بعد فاجعة مرفأ بيروت؛ اخذ الرعب يستشري بين المواطنين العراقيين؛ من تكرار ما حصل في لبنان، وامست حملات اخراج السلاح والعتاد من المدن؛ حديث الساعة؛ للضغط على الحكومة العراقية من اجل لاتخاذ اجراءات سريعة للحد من فوضى السلاح قبل حدوث الكارثة؛ لتأتي بعض التصريحات السياسية الرافضة و المشروطة، وهذا يجعلنا نستفهم اكثر عن حجم الخزين الموجود والجهات التي تقف وراءه والمصالح المترتبة على ذلك، بالرغم من حجم الاضرار التي لحقت و ستلحق بالمواطنين؛ في حال استمرت ظاهرة انتشار مخازن السلاح والعتاد في المدن والاقضية السكنية المأهولة بالسكان.
وبمراجعة عدد الانفجارات نتيجة تخزين الصواريخ والاسلحة المتوسطة والبعيدة المدى ذات القدرة التدميرية الكبيرة في بغداد و مختلف محافظات العراق منذ 2016 و لغاية الان، يتبين لنا حصول اكثر من 15 انفجار بسبب سوء التخزين ودرجات الحرارة المرتفعة، ولعل اغلبنا يتذكر الحادثة الاكثر دموية و هي حادثة انفجار مخزن للسلاح في منطقة العبيدي شرقي بغداد في سبتمبر 2016، موقعا خسائر مادية وبشرية ومخلّفا حالة من الهلع في منطقة امتدت لعدّة كيلومترات بفعل تطاير القذائف والصواريخ عشوائيا، و بالرغم من ان رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي أصدر على إثر الانفجار أمرا لقادة الجيش بإفراغ العاصمة وباقي المدن في المحافظات الأخرى من مخازن ومستودعات الأسلحة إلاّ ان الأمر لم ينفذ بدليل وقوع انفجارات أخرى بمخازن السلاح في المدن بعد ذلك التاريخ.
تكرار الانفجارات وما ترتب على ذلك، ادى الى ان يبادر بعض المعنيين والمتخصصين باجراء احصاء لمخازن السلاح الموجودة في المناطق السكنية ببغداد، حيث رصدوا ما لا يقل عن عشرة مخازن كبيرة لا تزال موجودة داخل الأحياء التي شملها الإحصاء، وتحتوي على كميات هائلة من العتاد والأسلحة هي ذات الأسلحة التي يمتلكها الجيش باستثناء الطائرات، اضافة إلى وجود مخازن كثيرة أخرى للسلاح أقلّ حجما منتشرة في مستودعات صغيرة وفي أقبية المنازل والعمارات.
ان ما سجله الاحصاء، الذي تأكدت صحته بعد تكرار حالات الانفجارات؛ يعد مخالفة واضحة للوائح وتعليمات السلامة والامان الوطنية والدولية والتي مصدرها مواثيق ومعاهدات و قوانين ودساتير بشان تخزين السلاح المشفوعة بوجود ذوي الاختصاص من اصحاب الخبرة، لتحديد كيفية التخزين واماكنها و مدى ملاءمة المستودعات لخزن الاعتدة، كذلك يعد مخالفة للوائح و تعليمات الشركات المصنعة للسلاح التي تحدد طريقة الخزن والاستخدام لما تحويه من مواد كيمياوية، مع مراعاة ان يكون خزن تلك الاسلحة والاعتدة بعيدة عن المدن المأهولة بالسكان .
انطلاق الحملات الجماهيرية والاعلامية؛ لابعاد السلاح والعتاد عن المدن، جعلنا نبحث في الاطار القانوني والاداري والمؤسساتي الوطني، ومواقف السلطات من هذا الملف، و لنبدأ بالدستور العراقي، فقد حددت المادة التاسعة منه حظر إنشاء ميليشيات مسلحة خارج إطار القوات المسلحة، ورغم وضوح المادة الا اننا نشهد اليوم وجود كم هائل من الجماعات المسلحة التي تمتلك الاسلحة الثقيلة والصواريخ، وهذا يخالف الدستور، كما ان قانون الاحزاب نص في المادة 8 ثالثاً ” أن لا يكون تأسيس الحزب وعمله متخذاً شكل التنظيمات العسكرية أو شبه العسكرية، كما لا يجوز الارتباط بأية قوة مسلحة”، ونصت المادة 24 سادساً من القانون “عدم تملك الأسلحة والمتفجرات أو حيازتها خلافاً للقانون”. يرافق كل هذا تعليمات السلامة في خزن وتداول المواد الكيماوية رقم 4 لسنة 1989 نصت على الية التخزين والحفظ خاصة ما يتعلق بالمواد الكيمياوية القابلة للانفجار وما يترتب على ذلك في حال تم تخزينها بطريقة غير صحيحة .
اما قانون الاسلحة النافذ 51 لسنة 2017 فقد نصت المادة 3 “يمنع استيراد او تصدير الاسلحة الحربية او أجزائها او عتادها او حيازتها او احرازها او حملها او صنعها او اصلاحها او نقلها او تسليمها او تسلمها او الاتجار فيها”. كما نصت المادة 4 اولا من قانون الاسلحة “يمنع استيراد او تصدير الاسلحة النارية او اجزائها او عتادها او صنعها الا للاجهزة الامنية والعسكرية”.. الا ان القانون تراجع في مسألة عقوبة حيازة الاسلحة و اعتبارها جنحة بعد ان كانت جناية في القانون 13 لسنة 1992 ، وهذا افقد عقوبة الردع، وجعل الاسلحة بمختلف انواعها تنتشر بشكل مخيف، و تخزن بطرق مختلفة دون مراعاة السلامة والامان.
يرافق كل هذا ان اغلب البرامج الحكومية تضمنت مسألة حصر السلاح بيد الدولة، الا انها ظلت حبرا على ورق، كما ان المرجعية دعت و في اكثر من مناسبة الى ضرورة ان يخضع كل السلاح لسلطة الدولة و عدم السماح بوجود أي مجموعة مسلحة خارج نطاقها لأجل ضمان تحقيق السلم الاهلي.
و بعد تعالي اصوات المطالبة باخراج السلاح والعتاد من المدن؛ اصدرت لجنة حقوق الإنسان افي البرلمان العراقي بيانا صحفيا تدعو حكومة الكاظمي إلى أخذ الدرس مما جرى في لبنان، وان عليها إخراج مخازن الأسلحة القريبة من المناطق السكنية، وضرورة أخذ الحيطة والحذر لغرض أمن وسلامة المواطنين.
وبالرغم من تضمين البرنامج الحكومي لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي حصر السلاح بيد الدولة، و القرارات التي اتخذها، على اثر تفجير بيروت بتشكيل لجنة لجرد الحاويات ذات الطابع الكيميائي وعالية الخطورة في المنافذ الحدودية، تحسباً لحدوث أي انفجار، اضافة الى تحركاته بصدد الحد من فوضى السلاح المنفلت، التي جعلته في مواجهة مباشرة مع بعض الفصائل؛ لينتهي المشهد بين بيانات مؤيدة ورافضة لما قام به الكاظمي، فمن يتابع تصريحات بعض زعماء تلك الفصائل يجد ان سبل حصر السلاح بيد الدولة مسألة في غاية الصعوبة، وتحتاج جهد وتحرك استثنائي، خاصة ان تبريرات بعض المجاميع المسلحة باختيار الاحياء السكنية داخل المدن ، فسره المختصين حرص تلك الجماعات المسلحة على بقاء أسلحتها في متناول يدها؛ تحسبا لأي طارئ او صراع قد تواجهه مع خصومها ومنافسيها، خاصة بعد تعرضها لضربات جوية، و هذا يعني اتخاذ السكان دروعا بشرية !!
ان ما ذكرناه من جوانب دستورية وقانونية وادارية ومؤسساتية بصدد الاسلحة والعتاد واليات التخزين والحيازة، و الواقع المخالف لكل تلك الاطر، والذي فرض نفسه وبقوة السلاح، بالرغم كل المطالبات الجماهيرية التي اقترحت إما حصر السلاح بيد الدولة ووضعه في أماكن بعيدة عن المدن وفي معسكرات تتوفر فيها شروط الخزن الصحيح، او إخراج كثير من المعسكرات التي تحوي أسلحة وتعود لفصائل مسلحة، خارج المدن.
الا ان الوقائع الميدانية تشير إلى أن الحكومة العراقية الحالية لا تمتلك القدر الكافي من نقاط القوة اللازمة لتنفيذ خططها في حصر السلاح بيد الدولة، ومنع تخزينه داخل المدن، وأن البيانات والقرارات الصادرة عنها لا تعدو كونها رسائل تطمين داخلية و خارجية أو إبداء نيات حسنة أو بوادر اولية باتجاه حل هذا الملف الشائك.
ان عملية تحقيق المطالب الجماهيرية لحصر السلاح واخراجه من المدن؛ مرهونة باجراءات حكومية حازمة والحسم والمأسسة والتقنين الأمني الضروري والواجب مع تطبيق و نفاذ القانون، و وضع ضوابط جديدة لتخزين ونقل المواد الكيميائية الخطيرة و سريعة الانفجار، و جرد الحاويات عالية الخطورة التي تحوي مواد كيميائية ومزدوجة الاستخدام ونترات الأمونيوم المتكدسة بشكل شامل و عادل، ونقلها الى الاماكن المناسبة ، بالإضافة إلى تعويض كل من تضرر نتيجة حوادث التخزين المخالفة للقانون.