قبل تسع سنوات وتحديدا في العام 2011، كانت اول زيارة للعاصمة اللبنانية بيروت، التي شاهدت جمالها بعد ان دخلت طائرتنا القادمة مِن مطار بغداد الاجواء اللبنانية ليمتزج لون البحر الازرق مِع الخضرة التي تغطي جبالها وارضها، وكانك تنظر لقطعة مِن الجنة عبر نافذة الطائرة، وبمجرد هبوطنا على ارض المطار، ومغادرة الصالة شاهدت جمالا يمكن وصفه بلوحة فنية اجاد فنان مبدع رسمها، لاجد نفسي مجبرا على مغادرة الفندق فور وصولنا مِن دون التفكير بالاستراحة مِن السفر، للتجوال في شوارع بيروت وحاراتها التي كانت ترحب بالقادمين وكانها تنتظرهم على شوق.
ورغم قصر فترة وجودنا في بيروت التي لم تتجاوز السبعة ايام، لكنها كانت كفيلة لزيارة غالبية مناطقها واسواقها وشوارعها ومعالمها التراثية؟ وحين غادرتها في تلك الزيارة لم يتوقف هاتفي عن تلقي الاتصالات مِن زملاء لبنانيين يسالون عن عودتي مرة اخرى ويتمنون اعادة التفكير بالعودة لبغداد قبل اقلاع الطائرة، فهناك تجد شعبا يشبهنا كثيرا فعلى الرغم من معاناتهم وصعوبة الاوضاع الاقتصادية تجدهم يرحبون بالقادمين ويتمسكون بان تكون اول ايامك بضيافتهم، حتى سائق سيارة الاجرة (التكسي) حينما يسمع بانك عراقي، يلتفت مبتسما مع كلمات جميلة تشعرك بالسعادة، وكان اكثر مالفت انتباهي بان سائق سيارة في شارع الحمرة كان متوقفاً على جانب الطريق، حينما سمعني اتحدث مع احد الزملاء، نادى باعلى صوته، “انت عراقي” فاجبته بنعم، فرد بكلمة “اسمع لعيونك”، واذا به يرفع صوت مسجل السيارة باغنية “اعزاز” للفنان لياس خضر، نعم.. بيروت وشوارعها واهلها تشبه بغداد بطيبتها وترحب بالقادمين وتتعايش معهم.
تلك الايام والصور الجميلة تذكرتها جيدا خلال مشاهدة الانفجار “الكبير” الذي ضرب مرفأ بيروت وحجم الدمار الذي اصاب المدينة الجميلة، وكيف انتشرت سحب الدخان والنيران بشكل لا يمكن تشبيهه بغير انفجار القنبلة النووية التي القتها الطائرة الامريكية على مدينة هيروشيما اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، فشكل “الفطر” الذي رسمه الدخان الناجم عن التفجير لا يمكن حدوثه سوى بالانفجارات النووية، كما يؤكد الخبراء واصحاب النظريات العلمية المختصة، حتى ان الدخان البرتقالي اللون وصل للحدود السورية مع لبنان في حادثة هي الاولى بهذا الحجم في وطننا العربي بعد التفجيرات التي كانت تضرب مدننا العراقية مِن قبل المجاميع الارهابية المتمثّلة بتنظيم داعش والقاعدة، لكن اكثر ما يثير الغرابة هو التفسيرات المختلفة لاسباب الانفجار، فالرواية الحكومية تتحدث عن مستودع لخزن المواد المتفجرة كانت بداخلها شحنة مصادرة مِن المواد شديدة الانفجار (الامونيوم) تقدر كميتها ب2750 طناً ، قد دخلت البلاد بصورة غير رسمية، قبل ست او سبع سنوات، لكنها لم تفصح عن عاديتها او الجهة المستفيدة منها، وهو ما اثار العديد مِن الشكوك بان الشحنة قد تكون مستوردة لحزب الله الذي يقود “حرب المقاومة” ضد اسرائيل، وهي شكوك وتفسيرات لا يمكن تاكيدها مع نفي حزب الله علاقته بشكل كامل بحادث التفجير.
لكن… المعلومات المسربة كشفت جزءا مِن رواية الحكومة عن الشحنة المصادرة، حيث تتحدث عن سفينة كانت قادمة مِن جورجيا في طريقها إلى موزنبيق في العام 2013، لكنها اضطرت للتوقف في مرفأ بيروت بعد اصابتها بعطل فني، وعند تفتيشها عثرت الجهات المسؤولة على كمية كبيرة مِن مادة الامونيوم شديدة الانفجار التي تحدثنا عن حجمها في وقت سابق، ليصدر بعدها قرار بمنعها مِن الابحار، وهو ما اضطر مالكيها للتخلي عنها، فعمل طاقمها على توكيل فريق مِن المحامين اللبنانيين، ليصدر قراراً باعادة طاقمها الى بلدانهم وتفريغ حمولة السفينة في المرفأ تمهيدا لبيعها في وقت لاحق بالمزاد العلني، لكنها بقيت في مكانها ولَم تنقل او تعرض للبيع، مِن دون معرفة الاسباب، حتى حصول الانفجار، في حين تؤكد جهات لبنانية لديها اطلاع على الشحنة المصادرة بانها كانت مرسلة للمعارضة السورية خلال حربها ضد نظام بشار الاسد، وهذا ما قد يفسر طبيعة ” الصمت” الحكومي في لبنان عن كشف الجهات او الاوراق الرسمية التي تثبت طبيعة الجهة المرسلة اليها الشحنة، سواء كانت دولة او جماعة مسلحة.
ياسادة.. ان الغريب في القضية هو حجم الدفاع “المستميت” مِن بعض الاطراف لابعاد اسرائيل عن التورط بقضية تفجير المرفأ، على الرغم من تهديداتها المستمرة باستهداف جميع الاراضي التي تنطلق منها الاصوات الرافضة لسياستها واحتلالها للاراضي الفلسطينية، بحجة الدفاع عن النفس وخاصة بتكرار استهداف مقار لحزب الله اللبناني في سوريا ولبنان، وفِي محاولة بسيطة بالعودة لارشيف الامم المتحدة سنرصد خطابا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتاريخ 28 ايلول مِن العام 2018، يرفع خلاله خريطة لمرفأ بيروت وتحدث عن تخزين حزب الله أسلحة ومتفجرات في المرفأ، هل من المعقول ان تكون جميع تلك الاحداث صدفة، وخاصة تزامن انفجار بيروت مع انفجارات في منشات صناعية وبنى تحتية باربع محافظات ايرانية هي طهران ومشهد وسمنان وهرمزگان، قد تكون اسرائيل لم تستهدفها بشكل مباشر، لكن هذا لا ينفي وجود ايادٍ خفية تعمل لصالح تل ابيب في منطقتنا العربية والاقليمية، وحديث الرئيس الامريكي ترامب عن وصفه لتفجير المرفأ “بالهجوم” قد يكون بداية الخيط لمعرفة المنفذ والمستفيد.
الخلاصة… ان خسائر لبنان بسبب الانفجار لم تكن في الارواح التي بلغ عدد الشهداء منها 80 شهيدا و4000 جريحا فقط، انما هناك خسارة اقتصادية ستوثر بشكل كبير على الاوضاع في لبنان الذي يعاني اصلا مِن ازمة اقتصادية في توفير “رغيف الخبز لمواطنيه”، لكون مرفأ بيروت يُستقبل 70 بالمئة مِن البضائع التي تدخل بيروت، وترسو فيه 3100 سفينة سنويا، في وقت تظهر الاحصائيات بان ايرادته للعام 2019، وصلت إلى 199 مليون دولار، وهذا يعني بان تفحيره قد يكون افقد لبنان ثلثي واردته مِن المنافذ البحرية، وهذا ما يتطلب مِن الحكومة اللبنانية الاسراع في كشف اسباب التفجير وتحديد الجهة المقصرة، وعدم اتباع طريقة حكومتنا في تشكيل اللجان التي تتعمد التاخير اعلان النتائج دائما، بحجة، المخاوف مِن ازمة سياسية، صحيح ان نتائج التحقيق في تفجير بيروت قد تؤدي للحرب، لكن مصارحة المواطنين لا يمكن تجاهلها… اخيرا.. السؤال الذي لابد منه.. مِن المستفيد مِن تفجير المرفأ؟…..