قبل 33 عاما وتحديدا في ليلة مِن ليالي نيسان في عام 1987، توقفت سيارة نوع (باص) أمام بوابة منزلنا وترجل منها اشخاص بملابس عسكرية استقبلهم جدي باستغراب وهو يسأل: “ماذا يجري؟”، تحدث معه احدهم، فعاد جدي مسرعا الى داخل المنزل وانا اركض خلفه وعمري لا يتجاوز حينها اربع سنوات، وبعدها ارتفعت اصوات الصراخ، وانزل الجنود صندوقا خشبيا عرفت فيما بعد بانه يسمى (تابوت) ووضعوه في باحة منزلنا وغادروا، قررت اتفحص مابداخله لكن دون جدوى، فجدي يمنعني مِن الاقتراب وامي كذلك، لانني لم اعرف حينها بان الذي يوجد بداخله جثمان والدي نقله زملاؤه من “نهر جاسم” خلال الحرب الايرانية العراقية.
اليوم وعلى الرغم من مرور اكثر مِن 37 عاما تذكرت ذلك المشهد بشكل واضح وكانه حصل بالامس القريب، بعد مشاهدة اطفال الدكتور هشام الهاشمي وهم ينظرون لجثمان والدهم داخل سيارته وهو مغطى بالدماء بعد تلقيه عدة رصاصات مِن قاتل نفذ عمليته “باحترافية كبيرة”، عندها ادركت بان تلك المشاهد لن تفارق مخيلتهم وستكون كحلم يطاردهم مهما مرت السنين والايام، فالقاتل اختطف مِن كان سببا لسعادتهم ومصدرا لقوتهم في مواجهة مصاعب الحياة والتخطيط لمستقبل كانوا يحلمون به، لكن رصاصات الغدر انهت تلك الامنيات ورحلت بها الى ارض النجف حيث المحطة الاخيرة لجسد الفقيد الذي ذهب ضحية “جهل” الحكومة بحماية ابناء البلد الذين يتركون بصماتهم “الطيبة” في خدمة المجتمع وتوضيح الصورة للكثير مِن القضايا “المبهمة”.
فرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي خرج علينا بعد ساعات على اغتيال الدكتور الهاشمي متوعدا بالكشف عن القتلة والقصاص منهم، باسرع وقت ممكن، ليعلن بعدها تشكيل لجنة للتحقيق بالحادث، لتكون الرسالة واضحة بان القضية ستكون حالها كبقية عمليات الاغتيال التي لم نرى نتائج التحقيق فيها او الكشف عن المنفذين، كما حصل في اغتيال المراسل الصحفي احمد عبد الصمد والمصور علاء غالي في محافظة البصرة، التي يبدو ان قضيتهم قيدت ضد مجهول وانتهى الحال بملفها على رفوف الارشيف في قيادة شرطة البصرة، لكن هناك صيغة جديدة يحاول المقربون مِن الكاظمي الترويج لها استعدادا لاضافتها لملف اغتيال الهاشمي بعبارة تقول بان الدكتور “ذهب ضحية الصراع بين الدولة واللادولة” ليغلق بعدها التحقيق ويعود القاتل للاستمرار بجرائمه التي اعتاد على تنفيذها مِن دون محاسبة، كما يفعل قتلة المتظاهرين الذي تعهد الكاظمي ايضا بمحاسبتهم وشكل اللجان لكشفهم.
لكن.. الذي لا يعلمه الجميع بان الكاظمي يتحمل مسؤولية اغتيال الهاشمي بعد ان ورطه بملف الفصائل المسلحة مِن خلال تكليفه بدراستها وكتابة البحوث عنها لايجاد صيغة للتعامل معها وخاصة بعد عملية الدورة التي كشفت الحجم الحقيقي للكاظمي، وضعفه في بناء دولة المؤسسات و”تخبطه” باتخاذ القرارات، وعلى الرغم من خطورة القرار، لكن الكاظمي لم “يكلف نفسه” بتوفير الحماية اللازمة للدكتور الهاشمي فالقضية، تتحمل اكثر مِن تفسير، فاذا فرضنا بان الفصائل المسلحة بعيدة عن اغتياله، فقد يكون هناك طرف ثالث استغل الفرصة لتنفيذ العملية وبالتالي تكون التهمة جاهزة ضد الفصائل، لانها ببساطة قد تكون الطرف المتضرر “كما يعتقد قادتها”، مِن المعلومات التي سيكشفها الهاشمي، لكن هناك مِن يعترض على قضية توفير الحماية، ويتحجج بان لديه معلومات تؤكد رفض الهاشمي تخصيص ثلاث دوريات مِن الشرطة امام منزله لحمايته، لانها “تزعج الجيران”، فيما يتحدث منطق العقل بان توفير الحماية لا يحتاج بالضرورة لايقاف دوريات مِن الشرطة يشاهدها الجميع، انما هناك اليات اخرى يمكن استخدامها للحماية مِن دون ان يشعر بها حتى الشخص المستهدف، مثلا باستخدام قوة مِن المخابرات او الاستخبارات او الامن الوطني وهذه كفيلة بحمايته بطريقة “مخفية”، والكاظمي باعتباره رئيسا لجهاز المخابرات منذ اربع سنوات لانعلم كيف تجاوز هذه الطريقة بالتفكير.
الخلاصة.. ان حادثة اغتيال الدكتور الهاشمي لو حصلت بالطريقة ذاتها وبالادلة المتوفرة في اي دولة اخرى لكان اول المستقيلين رئيس الوزراء وقادة الاجهزة الامنية، لكن في بلادنا اكتفى الكاظمي باعفاء المسؤول الامني للمنطقة التي وقعت فيها الجريمة، ليتراجع عن القرار بعدها بيومين او اقل مِن دون معرفة الاسباب، التي تثير الغرابة اكثر حينما تكتشف بان حماية مسؤول في الدولة يسكن بالقرب من منزل الهاشمي اختفت قبل ساعات مِن تنفيذ العملية.. اخيرا.. السؤال الذي لابد منه… من قتل الهاشمي ولماذا؟.