ذكر ابن حمدون” قال أحمد بن وزير القاضي: لما ولّاني المعتزّ القضاء قال لي: يا أحمد قد ولّيتك القضاء، وإنما هي الدماء والفروج والأموال ينفذ فيها حكمك، ولا يردّ أمرك، فاتّق الله وانظر ما أنت صانع”. (التذكرة الحمدونية).
يعترف معظم السياسيون العراقيون ان جسر الثقة بين الشعب العراقي والحكومة قد إنقطع ولا سبيل الى إصلاحه، بل يوم بعد آخر تزداد الهوة بين الشعب الواقف عاجزا في ضفة والحكومة العاجزة الواقفة على الجهة الأخرى من الضفة، بمعنى ان العجز هو القاسم المشترك بين المتناقضين والمتنافرين. منذ الغزو الغاشم تبنت الحكومات العراقية العديد من المشاريع التي تزامنت مع الميزانيات الإنفجارية، وعندما انجلى الضباب لم يجد الشعب العراقي شيئا، فقد بخرت حرارة الفساد الحكومي جميع تلك المشاريع الوهمية، ولم يحاسب القضاء العراقي أحد من الحيتان الكبيرة للفساد، ولن تتم محاسبة أي من الفاسدين لسبب واضح وهو ان مجلس النواب فاسد، ورئيس الجمهورية فاسد، ورئيس الحكومة وحكومته فاسدون والقضاء فاسد، والمدعي العام هو الخيمة التي تحمي الفاسدين، والإعلام العراقي مهرج وهو بوق للحكومة، فمن أين يُرتجى الإصلاح؟
عندما وصف مفجر الحرب الأهلية عام 2006 المهووس (ابراهيم الجعفري) حكومته بالحكومة الملائكية، كانت هذه من أقوى خطاياه، وما اكثرها، وانسحب رئيس الملائكة الى وطنه بريطانيا محملا بمئات الملايين من الدولارات، ولم نعد نسمع شيئا من تخريفات صاحب القمم وعبث مارده، لم يبق سوى صدى من استقبلوه من المهرجين في المطار (علي وياك علي)، بعد ان تحقق هدفهم الأبدي (نريد حاكم جعفري)، وحكمهم الجعفري بمنهج آل البيت، فماذا يريدون بعد؟ وهذا ما يقال عن معظم السياسيين الذي كانوا يستجدوا الأموال من المخابرات الأجنبية، واصبحوا أصحاب مليارات والضعفاء منهم أصحاب ملايين.
ولأن الكلام يطول عن فساد حكومات الإحتلال المتتالية، ولأننا وغيرنا تحدثنا الكثير عنها، ولم يعد هناك مسوغ لتجديد الحديث، فقد ملٌ القلم، وضجرت الأوراق، وشكت الحواسيب من تكرار تلك الأحاديث التي لم تجد لها صدى لا عند الحكومة ولا عند الشعب العراقي، الذي فوت فرصة ذهبية خلال تظاهرات اكتوبر، فقد حصل على زخم جماهيري فوق ما يتصوره العقل، وسرعان ما أضاعه جراء السلمية التي دفع ثمنها من دماء الشهداء والجرحى والمعوقين والمختطفين، كأنك يا ابو زيد ما غزيت. عندما تتعامل بسلمية مع ارهابيين ومجرمين، فأعلم انك ستكون الخاسر دائما وسوف لا ينصفك أحد. كان الموقف أشبه بأسد مكبل بالقيود، انهالت عليه الذئاب بالعض، وهو يئن من الأوجاع ويشكو عدم القدرة على المواجهة بسبب القيود. السلمية كانت السبب الأول لفشل ثورة اكتوبر وهذه هي الحقيقة، وجاء فيروس كورونا ضيفا مرحبا به من قبل حكومة الميليشيات، وضيفا ثقيلا على الثوار, الحقيقة لو ان الثوار إقتحموا المنطقة الخضراء مع عنفوان الثورة، ما كانوا دفعوا هذا العدد الهائل من الضحايا، إن تردد الثوار لا يصنع النصر، ومواجهة السلاح بالهتافات تعني الخسارة المؤكدة، بل عندما تعتدي القوات الحكومية والميليشيات الإرهابية على الثوار، دون ان يجدوا ردة فعل مقابلة فهذا بمثابة تشجيع لهم على إستمرار القمع والمغالاة فيه، بل أمن لقوات مكافحة الشغب والميليشيات الولائية النجاح في قمعهم كما أظهرت النتائج فيما بعد، واليوم صار عند الحكومة والميليشيات المبررالكافي والمقبول لفض أي أية تظاهرات مستقبلية بحجة الكورونا والخوف على الثوار من الإصابة بها، وسبق أن أشرنا في عدة مناشدات الى ضرورة تغيير نهج الثوار، ومع الأسف لم نجد أية إستجابة، وسرعان ما تحول الأمل الوحيد الى خيبة، تضاف الى مسلسل الخيبات التي مُنينا بها منذ عام الغزو الغاشم.
البعض أعتبر إستقالة المجرم الإيراني الخسيس (عادل عبد المهدي) إنتصارا للثورة، وهذا وجه واحد من عدة وجوه للحقيقة، فعادل عبد المهدي إستقال بناء على دعوة مرجعية النجف التي أتت به، حسب ما صرح به في إستقالته، وجاء مصطفى الكاظمي رغما عن أنوف الثوار، جاء من نفس الرحم الفاسد الذي جاء منه سلفه، ولا تنطبق عليه أي شرط من شروط الثوار، وظن بعض الثوار انه ربما يختلف عمن سبقوه، ومن الصعب معرفة المعيار الذي إعتمدوا عليه في هذه الرؤية، التي تبين فيما بعد انها خاطئة مائة في المائة، فهذا الرجل شغل منصب رئيس جهاز المخابرات، وكان قريبا من المجرم (عادل عبد المهدي) واعتبر حكومته حكومة انجازات، وانه ظُلم، وبالطبع يعني أنه ظُلم من قبل الشعب العراقي لأنه شغل اكبر منصب في الدولة، فمن يقدر على ظلمه غير الشعب فقط!
الحقيقة ان إنجازات عبد المهدي هي ثلاثة فقط، اولهما سلم العراق الى الولي الفقيه، وثانيهما إنه دعم ميليشيات الحشد الشعبي ماديا ومعنويا، وثالثهما انه قتل (700) عراقي، وجرح (25000) عراقي واختطف وغيب (84) ناشطا، واعتقل (18000) متظاهرا. نقول هو اي عبد المهدي وليس قواته وميليشياته، لأنه كان رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، على الرغم منه انه لم يخدم يوما واحدا في الجيش العراقي، بل كان يقاتله في الحرب العراقية الإيرانية، إن الشعب الذي يرضى بعادل عبد المهدي حاكما له، عليه ان يتحمل تبعات رضائة وعدم الشكوى منه مهما كان إجرامه وفساده. هرب الفاسد المنحظ عادل عبد المهدي وأسرته الى فرنسا محملا بملايين الدولارات، وستطوى صفحته كما طويت صفحة سلفه المخبول (إبراهيم الجعفري).
عندما تسلم الكاظمي دفة الحكم، أعلن بأنه من أول مهامه كشف االإرهابيين الذين قتلوا المتظاهرين السلميين وتقديمهم الى القضاء، ولا نعرف أي قضاء يقصد؟ فالقضاء هو حامي الفساد في العراق، والمدعي العام هوعراب الميليشيات الولائية. ننوه إننا في مقال سابق توقفنا كثيرا حول هذا الزعم الغريب، لأنه ليس من المعقول ان لا يعرف مدير أكبر وأهم مرفق أمني في العراق من هم قتلة الثوار، هذا أمر لا يمكن أن يعقله أي إنسان، فهو ان كان يعرف ويحرف الحقيقة فتلك مصيبة، وان كان يجهل حقا فتلك كارثة، وهذا ما سنوضحه لاحقا.
البعض تفائل عندما أعلن أحد مستشاري الكاظمي بأنه تم تشكيل لجنه من عدة جهات للكشف عن أعداد الشهداء والجرحى والمختطفين، والجهات التي تقف وراء قتلهم وجرحهم وخطفهم، وان اللجنة تعمل بشكل يومي وجدي على هذا الأمر، وتفاجئنا بعدها ان اللجنة على وشك الإنتهاء من تحديد عدد الشهداء والجرحي، توقفنا أمام هذا الأمر الغريب لإعتبارين:
اولهما: لعد تغير المعنى حيث لم تتم الإشارة الى القتلى الإرهابيين، وانما الى أعداد الشهداء والجرحى فقط. وهذا خلاف وما وعد به الكاظمي، أي الكشف عن الجناة.
ثانيهما: ان عدد الشهداء والجرحى والمخطوفين معروف ولا يحتاج الى لجنه، بإمكان اللجنة التنسيقية للتظاهرت ان تعرض سجل الشهداء والجرحى والمختطفين والمعتقلين على الكاظمي، كما ان الكاظمي كرئيس جهاز المخابرات يعرف تماما عدد الضحايا، فتشكيل اللجنة مجرد تسويف لا أكثر.
في لقاء الكاظمي مع أسرة الشهيد (هاشم الهاشمي) وعدهم بأنه لا تغفى له عين الا بعد كشف الجناة وتقديمهم الى القضاء، ومرت الأيام، غفى فيها الكاظمي وضميره، ولم تغفو عيون أسرة الهاشمي، وتبيين انه وعده تسويف أيضا، علما ان كاميرات الشوارع رصدت القتلة ونوع وارقام عجلاتهم وتتبعتهم الى مقرهم، وهم من كتائب حزب الله العراقي. الغريب ان الجهات الأمنية العراقية كشفت عن الناشطة الألمانية المختطفة (هيلا مويس) خلال (72) ساعة، ولكنها لم تكشف عن الثوار المختطفين منذ عدة أشهر!!! هل من سبب معقول؟
لكن كما يقال حبل الكذب قصير، والحقيقة تكشف عن نفسها بنفسها مهما تم التمويه عنها، ومهما طال الزمن، انها مثل شعاع الشمس في رابعة النهار، فقد تبين ان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي كان يكذب على الشعب العراقي عندما إدعى انه شكل لجنه لمعرفة قتلة المتظاهرين، وهذا ما بينه وزير الدفاع السابق (نحاح الشمري) في لقاء له مع الإعلامي نجم الجبوري ( الذي نزع عنه ثوب الطائفية ولبس ثوب الحقيقة من جديد، وهو مطلب الشعب العراقي منه نأمل أن يبقى في هيئته الأنيقة هذه). سبق أن وضح الوزير الشمري بأن وزارته لم تستورد قنابل الغاز المميتة التي فتكت بالمتظاهرين، وإنما طرف ثالثة خاف من تسميته، مع انه معروف للجميع، اي الحشد الشعبي، وجهة الإستيراد ايران وصربيا، فقام الذباب الالكتروني للحشد بتشويه سمعته وسمعة عائلية، وهذا ديدن الولائيين، فقد تعلموا الخسة والحقارة من أسيادهم في طهران.
فجر الشمري قنبلة صوتية عندما ذكر بأن الحكومة السابقة شكلت لجنة تحقيقية عن قتلة المتظاهرين برئاسة وزير التخطيط السابق ( نوري الدليمي ) الذي لم يتطرق الى الموضوع بتاتا، وهذا الجبن معروف عن الوزراء السنه، تعودنا عليه، وضمت اللجنة الوزير الشمري نفسه ووزير الداخلية، ووزير العدل ورئيس جهاز المخابرات (مصطفى الكاظمي) وجهات أخرى، وقال إن اللجنة تعمقت في التحقيق، وكشفت كافة الملابسات، وانها اكملت عملها بدقة وشفافية وحددت الجهات التي تقف وراء قتل وجرح وخطف الناشطين بالأسماء، والمبرزات الجرمية. وقدمته الى القضاء العراقي ليبت في الموضوع.
ملاحظات مهمة
لماذا لم يكاشف رئيس اللجنة وزير التخطيط السابق (نوري الدليمي) الشعب العراقي عن إستكمال عمل اللجنة، وتقديم النتائج النهائية الى القضاء، ويبرأ ذمته، ان كان له ضمير وذمة أمام الله والشعب. وهذا ما يقال عن بقية أعضاء اللجنة الساكتين عن الحق.
كشف الوزير نجاح الشمري بأن القيادة العسكرية أعدت خطة لإنزال عسكري بالطائرات السمتية على المطعم التركي (مقر المتظاهرين الرئيس في بغداد)، ولكن الشمري حذر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي من مغبة هذا العمل فألغاه، وتبين ان الفريق (عبد الأمير يار اللهيارالله ) تمرد على أوامر القائد العام للقوات المسلحة، حيث أوعز لمدير طيران الجيش بتنفيذ المهمة رغم إلغائها من قبل رئيس الوزراء، ولم يحاسبه عبد المهدي عن التمرد على أوامره! وهذا ال(عبد الأمير يارالله) مازال من كبار القادة في الجيش وتمت ترقيته في زمن الكاظمي وعينه رئيسا لاركان الجيش، فكيف عينه الكاظمي بهذا المنصب وهو يعرف أوليات الحادث وتمرد يارالله على القائد العام للقوات المسلحة؟ علما اننا أول من حذرنا اللجنة التنسيقية بمناشدة في عنفوان الإنتفاضة حول عملية الإنزال او التعرض بطائرات مسيرة لضرب المطعم التركي، او تفجيره.
الأمر الأكثر غرابة لماذا غلس رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي عن الحقيقة حول إكمال اللجنة السابقة التحقيق حول قتلة المتظاهرين، وانها رفعت الملف كاملا الى القضاء؟ ولماذا شكل لجنة جديدة للتحقيق في ملف القتلة، طالما ان التحقيق أنجز كاملا وانه في عهدة القضاء؟ اليس الكاظمي أحد المشاركين في اللجنة التحقيقية وعلى معرفة بكل تفاصيلها. الا يعني هذا انه يماطل ويسوف بلجنته الجديدة؟ وهل يمكن الوثوق به بعد ان تكشفت الحقائق.
ملفات سقوط الموصل، وعبارة الموصل، وصفقات الفساد والمشاريع الوهمية وملف قتل المتظاهرين جميعها وغيرها من الملفات الخطيرة موجودة في عهدة القضاء العراقي، ولم يحرك ساكنا للحكم في أي منها!! فهل يمكن الثقة بمثل هذا القضاء المسيس لصالح الفساد والإرهاب؟ اليس من المفروض ان يحال جميع القضاة الحاليين والمدعي العام الى القضاء الدولي كالمحكمة الجنائية، لأنهم شركاء في الإرهاب والفساد الحكومي؟ لقد أنتقلنا من عبارة الأرجنتين الى الطرف الثالث وانتهينا بأشباح الكاظمي، وهم نفس الكيان المسخ الذي يعرفه الشعب العراقي، والقضاء المسيس.
قال علي بن أبي طالب” ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء حين يلقاه إلا من عدل وقضى بالحق ولم يحكم بالهوى ولم يمل مع أقاربه ولم يبدل حكماً لخوف أو طمع، لكن يجعل كتاب الله مرآته ونصب عينيه ويحكم بما فيه”. (التبر المسبوك).
الخاتمة
اقول للمتظاهرين: لا تظنوا ان الكاظمي سيثأر لدماء شهداء وجرحى انتفاضة اكتوبر، ولا ان يكشف الحقيقة، ولا أن يعترف بفشله، ولاتظنوا ان القضاء العراقي سيفتح أي من ملفات القتل والفساد، لقد ذهبت دماء الشهداء والجرحى الزكية سدى مع الأسف الشديد، فالعراق بحاجة الى ثورة تقتلع الفاسدين والإرهابيين، وليس الى إنتفاضة سلمية تكون اشبه بريشة تتلاعب بها رياح الميليشيات الولائية وقوات مكافحة الشعب (الشغب). واقول لعائلة الشهيد البطل هاشم الهاشمي، اقرأوا مسرحية في إنتظار غودو، فلا غودو يأتي، ولا الكاظمي يوفي بوعده. رحم الله شهداء العراق، والشفاء العاجل للجرحى، والعودة الميمونة للمختطفين، والخزي والعار للرئاسات الثلاث.