منذ القدم كان الشغل الشاغل للخيّرين من المفكرين والفلاسفة والأنبياء ودعاة اللاعنف أن يغسلوا أدمغة البشر من الأنانية والظلم والجهل وجنون التملك، وأن يمنعوا استعباد القوي للضعيف، والغني للفقير، والرجل للمرأة، والكبير للصغير.
وقد تراكمت، على مر العصور والأزمان، أكداس من النظريات والفلسفات والمدارس الفكرية والأديان الرائدة الهادفة إلى نصرة الخير على الشر في الطبيعة البشرية، وتألقَمفكرون ومصلحون وفلاسفة وأنبياء خالدون صلب بعضهم، وقُطّعت أرجلُ بعض آخر منهم وأيديهم من خلاف، ومات بعض آخر في غياهب السجون، واختار منهم كثيرون المنافي النائية القاحلة هاربين من ظلم شعوبهم التي نذروا أنفسهم لإيقاضها وإنصافها.
بالمقابل، ومنذ القدم أيضا، قامت ضدهم حركات وتجمعات وتحالفات ونظريات وفلسفات وأفكار معادية لكل من يدعو لمنح الإنسان حريته، ولكل من يحثه على رفض العبودية والاستسلام لأصحاب السلطة والثروة والسلاح.
وكما التفَّ حول دعاة الخير والعدل والسلام خلقٌ كثير فقد تجمهر خلقٌ آخر حول دعاة الشر والظلم وتجار الحروب.
ولكن الذي لابد من الاعتراف به، في أيامنا هذه، هو أن جميع أؤلئك الناصحين والمعلمين والوعاظ والمجاهدين والمبشرين والفلاسفة والأنبياء، بكل رسالاتهم وتضحياتهم، لم يفلحوا في إشفاء شعوبهم من الفكر الظلامي، ومن الميل الفطري إلى استخدام العنف لتحقيق الغلبة على الآخرين. ومن الثابت، تاريخيا، أن الذين حملوا السلاح، بالأمس، ضد الأنبياء والمصلحين كانوا قلة، أما اليوم فهم أكثر وأكبر وأخطر.
فبعد أن كان العصاة والجناة الأولون يتسترون، ولا يقتلون إلا في الظلام، غدرا، وهم خائفون متوجسون حذرون، أصبحوا اليوم يمارسون مهنة الذبح علنا وعلى رؤوس الأشهاد، بملابس الحكومات وأموالها وسلاحها، و لهم إذاعاتٌ وفضائيات وجرائد ومساجد وجوامع وحسينيات ومدارس وجامعات متفرغة لنشر الجهل، وترويج الضلال، والإفتاء بقتل الخارج عن طاعتهم، وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي ومؤسساته الإنسانية العالمية، ولا يخافون ولا يستحون.
والحديث هنا عن العراق وعن شقيقاته العربيات المبتلاة بالخنجر الحلال المدهون بزيوت الممانعة والمقاومة، والمجاهد في سبيل النصر المبين على ممالك الاستكبار العالمي ووكلائها المغضوب عليهم والضالين المضللين.
أما المصيبة الأكبر فهي أن أكثرهم شراسةً ووحشية ودموية يزعمون أنهم أحفاد نبي، أو ولي من أولياء الله الصالحين.
فكأنَّ الحكيم الخالد حمورابي الذي حفر قوانينه بالسكين على مسلته الشهيرة التي ما تزال قائمة إلى اليوم، وجميع من جاء بعدَه من مشرعين ومصلحين وفلاسفة وأنبياء لم يمنعوا ظهور إبن تيمية ومحمد عبد الوهاب وحسن البنا وسيد قطب، ولم يَحولوا دون ولادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والقاعدة، ثم الزرقاوي وأبي بكر البغداديوداعش، والملا عمر وطالبان، فالخميني وخامنئي وأردوغان، والإخوان المسلمين، والحرس الثوري، ومئات الأحزاب والفصائل والحركات والتجمعات الدينية المسلحة التي تذبحبالسكين، وتقتل بكاتم الصوت، وتتاجر بالرقيق والمخدرات، وتُهريب المطلوبين للعدالةوهي حاملة اسم الله ورسوله وآله أمراء المؤمنين.
وقد عودنا المجادهدون على أن يقتلوا بمفخخاتهم وصواريخهم من المدنيين غير المسلحين خمسين ومن غيرهم واحدا أو لا يقتلون.
ورغم أن المتعارف عليه أن أوربا وأمريكا، بشكل خاص، قطعت أشواطا بعيدة في التحضر والتقدم، وأصبحت ذات أنظمة ديمقراطية تنادي بالعدل وتقدس حقوق الإنسان في الحرية والعدالة والمساواة، إلا أن حكوماتٍ قادرةً وفاعلة من حكومات هذه الدول العظمى إذا لم تضع جيوشها وأجهزة مخابراتها وأموالها وطائراتها المسيرة وأقمارها الصناعية لتقوية الجماعات المسلحة التي صنّفتها ضمن قوائم الإرهاب، فهي تغمض عيونها عن الجهاديين الذين يُحللون التطرف ويحرمون الاعتدال، ويستهزئون بسلطة القانون، وينكرون حقوق الإنسان.
وأغلب الظن أن هذه الحكومات الغربية اللئيمة تفعل ذلك من أجل أن يظل بعضنا يُقتّل بعضنا، ولا يتوقف، وهي تتفرج وتضحك في سرها من جهالة الجاهلين.
خصوصا وأن هذه الحكومات، في الغرب (الديمقراطي العلماني)، تعلم أكثر من غيرها بأن الجماعات المسلحة كلَّها، مهما اختلفت أسماؤها وأشكالها وألوانها، خطرٌ مدمر لا على مجتمعاتنا الآمنة، بل على الإنسانية جمعاء، وعدوٌ مبين للديمقراطية والعدلوالسلام.
فلا يعقل أن تكون الدول العظمى، وبالأخص تلك التي دوخت الدنيا بحديثها الطويل عن محاربة الإرهاب، لا تعرف من يمول الإرهابيين، ومن يسلحهم، ومن يُؤيهم ويتستر على قادتهم ومجنديهم القتلة المجانين.
نعم، لقد غضب كثيرون، في أميركا وأوروبا، على القتل الدائر في دولنا العربية والإسلامية منذ نصف قرن من الزمان، وهتفوا ضد الإرهاب والإرهابيين، ولكن أحدا منهم لم يفعل شيئا حقيقيا لمنع إبادة قرية آمنة فقيرة ببرميل متفجر أو مفخخة أو صاروخ، في سوريا وليبيا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن، حتى وهم يعرفون الفاعل جيدا، ويعرفونأصله وفصله، ويسمونه ديكتاتورا، وإرهابيا، نفاقا وزورا وانتهازية. وفي النهاية نسأل، من الذي انتصر، ومن الذي سوف ينتصر؟ متى، أؤلئك المصلحون الخالدون والأنبياء والأولياء الصلحون، أم أحفادهم؟، هل من جاب؟؟