترونياً , أي : أن الرواية غير صادرة عن دار نشر , وإنما هي ملف ألكتروني بصيغة PDF نشرها في متصفحه على الــ(فيسبوك) ، وهذا الجانب غير المعهود في التداول الثقافي العربي ربما يُقصي الرواية من حيز الدراسات الأكاديمية التي تشترط التوثيق من المعلومة بدقة متناهية .
ينهض السرد في الرواية على هيكلية سيرذاتية ؛ إذ تدور الأحداث كلها حول ( محسن البلبل ) الفتى اليتيم الذي اشتغل مع عمه في مكتب( أحباب الله )، وبعد زيارة (السيد) للمكتب طلب من عم الفتى أن يرسل (محسن البلبل) يعمل في بيته ؛لأن محسن يُجيد العمل على الحاسبة ، ومولع بوسائل التواصل الاجتماعي ، فوفّر له (السيد) غرفة خاصة ، وطلب منه أن يعمل له ” إيمل ” باسم ( بلبل السيد ) فرد عليه : لا يمكن عمل الإميل بالعربي ، فردّ (السيد) : ( حبيبي آني ليش اختاريتك .. غير لأنك مطي … حبيبي أعرف ماكو عربي اكتب الاسم بالحروف الانكليزية )(ص16) ثم بدأت رحلة محسن بالعمل مع السيد في مراسلاته الخاصة التي كانت ذات طابع ايروتيكي وعلاقات غرامية مع نساء ، أُعجِبَ السيد بواحدة منهن ، فرتّبَ له ( محسن البلبل ) لقاءً معها ، وانجز السيد المحظور عرفاً وأخلاقاً وتمتع معها ، ثم أُعجِبتْ هي بـ(محسن البلبل ) واعترف الأخير للسيد ؛ فطرده من العمل معه .
عاد إلى مكتب عمه ، تطوَّعَ في تحرير العراق من داعش ، أُصيب إصابة بالغة ، عاد ليعمل في المكتب مندوباً ، يرسل المبالغ المالية لعوائل الشهداء ، اجبره عمه على العمل مخبراً سرياً ، يتجسس على ثوار تشرين ، ويكتب عنهم ، أخفق في المهمة ، طرده عمه ، وحذره بالحفاظ على نفسه ، أجبرته جائحة كورونا على العودة لمكتب (أحباب الله) تطوع لرشّ مبيد للفايروس في قطاعات مدينة الصدر ، أصيب هو دون أن تظهر عليه أعراض ، ونَقلَ العدوى إلى زوجته ( كريمة ) توفيت على أثرها ، فسافر بمساعدة عمه إلى السويد هو وبنته حوراء تعرف هناك على الفتاة ( إيميلي ) أحبت هذه أن تكون أمَّاً لابنته سافر معها إلى المغرب ثم عادا إلى السويد ساعدته ( إيميلي ) بالتخلص من قراصنة الانترنيت الذين هكروا حسابه وانتهت الرواية بما يعرف بتقنية الميتاسرد فشرح الراوي سبب اتخاذه للعامية للغة للرواية سرداً وحواراً ، وتحدث عمّن عارضه وأسبابهم لكنه أصر على تأليف سلسلة بالعامية وذكر عنوان كتابه القادم وهو ( خرب …ـه الگواد )(ص99)
ليست هذه الوقفة نقداً للأفكار التي نطّق بها الروائي راويه ، أريد التحدث هنا عن فنية اللغة العامية هذه وقدرتها على سردنة الأحداث والوقائع والشخصيات ، فقد تذرع الراوي لاستعماله العامية سرداً وحواراً بأن العامية ( بيها أحساس وحرارة وصدق وتحسها طالعة من گلبك وبيها اختصار فظيع وخطير )(ص90) هل هذه الحرارة والصدق يمكن أن تنجز رواية ؟ وإذا أنجزت هل يمكن أن تعد رواية ؟
ما لاحظته خلال قراءتي للرواية كاملة أن الرواية تتمسك بالبناء التقليدي لفن الرواية ( بداية وسط خاتمة ) والأحداث تسير بمسار مستقيم دون تعرج وهذا البناء هُجِر وصار يثير الملل . لم تتمكن اللغة العامية من تفعيل تقنية الوصف وهذه مفارقة كبيرة كيف للهجة تكشف عن احساس وحرارة لا تُمسك القارئ وتجعله يسمع ويرى وحتى يشم عند بعض المحترفين سردياً ؟! كيف للهجة حساسة لا تنقل القارئ من فضاء الاستماع إلى فضاء المشاهدة والنص المرئي ؟
هذه اللهجة العامية لم تحقق أدنى مستويات البولوفونية , ولم تكشف عن نفسيات الشخصيات كشفاً سردياً عميقاً , يُفصح بدوره عن ثقافة الروائي , وتمكنه من حرفته التي تتغلغل في لا وعي الشخصيات , وتكشف مرجعيات سلوكهم , ولاسيما أنَّ الرواية تعتمد على الشخصنة ، وتدعي التفكيك وتحاول الظهور بمظهر الخبير الناقد ، فقد أوقعت هذه اللهجةُ الروائي بالتعبوية الفجة والمباشرة .
فهل تكشف اللهجة الدارجة عن خواء الفكر الشعبي ؟ هل الدارجة غير قادرة على حمل هويات الشعب والافصاح عن أنساقها سردياً ؟ أم الخلل في الروائي وثقافته ؟ أليس غريباً أن تنتهي الرواية دون عبارة واحدة تكشف عن عمق وفلسفة ورؤية مغايرة لما نسمعه في المقاهي ؟ ألا يدعونا هذا إلى الارتياب من الرواية العراقية التي تستعمل الفصحى فنشكُّ بتلك الخطرات الفلسفية ، والعبارات المحبوكة التي تكشف عن خبرة قائلها ؟! لاسيما وأننا نُفكر باللغة الدارجة وننجز أحلامنا بها؟ ألا يضعنا غياب الوصف أمام ارتياب آخر وهو أن الوصف في الرواية التي تعتمد الفصحى سرداً ربما مسروق من مشاهد سينمائية ؟
ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بحقيقة السرد بالعامية , والسؤال : هل بعض التراكيب والمصطلحات يمكن أن تدرج ضمن العامية على سبيل التمثل ما ورد على لسان الراوي ( نزلت دمعتي من فكرت بان احنه البشر نعيش ونموت من دون ان نشوف اعضاء جسمنه)(ص32) من طبيعة اللغة العامية : الاختصار , والتكثيف , وبتر بعض الحروف , وهذه الجملة لو أردنا تأملها نجد فيها شيئاً من التفاصح , وهي ليست عامية صرفة , وأظن أنَّ الاستعمال العامي لهكذا جملة يكون كالآتي : ( بجيت من فكرت انو احنه البشر نعيش ونموت بدون ما نشوف تفاصيل جسمنه ) أعتقد أن هذا الاستعمال أكثر ايغالاً في العامية , ومثل هذه التراكيب كثيرة في الرواية فضلاً عن توظيف مصطلحات علمية كالــ(شيزوفرينيه)!! .
يبدو لي أن التفكير بإثارة الجدل أشد اغراءً للروائي من التفكير بمهارة فنية , وإعادة صوغ الواقع صوغاً جديداً ؛ فقد تغلَّبت المباشرةُ حتى على لغة الترميز ، وتأمل قول الراوي ( أكو صحفي اسمه سامي المهدي كاتلينه جماعة . ما تعرف منو ؟! )(ص36) كفيل بوضعنا أمام المباشرة الصارخة فقد غاب الفن غياباً مريباً ، وتجدر الملاحظة إلى أن ثيمة الرواية قد كَتَبَ عنها (كنعان مكية) رواية (الفتنة) وعلى الرغم من بعض الممكنات الفنية ، ومحاولة “مكّية ” الاعتماد على الوصف في توجيه القارئ صوب أشخاص معينين إلا أن الرواية لم تحدث جدلاً يليق بطموحات الروائي , ولم تؤثر في نفوس المريدين ؛ يبدو لأنهم لا يقرأون أصلاً .
ختاماً أقول : أن اللغة العامية غير قادرة سردياً على تأمل الواقع , ولا استشراف المستقبل , ممكناتها الدلالية محدودة سردياً أيضاً , ربما فات الروائي حسن بلاسم أن مهمة اللغة داخل الرواية ليست نقل الواقع إنما تأمله . والنقاش باللهجة العامية في موضوع معين لا يمكن له أن يفتح آفاقاً أخرى , وهذا يقودنا إلى القول : بأن سردنة حوادث وشخصيات أثرت تأثيراً بالغاً في خراب العراق بعد 2003م بلغة عامية يُقزِّم الحوادث, ولا يرفع الشخصيات إلى جدارة الفن .
لقد مرت هذه الرواية على حوادث مصيرية وجوهرية في تاريخ العراق , وشخصيات لها ثقل كبير في هذا المصير مروراً سطحياً تعبوياً انفعالياً اتكأ على بذاءة المفردة , وخواء الخيال في كشف الجوانب السرية في حياة الشخصيات , نحن إزاء حقبة خطرة جداً ومهمة من تاريخ العراق , لا نحتاج إلى نقل الواقع بل نرغب بتأمله ومن ثم وإعادة صوغه.