في طفولتنــا وعندما كنا في الدراسة الابتدائيــة ، وهذا يعني إننـا لا نفقـه بشيء من السياسة أو حتى لانعرف الامور العامة الاخرى سـوى اننـا وعينـا نعـرف _ مليكـنا المفدى _ هو فيصل الثاني ، وفي صبيحة 14 من ذلك اليوم التموزي من عام 1958 نقشـت في ذاكرتنـا احداثا أشعرتنــا ونحن نعيش العطلة الصيفية التيكنا ننتظرها وهي بمثابة فرصة للعب في الطرقات بالعابنا التي كانت سائدة في تلك الفترة . وفجأة وبعد الهرج والمرج الذي ساد الشارع في ذلك اليوم ، أخذنا نسمع من الكبار ان هناك ( ثورة ) ونسمع باسماء مثل العقيد الركن عبد السلام عارف و الزعيم الركن عبد الكــريم قاسم .. وخرج الكثير من الناس ( وحشر مع الناس عيد ) وسمعنا ان الوصي عبد الآله قد تم تعليق جثـته في الكرخ ثم قطعت وسحلت في شوارع بغداد .. كما سمعنا ان الملك الشاب قد قتل مع العائلة المالكة وهم يحملون القرآن .. كل هذه الامور جعلت منا نحن الاطفال نهتم بسماع الاخبار وكأن الأمر يعنينـا .. وبنفس الوقت . سمعنا بأن نوري السعيد كان قد هرب الى بيت الحجي ناجي المعروف بقربه من الانكليز من اجل هروبه بطائرة الى لندن .. وكنا طبعا نصدق كل ما يقال .. وفي اليوم نفسه قيل ان هناك جائزة لمن يعرف مكان نوري السعيد .. وظهرت الحقيقة ان كان قد وصل الى بيت الاستربادي وبعدها قتل في البتاويين بعد ان تخفى وهو يرتدي العباءة النسائية السوداء وتم التعرف عليه بعد ان ظهرت البيجامة المخططة التي كان يرتديها …
كان الراديو الذي نمتلكه في البيت ذات العين الخضراء الساحرة هو المصدر الرئيس للاستماع الى الاخبار للاهل ونحن علينا ان نسترق السمع منهم .. ومن الطبيعي انهم لايفقهون في السياسة شيء .. ولكن كنا نعتبرهم ( المحللون السياسيون ) على اساس انهم اهلنا ولابد من انهم يعرفون كل شيء .. ! وكنا في تلك الايام نستمع الى انشودة بغــداد ياقلعــة الاســود .. لام كلثوم .
وبعد ذلك بفترة كنا نسمع من ان هناك خلافات وتناقضات قد حصلت بين الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام عارف …. اما عن تاريخ الشعب العراقي ، فتأريخه تاريخ مملوء بالمآسـي .. عاش متخوفا بخط بياني متصاعد … وبعد ان شــعر الزعيم عبد الكريم قاسم ان خطابات العقيد عبد السلام عارف وحسب تقديره انها كانت مغرورة وتحركاته مع سفارة الجمهورية العربية المتحدة مما جعله يسرع باعفاءه من منصبه ، ويعينه سفيرا للعراق في المانيا الغربية .. والقضية اصبحت تأخذ مسارا آخر .
ولكي لا ننسى تشكيل ( محكمة الشعب ) التي تألفت لمحاكمة رجال ( العهد المباد ) والتي تشكلت برآسة فاضل عباس المهداوي والعقيد فتاح الشالي والمقدم حسين الدوري والعقيد الركن الحقوقي ماجد محمد امين .. وحاكمت كبار الساسة للعهد الملكي مثل سعيد قزاز وفاضل الجمالي وتوفيق السويدي وبهجت العطيه وغازي الداغستاني وعمر العلي ومتصرف لواء بغداد وخليل كنه واخرين .. وحكمت على البعض منهم بالاعدام وعلى القسم الاخر باحكام مختلفة .. وبعد ذلك حدثت محاكمة عبد السلام عارف بتهمة الاتصال بجهات عربية والشروع باغتيال الزعيم عبد الكريم في وزارة الدفاع .
وفي عام 1959 كانت احداث الموصـل وما سميت بمؤامرة الشواف .. وتم تقديم المشتركين فيها الى محكمة الشعب وتم الحكم على الكثير منهم امثال ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ونافع داود وغيرهم .. وتتوالى الاحداث والتأريخ يسجل .
واننا بالفطرة ك ( اطفال ) كنا نستمع لما يدور بين الكبار في الشارع البغدادي من ان هناك عواصف تنذر بمآسي . وفعلا كانت توقعاتهم في محلها ..وحدث ما حدث ونحن اليوم في قمة تلك المآسي ..