القسم التاسع
*- إن هدف تبني نظام الحكم الذاتي من قبل بعض الدول ، يتحدد في معالجة إشكالات منح الحقوق القومية للأقليات التي أسهمت ظروفها التأريخية والإجتماعية والسياسية ، في تكوين ووجود قوميات أو جماعات أخرى متباينة معها ، ولغرض التخفيف من الآثار السلبية للمركزية السياسية والإدارية المعتمدة في تلك البلدان ، بإعتبار الحكم الذاتي فكرة مستمدة من مبدأ تقرير المصير القومي في إطاره القانوني ، فإن أكثر الحركات القومية والتنظيمات السياسية في الدول متعددة القوميات ، إقتنعت بأن الحكم الذاتي يمثل أحد أشكال التعبير السياسي القومي الذي يمكن بواسطته تنمية التراث الحضاري والثقافي لها ، دون تبني أو رفع شعار المطالبة بالإنفصال والإستقلال التام ، حفاظا على وحدة الوطن وصيانة الوحدة الوطنية ، إذ إتجهت معظم الدول التي تعاني من الصراع الداخلي وعدم التكامل ، إلى النص صراحة على الحكم الذاتي في صلب قوانينها ، وإن كان ذلك من مخلفات الآثار السلبية للدول الإستعمارية ، الحريصة على بقاء مصالحها قائمة في نوع من الروابط والعلاقات المستمرة بينها وبين مستعمراتها ، واستنسختها الدول المستقلة لمعالجة حالات عصية على الحل الوطني ، كما تؤكد ذلك نتائج البحوث والدراسات في هذا المجال سياسيا وقانونيا ، وبذلك يمكن القول بأن الحكم الذاتي : هو نظام لا مركزي مبني على أساس الإعتراف لإقليم مميز قوميا أو عرقيا داخل الدولة ، بالإستقلال في إدارة شؤونه تحت إشراف ورقابة السلطات المركزية ، وهو أسلوب للحكم والإدارة في إطار الوحدة القانونية والسياسية للدولة ، عند تمكن الوحدات المحلية الفعلية من تنظيم وإدارة جانب كبير من الشؤون العامة ، لصالح سكانها الذين يشكلون نسبة معتبرة من عدد سكان البلاد الأصليين ، تجنبا لنزعات المطالبة والتوسع فيه ، بالشكل الذي يخل بوحدة النسيج الوطني ، بدعوى ضمان حقوق الأقليات وحمايتها بدوافع سياسية ضعيفة وغير دائمة مهنيا .
*- أما فيما يتعلق بمنطقة الحكم الذاتي في شمال العراق ، وبغض النظر عن عدم تطابق الوصف المبين فيما تقدم عليها ، أو كيفية نشأة الحركة الكردية وإرتباطاتها الخارجية وملابسات تفاصيل أساليب مناهجها وعلاقات قادتها ، فقد منح الأكراد بموجب بيان 11/آذار/1970 ، سلطة الحكم الذاتي لإدارة منطقة تواجدهم ضمن حدود المحافظات العراقية الثلاث ( دهوك/ أربيل/ سليمانية ) ، مع إن ذلك أكثر مما كانوا يطالبون به أو يطمحون إليه أو يتوقعون الحصول عليه بإعتراف قادتهم ، وإن كان أسلوب إدارة الحكم الذاتي الممنوح لا يخرج عن صيغ اللامركزية الإدارية في حدها الأعلى ، إلا إنه وضع أسس ومقومات رفع سقوف المطالب الكردية الحزبية والسياسية ، التي بدأ ترديدها بدعوى عدم إكتمال أو نقص نظام الحكم الذاتي ، تمهيدا لإعلان ما كانوا يضمرونه من نوايا الإنفصال ، بدليل عدم عرفانهم وسوء تعاملهم وتعاونهم المدني المشترك في إدارة المنطقة في ظل جمهورية العراق ، بل تجاوزهم على كل واجبات وحقوق المواطنة برفع السلاح المتكرر بوجه السلطة والشعب كلما أرادوا ذلك ، على الرغم من دأب الحكومة وإصرارها على تأسيس مؤسسات الحكم الذاتي وهيئاته الحكومية . على عكس ما يواجهه الأكراد في كل من تركيا وإيران من قسوة التعامل والمعاملة ، وهم الأكثر عددا من أكراد العراق بحدود الضعف والنصف ، إلا إننا لم نعد نسمع بغير مقاتلة مسلحيهم ومطارتهم في داخل حدود العراق من قبل تركيا وإيران على حساب سلامة وأمن أكراد العراق ، ومن دون أن تحرك قوات البيشمركة وتكلف نفسها بالرد على قصف القرى والمدن الحدودية ، في الوقت الذي تعلن جهوزيتها وإستعدادها لمقاتلة القوات المسلحة العراقية ، وإشعالها نار حرب تمتد لآلاف الكيلومترات ؟!. مصداقا للقول ( أسد علي وفي الحروب نعامة ) … أما قادة الأكراد الحزبيين والسياسيين في دول الجوار ، فلم نجد لهم أثرا غير أن (عبد الله أوجلان ) سجينا و (قاسملو) في خبر كان ؟!.
*- لقد أدى انهيار الحركة الكردية المسلحة في آذار 1975 إلى أزمة كبيرة لسياسي وأحزاب الأكراد في العراق . وظن جلال الطلباني بأن الوقت مناسب لإعطاء توجيه جديد للمقاومة الكردية المسلحة والمجتمع الكردي ، فأسس مع مجموعة من الحزبيين والسياسيين الأكراد ما يسمى بالإتحاد الوطني الكردستاني ، الذي ما لبث قليلا إلا وقد أصابته سريعا جائحة الإنشقاقات بدوافع المصالح الشخصية كغيره من الأحزاب . وفي سنة 1976 بدأ من جديد بتنظيم المعارضة المسلحة داخل العراق . وخلال الثمانينيات قاد المعارضة الكردية للحكومة العراقية من قواعد داخل العراق ، إلى أن قامت الحملة العسكرية المسماة ب ( الأنفال ) ضد المعارضة المسلحة الجديدة سنة 1988. بعد ذلك سعى الطالباني إلى إيجاد تسوية تفاوضية للتغلب على المشاكل التي إجتاحت الحركة الكردية المسلحة ، بالإضافة إلى القضية الأكبر وهي حقوق الأكراد في محيط المنطقة الحالية . وقد إستفاد هو وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني ، من خسارة الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية سنة 1991 بإقامة إقليم كردي شبه مستقل في شمال العراق . لتبدأ حقبة جديدة من الحياة السياسية الكردية بعد حرب الخليج الثانية ، مستغلين إنتفاضة الأكراد في الشمال والإنتفاضة الشعبانية في الجنوب ضد الحكومة العراقية . كما مهد إعلان التحالف الغربي عن منطقة حظر الطيران فوق خط عرض 36 شمالا ، بالإضافة إلى ضمان منطقة عزل لردع أو تقليل الغارات البرية أو هجمات المدفعية على الملاذات الكردية الآمنة . وتحت مسمى ( عملية توفير الراحة ) تم نشر القوات البرية الأمريكية بحجم لواء عسكري لمدة أربعة أشهر ، مع وجود القوات الخاصة فيما بعد وبإلإشتراك مع قوات البيشمركة الكردية ، التي أسفرت عن انسحاب القوات العراقية وراء خط تحصني في أكتوبر 1991 . والتي شكلت ملاذا آمنا لبداية تقارب جديد بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني .