عندما تبتعد عن المشهد الحالي قليلاً ليتسع أفق نظرك لتغطية جميع الأحداث التي وقعت فوق هذه الرقعة الجغرافية المسماة بـ( وادي الرافدين ) ستجد نفسك واقفاً أمام لوحة متفاوتة الألوان ، تتقاطر فيها مئات الشخصيات المهمة الذين تتحدث عنهم آلاف الكتب والمؤلفات التي تملأ رفوف المكتبات ، وقد تم تمجيدهم من قبل الأجداد على أنهم خير من أنجبتهم البشرية ، بل ذهب البعض إلى أنهم ربما ينحدرون من سليل الآلهة ..!!! ، وأن الحضارة المتحققة اليوم هي إنجازات هؤلاء الأجداد العظام ، وأننا ولكوننا أحفاد هؤلاء العظام ، فأننا نمثل الأسياد الحقيقيين للعالم !!! ، وليس هذا فحسب ، بل أن أنهار الخمر واللبن والغلمان الذين يطوفون كاللؤلؤ المكنون ، والحور العين المتكئة على الآرائك قد خلقت جميعها خصيصاً من أجلنا ، لنا (وحدنا) ، لتنتظرنا في الحياة الآخرة ، وأننا نحن من إكتشفنا القلم ، و الدورة الدموية وعلم الموسيقى و … و … و… الخ .
وأن ملك الفرنجة ( شارلمان ) قد إنبهر من الساعة المائية التي أهداها إليه (هارون الرشيد) حتى أنهال عليها فرسانه بالفؤوس وحطموها معتقدين أن الشيطان مختبأ داخلَها !!! ، وكانت أوروبا تغط في ظلام دامس عندما أسس الرشيد ( بيت الحكمة) ، وكان (المأمون) يمنح مقابل وزن الكتاب ذهباً تشجيعاً منه للكتاب والعلماء والمفكرين .
ولم لا يمنح إن كان خراج الأمصار من خراسان و بساتين الشام وحدهما يفيض عن حاجة الدولة ، ولم لا يبني الخليفة في العصر العباسي الثاني قصور المجون وبساتين الخلاعة على ضفاف دجلة ويقتني المئات من الجواري والغلمان (لممارسة الشذوذ) ويغدق بالأموال الطائلة لمجالس الغناء والطرب في الوقت الذي كانت بغداد لوحدها تعجّ بأربعة آلاف من الصعاليك الذين كانوا يعيشون تحت خط الفقر ، ( عندما كان سكان بغداد تقدّر بحدود ستون ألف نسمة) !!!!
والذي يتطلع إلى قوانين حمورابي ذات الـ(٢٨٢) مادة ، والمكتوبة في المسلة التي تحتفظ بها المتاحف الأوروبية يدرك جيداً أن التنوع في الجريمة وكثرة الأنتهاكات ( مثل زنا المحارم ، ومعاقرة الكاهنات للخمر جنباً الى جنب مع العاهرات ، وفساد القضاة ) كان السبب خلف تشريع هذه القوانين ، وليس كما يصوّره لنا كتب التأريخ ، بأن مسلّة حمورابي كانت تعكس مظاهر الرقيّ الحضاري أو عدالة الحياة الأجتماعية في العصر البابلي !!!
وأن (گلگامش) إبن الآلهة ، والحاكم الفيلسوف الذي كرّس حياته لتحقيق الأنجازات الطيبة ، بعد أن تأثر بصديقه ( أنكيدو) الذي فارقه وترك في نفسه آثاراً طيبة جعله يؤمن بأن هذه الأنجازات هي التي ستوصله الى الخلود ، وأنه ليس ذلك القائد المتوحش الذي كان يغدر بقادة جيشه ويغتالهم ويغتصب نساءهم ، وأن خشيته من الموت ورغبته في الأستمرار بالسلطة ، كانت تمثل الدافع الحقيقي في البحث عن الخلود .
هذا هو التأريخ … الذي يرسم لنا دوماً ، الصورة المشرقة للحاكم ، ويسرد لنا عن إنجازاته المبهرة وعدالته الشفافة ، ونزاهته وورعه وتقواه اللامتناهي !!!!!
نعم … إنها كتب التأريخ التي وضعتنا أمام سيل من التناقضات التي نعجز عن التخلص من آثارها رغم واقعنا المزري الذي نعيشه اليوم .
وإن كنّا نحن أحفاد هؤلاء الأجداد وبعد كل هذه السنين قد وجدنا أنفسنا أمام هكذا تناقضات ، فلا نستغرب إن يجد أحفادنا ، وبعد مائة عام في رفوف مكتباتهم ، كُـتُـباً تتحدث عن الأنجازات المبهرة لـ (لجنة صياغة الدستور) ، وكيف أن هـؤلاء العمالقة أستطاعوا أن يكتبوا لنا دستوراً (خنفشارياً) بعد عقود من الدمار والدكتاتورية !!!
وكيف أن قادة اليوم أستطاعوا أن يحققوا لنا السيادة بعد أن أخرجوا المحتل ، بعد مفاوضات عسيرة !!!
وكيف أن دولة العراق أصبحت قبلة العالم !!!
وأن الآلاف من مواطني الدول الأخرى كانوا يجازفون بحياتهم ويعرضون بأنفسهم وعوائلهم إلى المخاطر ، ويقطعون الصحاري والجبال والوديان من أجل الهجرة الى العراق !!!
حسناً فعل هولاكو عندما أفرغ جميع كتب المكتبات في نهر دجلة عند غزوه لبغداد (حتى يقال أن لون النهر قد تغير بسبب لون حبر الكتب) !!!
وكأن الأمة التي أنجبت تلك العلماء ، الذين أنتجوا هذا الأرث الضخم من الكتب ، قد عجزت مرة أخرى عن إنجاب علماء آخرين ، أو عن أنتاج أرث حضاري لاحقاً بعد غزو هولاكو ؟؟؟
أم أننا كنا نعيش في وهم أنتجته أقلام صناع الخيال والعالم الأفتراضي منذ ذلك الوقت !!!
فلم تقم لنا قائمة منذ أكثر من (760) عاماً ، ونحن ما زلنا عاجزين من أن نساهم أو نؤسس لحضارة مثل بقية الأمم ….
ولولا فضل الله ورسالة نبيه الكريم ، لكنا مستمرين الى يومنا هذا بحرب ( البسوس) و (داحس والغبراء) وغيرها من الحروب بين (بني عبس) و (بني شيبان) و (المناذرة وغطفان) !!!
بل نحن أعجز من أن نحافظ على ما منحتنا إياه الطبيعة ، من أنهار وسهول وبساتين !!!
نتمنى من أحفادنا أن يستفيقوا من هذا النوم العميق الذي نحن من وضعناهم فيه ، لأننا عاجزون فعلاً عن مغادرة هذا ( العالم الأفتراضي) !!!
وألا يدمنوا هذه الأحلام الوردية التي تعوّدنا وأدمنّا عليها ، والتي من المؤكد ، أنها ستحولهم الى عبيد .