بمجرد أن دخل إلى غرفة القسم الداخلي ، راجعاً من عطلة نهاية الأسبوع سألني :ما ذا تقول الأخبار ؟
قلت : الإيرانيون أحتلو جزيرة الفاو !
كان ذلك عام 1986 ..
دُهِش ” سلام ” من هذه الأخبار كثيراً ، وفُزّع ، بعدها بعام تخرجنا من الجامعة ، وإفترقنا لحظة تسويقنا إلى جبهات القتال ، بعد أشهر أستشهد ” سلام ” في آخر معركة مع إيران.. قبل نهاية الحرب بأسبوعين فقط !! وخلال 30 عام ولحد اليوم وبمجرد أن أسمع كلمة ” الفاو ” أتذكر ماقاله سلام لحظة سماعه خبر إحتلالها ..
” ستنهلّ شواطيء من الدماء هناك ”
ولكن ” سلام ” هاهو الأن يجلس قبالتي !! وجهاً لوجه..
– ” سلام ” !!! أنت حي !!؟؟ لازلت حي !!؟؟ سألته مبهوتاً
– وما الذي حدث !!؟؟ هل حدث شيء ما !!؟؟ أجابني بإستغراب ودهشة ..
– أعتقد .. أظن .. ربما.. أنت أستشهدت في الحرب !!
– إستشهدّت في الحرب !!؟؟ ولكني أتكلمّ معك الأن .. فكيف لميّت أن يتكلم ..؟
– إنها واحده من إثنين .. فإمّا أني أحلمّ .. وطالما حَلمّت بِكّ .. أو أني أيضا ميّت !! ولكنك لمّ تَزّل كما رأيتك للمرة الأخيرة ..لازال عمرك 24 سنة.. !! بلا تجاعيد ولا شيّب..أنتَ لمّ تكّبر..!!
– وأنتَ كَبُرت كثيراً يا إبراهيم .. !! أخر مرة رأيتك فيها كان عمرك 23 سنه .. ماهذا الشيب ألذي أشّعلَ رأسك .. ؟ وهذا الوزن الزائد .. ؟ ولكن !! كيف حال أمّي ؟ وأين هيّ الأن ؟
– أمُكَ ماتت بعد موتك بشهر ! ماتت قهراً وكمداً عليك !! أنت تعرف كم كانت تُحبك !
– هل حقاً تعتقد بأنني قتلت في الحرب ؟ كيف حصل ذلك ؟ كل ماأذكره بأن فرقتنا ستقوم بهجوم على أحد القطعات الإيرانيه ، كان ذلك في قاطع .. أم .. أم .. أممممم
– “سانوبا ” في” مندلي ” يوم 22 تموز 1988
– نعم .. في ” سانوبا ” بعد إطلاق المدفعية العراقية هجمنا نحن المشاة ، وكنت أحمل بندقية وأهرّول أنا وبقية الجنود ، نهرّول ، ونطلق الرصاص ، كانت مواضع الإيرانين أمامنا ، لكن ..لا أذكر ..لا أذكر ..أخر شيء أذكره هو أني أهرول بألاتجاه المعاكس ، بأتجاه الفرقة العراقية ، أنا وكل الجنود !! ثم .. لا أذكر شيئا .. أبداً ..
– إسمع .. سلام .. لقد تعرضتم لقذائف ” كيمياوي ” !!
– “كيمياوي ” !! لا .. لا.. لو كان هناك إحتمال لضربة كيمياوية لأمرونا بلبس الأقنعة !!
– الغاز الكيمياوي تم إطلاقه من قبل قوات عراقية أخرى على الجانب الإيراني ، وربما حدث تغيير في إتجاه الريح ، فوصلت اليكم ، وسقط من سقط ، ربما صرخ أحدهم ” كيمياوي “!! فأعطيت لكم الأوامر بالانسحاب ، لقد إنسحبت إلى فرقتك ، ولكن الغاز تمكن منك !! لقد كانت جثتك متفحمة بالكامل ، كانت أكبر من حجمك الحقيقي ، كان جثمانك متفحماً بالكامل ، هكذا أخبرني أخيك ألذي لم يتحمل دخول المغتسل ، فبقي في الخارج ، الأخرين أخبروه بذلك ، نعم كانت الشضايا تملئ صدرك ، وهذا بفعل الصواريخ الإيرانية ، وربما بعد سقوطك في المعركه !!
– كيف عرفت هذا ؟
– في مجلس عزائك !! جاء جنديان من رفاقك ونُقلَا لإهلك بالتفصيل ماحدث في المعركة ، قالو إنك كنت تركض في المقدمة وبدأ الجنود بالتساقط فصرخ أحدهم : ” كيماوي !! ” أهربو ..فركض كل الجنود للخلف وكانت صواريخ ايرانية تسقط عليكم..
لازال لليوم أخوك يحتفظ بدفتر الخدمة الخاص بك ، مليء ببقع الدم ومثقوب بالشظايا !!
كان أكثر مايؤلمني هو إنتهاء الحرب بعد موتك بأسبوعين !! كان بإمكانك تلافي الأمر بأي طريقة !!
– كيف تعيشون اليوم ؟
– هل حقا إنتهت حرب الثمانِ سنوات ؟
– ماالذي جرى عليكم ؟
– نعم ” إنتهت الحرب .. وفرِح الناس فرَحاً عظيماً ، صدّق أو لا تُصدّق بأن صَدّام إحتل الكويت ! بعد سنتين من إنتهاء الحرب مع إيران ، فقامت أميركا ومعها دول العالم بإخراج الجيش العراقي من الكويت وتدميره ، لقد أعادو العراق لعصر ماقبل الصناعة ، لم يبقى شيء لم يتم تدميره ، إستمرت الحرب 45 يوم ، بعدها حدثت إنتفاضة في الجنوب ، ضد الحكم ، وسقطت 9 محافطات بيدهم ، تم إخمادها عن بكرة أبيها ، عشنا حصار عالمي 14 سنه ، تدهورت العُملة ، والإقتصاد ، والمعيشة الى أدنى مستوى ، بعد 14 عام قررت أميركا أن تُسقِط صَدّام ، وخلال ثلاث أسابيع دخل الأميركان إلى بغداد ، وإنتهى كل شيء ! أعتقلوّه .. وحاكموّه في قصرِه ، وأعّدم بعد ثلاث أعوام ، جائتنا أميركا بالديمقراطية ، نَتَجَ عنها حرب أهلية بين السُنةَ والشيّعة ، إستمرت أعوام طويلة شَرِبَ بَعضهمّ من دَمّ البعضَ الأخر ، وبعد مئات ألأف الضحايا تَصالحوّا !!! واليوم ننعمُ بحُكم الذلُمقراطيُة !! بفضلها إنفتحت على العراق أبواب جَهنّم ، ملاييّن هَربَتّ من البلد ، وعشرات دخلت ، مِثلَ أسرَاب الجَراد ، الجّراد الذي لا يُبقي ولا يَذّر .. جاؤوا والتهموّا كل شيء ! قالوا إنهم سيحوّلون العراق إلى جنة تجري من تحتها أنهار ، تضاف إلى الأنهار التي تجري فوقه ! لكنهم إبتلعوا ما فوق الأرض وما تحتها !
– ” شوف “..!!..
– ماذا أشوف…؟
– “شوف بقينا فين ياقلبي .. شوف بقينا فين ”
– الله الله على “عبد الحليم” وزمن “عبد الحليم” …لم تكن تحب غير “عبد الحليم”..!!
– “وهي راحت فين ياقلبي .. وهي راحت فين ” .. ردّدّنا أنا وهو الأغنية التي كُنّا نردّدها معا سوية..!!
” شوف بقينا فين ياقلبي .. وهي راحت فين ”
” شوف خذتنا لفين ياقلبي..وشوف سابتنا فين ”
” في سكة زمان راجعين .. في سكة زمان ”
“في نفس المكان ضايعين .. في نفس المكان”
“لا جراحنا بتهدي يا قلبي .. ولا ننسى اللي كان يا قلبي ”
اصبحنا انا و” سلام ” نغني سوية هذا المقطع وكان هو يشير بأصبعه على قلبه الذي بدء ينزف دم..!!!…وأنا أيضا كنت أشير الى قلبي بأصبعي …وإزداد الدق على قلبي كلما ذكرنا في الاغنيه كلمة ” قلب ” .. إزداد الدق على قلبي بقوه أكثر !!
ماذا..!!؟؟؟..فتحت عيني متسائلا..!!!
– أبي .. ” قال لي إبني ” لقد كنت تغني وأنت نائم هههههههههه .. إستيقظ .. لقد تأخرت عن سماع أخبار مُنغصّات ومغثات الوطن ..!!