عبر التاريخ المعاصر للدولة العراقية تلوث العقل السياسي بعدوانية ومغالطات الايديولوجيات والطروحات العشوائية الغوغائية ، والمؤسف دائما ماتغيب الحكمة عن العقل العراقي فهو ، لا يستفيد من التاريخ ، ولايراكم الخبرات ، والسبب لأن الفكر السياسي الأيديولوجي السائد في العراق مبتلى بمرض الجمود ( وعبادة الشعارات والأفكار ) ولايتفاعل مع الواقع المتحرك ومتطلباته ، ويتجاهل مصالح البلد والناس ، طبعا هذا المرض كان قبل دخول العراق مرحلة الموت وحلول الفساد والإجرام والعمالة والتدمير الشامل الحالي !
ينطلق العقل السياسي العراقي من منطلقات يسلم بها تسليما وكأنها بديهيات ، في حين ان الواقع السياسي متحرك ومتغير وهو خاضع للنسبية والتجريب ، ويفترض بحركة الوعي أن تتبع له وليس محاولة قولبته بقوالب جامدة والتشبث بمنطلقات ثبت فشلها بالتجربة لكننا لازلنا متمسكين بها دون جدوى ومن هذا المنطلقات الخاطئة:
– أوهام قدرة العراقيين على إدارة شؤونهم :
ثبت بالتجربة منذ تأسيس الدولة عام 1921 ولغاية الآن فشل العراقيين الذريع في إدارة شؤونهم بأنفسهم ، فقد سادت الفوضى والإضطرابات والإنقلابات والحروب حياتنا السياسية ، وأُهدرت ثروات البلد ، وتأخرنا في الصناعة والزراعة والتعليم وغيرها من المقومات الاساسية للدولة ، بل أكثر من هذا فشلنا خلال عمر الدولة في أبسط المهمات وهي حفر المجاري في المدن ، وإيجاد نظام للبلديات يساعد في رفع ( الزبالة ) عن الشوارع ، فأي فشل كارثي هذا وقع على أيدي العراقيين الذين حكموا بلدهم خلال 99 عاما .. فقد تعاملوا مع التجربة الحزبية ، والسلطة ، والدولة بعقل غريزي بدائي فردي يسعى لإفتراس الغنائم ، وغاب عنه الشعور بالمسؤولية نحو الجماعة وكانت المشاعر الوطنية : اما ضعيفة أو معدومة !
المنطلق الخاطيء الآخر للعقل السياسي هو :
– أوهام المطالبة بالديمقراطية :
وهذه كارثة ، لو جئنا بأشد أعداء العراق لما تمنى أسوأ من هذه الورطة للبلد ونعني بها ورطة الديمقراطية وفتح المجالات للحياة الحزبية وإجراء الإنتخابات وتشكيل برلمان وسلطة … فنحن في العراق وجميع الشعوب العربية ، لاتتوفر لدينا البنية النفسية والعقلية والحضارة لتطبيق الديمقراطية ، فعلى الصعيد الفردي والجماعي لايوجد في حياتنا مبدأ ( إحترام حق الإختلاف ) بإعتباره حقا بديهيا للبشر ، لأننا في الاصل يغيب عنا الإيمان ( بوجود الفروق الفردية ) ، لذا نحن نبحث عن التطابق وليس التنوع ، وعلاقتنا الإجتماعية تجري على تراتبية حيث يغيب عنها مبدأ المساواة وتقوم على أساس الراعي والقطيع ، مجتمع يقوم على القهر بكل أنواعه من قبل المؤسسة الدينية والعشائر وسلطة القوى الإجتماعية وسطوة الموروث الخاطيء للتقاليد والأعراف والأفكار … والأخطر من هذا غياب الشعور بالمسؤولية ومشاعر الإنتماء الوطني الحقيقي لدى (غالبية ) العراقيين ونزوعهم للفوضى وتدمير الذات .. ومن الطبيعي ان هذا الواقع مضاد تماما للديمقراطية التي حولها العراقيون مؤخرا الى وباء قاتل إجتاح بواسطتها اللصوص والمجرمون والعملاء ميدان السياسة وصنع القرار ، ونفس كارثة فشل الديمقراطية حصلت في : لبنان ومصر وليبيا والكويت وتونس على الطريق ، ليس كل شيء منطقي ومفيد يصلح للعراق والبلدان العربية ، فالزهور الجميلة لا تستطيع العيش في الصحراء!
اما هكذا خراب .. لايصح أبداً ان يتجاهل العقل السياسي العراقي معطيات تجربة الواقع ، ويبقى متمسكاً بأوهامه وخيالاته وأمنياته .. وبهذه المناسبة كم نحن الآن بحاجة الى حكمة المرحوم الشيخ زايد عندما شعر بالضعف وغياب الطاقم المحلي الكفؤ القادر على إدارة الدولة … فما كان منه إلا ان تخلى عن الكبرياء وشعارات السيادة والإستقلال وإستعان ببريطانيا وأميركا ونجح في بناء أفضل نظام سياسي ودولة مزدهرة في الوطن العربي : دولة الامارات الجميلة.
لقد ذهبت حضارات : سومر وبابل واشور، والعنتريات الفارغة لاتنفع ، لسنا الأفضل بين البشر … ونحن أبناء هذا اليوم الذي يعتبر فيه العراق دولة فاشلة بمعنى الكلمة .. دولة لا تستطيع توفير رواتب الموظفين ، وتوفير الكهرباء ، ولاحتى تنظيف المدن من الزبالة ، دولة الميليشيات والقتل وسرقة المال العام وجلعها ضعفها ألعوبة بيد إيران التي أدخلت لنا الخراب الشامل … وقد حان الوقت لتغيير منطلقات العقل السياسي على ضوء هذا الواقع المفجع !
صفحة 1 من إجمالي 2