تشهد مجتمعاتنا مرحلة تاريخية من مراحل حركة التاريخ بعد إن تعرض (النظام الدولي) إلى هزة عنيفة اثر اجتياح جائحة (كورونا) القاتل عالمنا وما خلفته من ارتباك في طبيعة المنظومة الدولية؛ اقتصاديا وسياسيا و اجتماعيا، لنكون إمام مرحلة انتقالية وتغيرات تمس قواعد التي اثبت (النظام الدولي) دعائمه الحالية؛ ليتم إرساء منظومة جديدة غير تقليدية تغير منظومة القيادة الاقتصادية التي تلعب دورا كبيرا في الهيمنة (السياسية) للقوى الصناعية؛ والتي تلعب أيضا دورا عظيما في تشكيل (النظام الدولي)؛ وأي تشكيل مستحدث لنظام دولي جديد لا يحدث ما لم يتم بناء (اقتصاد متكامل) لدول صناعية حديثة متطورة توحد إراداتها ومواقفها بإستراتيجية تضاهي مؤسسات (الولايات المتحدة الرأسمالية) التي تمثل اليوم قطبا أحاديا تسيطر قيادتها على الاقتصاد العالمي و(النظام الدولي) وتشرف على منافذ الأسواق وفق مفاهيم ومنطلقاتها الخاصة .
تداعيات وباء كورونا على التغيرات السياسية
فـ(النظام الدولي) هو فعليا اليوم أحادي القطبية وبزعامة (الولايات المتحدة) فلا اقتصاد (روسيا) ولا (ألمانيا) ولا (فرنسا) ولا (بريطانيا) ولا (الهند) ولا (اليابان) ولا (كوريا الجنوبية) ولا (الصين)؛ لا انفرادا ولا حتى اجتماعا؛ تمكنهم من منافسة اقتصادها، بكون هذه الدول خلال الفترة ما قبل (كورونا) كانت تمر في فترة صراعات لبلورة مواقفها الاقتصادية والسياسية للعب دور سياسيا وأمنيا في عديد من القضايا والملفات الدولية، ولكن لعوامل اقتصادية بحته ظل نفوذ هذه الدول وتأثيراتهم ضعيفة؛ إن لم نقل مشلولة تماما، ولهذا سعت بعض الدول في إيجاد سياسات مشتركة وحلول بديلة منذ عام 2006 عن طريق التعاون الدولي لتكوين (نظام دولي متعدد الأقطاب) عبر تسوق لمفاهيم التسامح والتعددية السياسية والثقافية؛ و وفق هذا السياق أتى تأسس تجمع (بريكس) بهدف تكوين (نظام دولي) جديد للقضاء على الهيمنة (الأمريكية) التي تسيطر على (النظام الدولي) الحالي؛ ليتحول في عام 2011 إلى تكتل سياسي متكون من (البرازيل.. وروسيا.. والهند.. والصين.. وجنوب أفريقيا) في مواجهة الهيمنة (الأمريكية) الأحادية القطبية في العالم؛ وليتم خلق رؤية ومواقف مشتركه لـ(النظام الدولي) الجديد، لذلك عملت (الصين) – التي ظهرت كقوة اقتصادية وتكنولوجية عملاقة تنافس (أمريكا) – إلى جاب (روسيا) و من خلال تكتل (بريكس) لإيجاد مؤوسسات اقتصادية وعسكرية قوية تضاهي وتنافس مؤوسسات (الولايات المتحدة) التي تسيطر علي دول العالم اقتصاديا وعسكريا، لذلك سعت (الصين) تحديدا استثمار سياساتها الناعمة في هذه المجموعة من اجل تشكيل (نظام دولي متعدد الأقطاب) ومن اجل تغيير الخارطة السياسية والاقتصادية الدولية؛ وليتم عبر هذا المنفذ بناء مؤسسة دولية رديفة للمؤسسات (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) الاقتصادية، ليتم وفق تطلعات (الصين) تحرير العالم من تأثيرات (الولايات المتحدة) وقيودها في نظام (العولمة) و(الرأسمالية) ومؤوسساتها (الليبرالية) و(النيوليبرالية)، ليتم عبر هذه الآلية تدشين قيم ومبادئ أممية تحترم السيادة الوطنية وعدم التدخل والتعاون الدولي وحق تقرير المصير ودعم التعددية القطبية، باعتبار هذه المبادئ هي الأساس التي يقوم عليها تكتل مجموعة (بريكس) .
والى جانب ذلك فان (الدول الأوربية) سعت هي الأخرى لتأسيس منظومة عسكرية تكون بمثابة منافس لـ(حلف ناتو) – الحلف الذي تسيطر (أمريكا) على تحركاته – وكل هذه المساعي التي تسعى إلية دول (الاتحاد الأوربي) هي من اجل إيجاد (نظام دولي متعدد الأقطاب) وهي محاولات دولية أتت للهروب إلى الإمام لعدم إمكانياتهم من تحمل مسؤولية الإخفاق والفشل في عملية التنمية وتطوير اقتصادياتهم، ولهذا وجدوا من انتشار جائحة وباء (كورونا) التي أخذت تأثيراتها تظهر جلية على المنظومة الدولية بصورة عامة وعلى مستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبشكل مؤثرا بما عزز عندهم مفاهيم الوطنية.. والشعوبية.. والقومية.. التي أخذت تظهر على السطح الساحة السياسية؛ وعلى نقيض بما كان سائد من الانفتاح (الليبرالي) و(العولمة)، وهو الأمر الذي عزز فرضيات (المؤامرة) لظهور الوباء وانتشار فيروس (كورونا) انطلاقا من مدينة (ووهان الصينية)، لا لشيء إلا من اجل تبرير الفشل والإخفاق في عملية التنمية وكمخرج لهذه الأزمة التي أثقلت كاهل الدول التي ابتزتها (الرأسمالية) المتوحشة في (أمريكا)؛ ليكون وضع هذه الدول التي ركعت (للرأسمالية)؛ لتمرر الأزمة الحالية لجائحة (كورونا) كحالة من الحالات العديد التي شهدها العالم من الأحداث والأزمات في المراحل السابقة وخاصة بما يتعلق بـ(البيئة) و(التلوث)؛ ولكنه فوجئوا بحجم الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها لهم جائحة (كورونا)؛ بحيث قلبت موازين القوى رأسا على العقب؛ وهو الأمر الذي افقد توازن الدول بعد إن خرجت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية عن النطاق السيطرة؛ لنجد كيف إن دول التي تميزت بالتطور العلمي والتكنولوجي تقف عاجزة من احتواء الوباء وتفقد السيطرة كـ(ألمانيا) و(روسيا) و(فرنسا) و(ايطاليا) و(اسبانيا) و(بريطانيا) ليشكل هذا الضعف نقطة مفصلية في طبيعة العلاقات الدولية والتوازن القوى والحفاظ على الأمن المجتمعي؛ بعد تداعيات التي أصاب الوضع الاقتصادي والذي اثر تأثيرا سلبيا على الأمن السياسي والاجتماعي بارتفاع خطير لمستويات البطالة بما يفرزه من حالات العوز.. والفقر.. والحاجة الغذائية.. والى إرباك في المنظومة الأمنية.. نتيجة الاحتجاجات والمطالبة بالتوظيف وتوفر فرص العمل لهم، في وقت الذي لا احد يستطيع التنبؤ عن الفترة الزمنية التي سيتعافى (الاقتصاد) لأغلب دول العالم لعدم وجود دواء وعلاج لهذا الوباء لحد أعداد هذا المقال، وهو الأمر ألذي سيساهم إلى مزيد من الانكماش الاقتصاد؛ وبدوره سيؤثر على السياسة الخارجية لأغلب دول العالم بعد إن ينصرفوا لمعالجة تفاقم التي تفرزها جائحة (كورونا) داخليا سواء على المستوى الاجتماعي والصحي وهذا ما زحزح ثقة المجتمع بمؤسسات دولهم؛ بل ثقة الدول بالمؤوسسات الدولية؛ بعد إن كان الاعتقاد السائد في المجتمعات إن المنظومة الدولية لقادرة على مواجهة أي تهديد يمس البشرية على كوكبنا؛ ولكن هذا التصور لم يكن في مكانه بعد إن عجز (النظام الدولي) من مواجهة وباء (كورونا)؛ وهو ما أدركته كل دول العالم؛ ومن ضمنها الدول (الرأسمالية) التي لم تتوقع ما يصيبها الآن من حجم الدمار الذي يصيب عصب وجودها وهو (الاقتصاد) .
الولايات المتحدة ومقومات البقاء على رأس الهرم في النظام الدولي
ولهذا فان توجه الدولي اليوم يتجه في تغيير مفاهيمها وأولوياتها؛ بعد إن كان التركيز يصب في بناء الاقتصاد والمنظومة العسكرية دون التركيز عن الجوانب الاجتماعية والحياتية الأخرى من الصحة.. والثقافة.. والعلم.. والمعرفة، ليجدوا أنفسهم بعد إن ضرب الوباء المنظومة الاقتصادية والذي شل قدرات القوة العسكرية بعد فقدان التمويل لازم لتعزيز بنيته؛ بما لم تعد لدول العالم بكل ما كانت تمتلكه وتعتمد علية على مواجهة تداعيات الوباء (كورونا) وعلى كافة المستويات الصحية.. والاقتصادية.. والاجتماعية، وهو مؤشرا يوحي لنا كيف سيتم قراءة حركة التاريخ بعد أن وجدنا حجم تراجع مسار ونفوذ الدول (الرأسمالية) والمهيمنة على اقتصاديات العالم؛ ومنهم تحديدا (الولايات المتحدة ) كنتائج فرضه الواقع من انتشار الوباء وما افرزه من نتاج في تراجع إمكانيات اغلب الدول (الرأسمالية) نفوذا في السياسة الدولية، ولهذا فان جائحة (كورونا) وما خلفته من أزمة مجتمعية أضعف اقتصاد (الولايات المتحدة ) وسياساتها بما لم تتوقعه ولم تخطط له؛ وهو ما جعلها وسيجعلها لاحقا لا محال؛ إن تركز جل اهتمامها على شؤونها الداخلية بما يجعلها تصرف النظر بشؤون التورط في النزاعات والصراعات الدولية؛ بل وستسعى إن لم نقل (بإرادتها) ومنذ (الآن) إلى نقل مصانعها المتواجدة في (الصين) إلى أراضيها؛ والتي تزيد عن مائتين مصنع عملاق لصناعة الثقيلة والخفيفة والإنتاج التكنولوجي المتطور؛ لتفصل اقتصادها عن أي تأثير قد يلحقه اقتصاد (الصين) عليها، وهذه هي مؤشرات قد لا تدل على تراجع (الولايات المتحدة) عن التفرد بقيادة (النظام الدولي)؛ لان أمر ذلك سابق لأوانه، لان مثل هكذا طرح ينبع من صميم واقع (الافتراضات والتحاليل) أكثر من كونها حقائق؛ لأن (الولايات المتحدة) مازالت تمتلك القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية والكثير من مقومات لبقائها على رأس الهرم في النظام الدولي؛ وان الارتباك الذي حدث في منظومتها (الرأسمالية) اثر انتشار الجائحة (كورونا) جعلها تعيد ترتيب أوضاعها الداخلية؛ بعد إن كان جل تركيزها يتوجه نحو بناء القوة العسكرية والاقتصادية؛ واليوم أدركت مدى أهمية بناء مؤوسسات الصحية.. والتعليمة.. والاجتماعية.. لتكون موازية مع قوتها الاقتصادية والعسكرية، وهذا ما جعلها تعيد التفكير بمفهوم (القوة) لتكون دولة قادرة بكل مقدراتها على مواجهة التداعيات السلبية لأي طارئ كان؛ سواء وبائية أو غيرها من الكوارث؛ ليتم وضع كل الحسابات على ذلك وعلى كافة المستويات الصحية.. والاقتصادية.. والاجتماعية.. والعسكرية.. وحتى السياسية؛ بما يجعلها تعيد الاعتبارات للقضايا الداخلية وعلى المستوى الاقتصادي.. والصحي.. والاجتماعي.. والتعليمي.. والتكنولوجي .
صعوبة التنبؤ بمجريات الإحداث القادمة والعلاقات الدولية
ولهذا فان ما يقال عن (الولايات المتحدة) يقال لكل دول العالم؛ لان الكل يحاول إعادة ترتيب أوراقه الداخلية، بعد إن هزة جائحة (كورونا) كيان الدول ومجتمعاتها؛ وهذا ما أفرزته هذه الأزمة الوبائية؛ ليتم إعادة تشكيل ليس فحسب في (النظام الدولي) بل في النظم الداخلية لكل دول العالم؛ بعد إن أصابه تشويش وارتباك غير مسبوق في التاريخ المعاصر؛ بما يصعب التنبؤ بمجريات الإحداث القادمة ومجرياتها، لان العلاقات الدولية والنظام العولمة والاتحاد الأوربي و مجموعة بريكس والليبرالية والنيوليبرالية ونظم الدول الصناعية في كل محيط العالم؛ أصابها نوع من التصدع؛ والكل يسعى بطريقته تنفيذ سياسات (الحماية والوقاية) سواء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ نتيجة للانهيارات والتحولات الهيكلية التي تشهدها دول العالم ونظمها؛ الذي يشهد تحول في بنيته ألراهنه؛ و تحول للقوة المهيمنة؛ وكل ما يداهم النظام الدولي للعالم؛ وهذه ما هي إلا مؤشرات لتحول في (النظام الدولي)؛ والذي لا محال سيرسم نمطا جديدا ومغايرا من العلاقات الدولية عما كان ما قبل زمن (كورونا)؛ يتعلق أساسياته في حجم التوازن القوى التي أصابت (النظام الدولي)، وهو الأمر الذي سيعاد تشكيله بنظام آخر مغاير عما سبق وبما يتعلق أمره بطبيعة القطبية في النظام ما بين (الهيمنة الأحادية) أو ما بين (الثنائية القطبية) أو ما بين (التعددية القطبية)، ومن هنا يطرح السؤال نفسه :
هل (الولايات المتحدة) ستنفرد بالسيطرة والهيمنة بقيادة النظام العالمي ليبقى نظام بقطب أحادي ………؟
هل نفوذ (أمريكا) سينحصر اثر تعرض اقتصادها إلى هزة عنيفة اثر تفشي جائحة (كورونا) لصالح (الصين) وتصبح قيادة النظام العالمي بيد (الصين) ليبقى النظام بقطب أحادي مجددا……..؟
هل ستعود الثنائية بين (الصين) و(أمريكا) لقيادة النظام العالمي ليصبح نظام ثنائي القطبية ……..؟
هل (الصين) و(روسيا) ستزاحمان في المشاركة مع بقية مجموعة (بريكس)؛ إضافة إلى دول (الاتحاد الأوربي) سواء بمجموعتها الحالية أو انفرادا كـ(ألمانيا) و(فرنسا) و(بريطانيا) لقيادة النظام العالمي ليصبح نظام متعدد الأقطاب……..؟
لا محال إن العالم ما بعد زمن (كورونا) سيشهد صعود وتراجع في نفوذ القوى التي تهيمن على (النظام الدولي)؛ وهذا المشهد ليس بالغريب عن النظام العالمي؛ كون العالم شهد نظام دولي متعدد الأقطاب منذ أواخر القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، حيث كانت (بريطانيا) تقاسم السيطرة مع دول (أوروبا) و(آسيا)، وكذلك فان العالم شهد ما بعد الحرب الكونية الأولى والثانية نظام ثنائي القطبية بين كل من (روسيا) و(أمريكا)، وما بعد عام 1991 شهد العالم بعد انهيار (الاتحاد السوفيتي) صعود (أمريكا)على سدة (النظام الدولي) ليكون نظام أحادي القطبية، ولكن (النظام الدولي) اليوم ليس معطياته وظروف النظم السابقة كما كانت أثناء الحرب الباردة، وان (أمريكا) لتفردها بقيادة العالم لفترة ليست بالقصيرة؛ اكتسبتها خبرة في رسم سياساتها وفي نمط تفكيرها المستقبلية وهي تحاول اليوم الاحتفاظ بهذه الأحادية لأطول فترة ممكنه ولكن بأسلوب وتفكير مغاير عما سبق، لذلك فهي تعمل إلى تحويل (النظام الدولي) إلى (متعدد القطبية) وفق شروطها وستقوم بمراقبة الكل؛ سياسيا.. وعسكريا.. واقتصاديا.. وحتى اجتماعيا، لتبقى هي تمارس دور (الشرطي العالمي) بما تمتلكه من الإمكانية والقدرة في التحكم والإشراف على (النظام الدولي) المتعدد القطبية؛ لحجم الترسانة العسكرية والتسليحية وسلاح التدمير الشامل التي تمتلكه .
إستراتيجية الولايات المتحدة من رسم سياسة انكفائية
وهذه القراءة (المستقبلية) نستشفها من خلال السلوك السياسي وإستراتيجية (الأمريكية) وفق تكتيك خاص تدفع دول العالم الصناعية إلى تكوين نظام متعدد القطبية وفق مصالحها؛ أي وفق مفهوم ومواصفاتها؛ ليبقى (النظام الدولي) تحت إشرافها ومظلتها؛ لان (القوة) التي تمتلكها اليوم لا يمكن إزاحتها من المشهد الدولي والسياسي، لذلك فهي ترغب بوجود (نظام دولي متعدد القطبية) في وقت الذي لا ترغب إن تكون ضمن هذه القوى بل مشرفة على إدارتها، ولهذا فهي عملت منذ أمد طويل برسم ملامح هذه الإستراتيجية عبر إنشاء الدرع الصاروخي النووي والفضائي وبقدرات تكنولوجية عالية المستوى بما جعلها تنفرد بهذه القوة الهجومية والدفاعية، وهذا ما يجعل اغلب دول العالم امنيا تعتمد على (أمريكا) مثل (الهند) و(اليابان) و(كوريا الجنوبية) و(البرازيل) و(جنوب أفريقا) وحتى (الدول الأوربية) و(دول الشرق الأوسط)، وهذا ما يجعل أي قطب من هذه الأقطاب يعتلي في نظام متعدد القطبية ضعيفا لا يضاهي قوة (أمريكا) وبالتالي فهي التي بهذه (القوة) تستطيع إن تتحكم على (النظام الدولي) بدون إن تتورط نفسها به؛ ولكن ترصده وتراقبه على الدوام .
وما يدفع (الولايات المتحدة) إلى هذه الإستراتيجية هو رغبة في إعادة رسم سياسة (انكفائية)، وهي سياسة لا تعبر بالضرورة عن تراجع (قوتها) وإنما تأتي ضمن إستراتيجية من أجل تخفيف الأعباء المالية في قيادتها لأزمات العالم، كتخفيفي وجودها في (أفغانستان) و(العراق) و(الخليج العربي) و(البحر المتوسط) و(البحر العربي) و(المحيط الهندي)، وهذه السياسة رغم ما فيها من إستراتيجية وفق تطلعات (أمريكية) ولكن هي في وقت ذاته مؤشرات على تراجعها عن التفرد بـ(النظام الدولي) وهو الأمر الذي تمهد (أمريكا)؛ بذاتها وبمحض إرادتها؛ لتكوين (نظام دولي متعدد القطبية) لملء الفراغ من انسحابها من المشهد (النظام الدولي) سواء كان رغبة منها أم نتيجة تراجع إمكانياتها بما تواجه من تحديات جسيمة في اقتصادياتها اثر تفشي جائحة (كورونا) وما أصاب اقتصادها وتدهور أوضاعها الداخلية؛ وهو تراجع لا يأتي نتيجة (تهديد) من قوى صاعدة في (النظام الدولي) بقدر ما تمثله (كورونا) من (تهديد)، وهو ما جعلها في حالة (انكفاء) على ذاتها بعد أزمة (كورونا) التي كشفت عن حجم ضعف البنية التحتية الصحية فيها وتفاقم أزمة البطالة في البلاد التي وصلت إلى عشرات الملايين؛ الأمر الذي أحرج حلفائها وجعلهم لا يعرفون كيف يواجهوا مستقبلهم بدون حماية التي كانت (أمريكا) تقدمها لهم وفق ما كانوا يدفعون لها مقابل هذه الحماية، وهذا التراجع من قبل (أمريكا) في اخذ دورها في قيادة (النظام الدولي) لا يعني تراجعا في مكانتها كـ(قوة عظمى) ولا يعني بان (الصين) التي كثر الحديث عنها؛ بأنها تنافس (أمريكا)؛ وأنها أخذت تظهر كعملاق اقتصاديا في المنظومة الدولية، قد يكون هذا الأمر صحيحا من حيث ما تلعبه (الصين) من دور دولي على المستوى الاقتصادي والثقافي؛ ولكن يقينا بان (الصين) ما تزال متراجعة بخطوات عن قدراتها العسكرية وحتى الاقتصادية قياسا لقدرات (أمريكا)؛ بكونها تعتمد على (أمريكا) في كثير من مجالات الصناعة وتكنولوجيا؛ وهي بالتالي لا تستطيع منافسة قوة (أمريكا) وصناعتها وتكنولوجيتها على الأقل في المنظور القريب؛ وكذلك فإنها ستبقى أيضا متقوقعة في سياساتها الغير المبالية بالصراعات والشؤون الدولية كونها ما زالت تأخذ دورا حياديا وفق إستراتيجيتها الهادئة؛ وحتى تأسيسها لنظام (بريكس) فإنها مع مجموعة دول (بريكس) لن يستطيعوا تغيير منظومة قيادة الاقتصاد العالمي الحالية؛ والهيمنة على سياساتها، كون مجموعة (بريكس) تعاني أساسا من مشاكل لا حصر لها؛ وهذه المشاكل لا محال تؤثر على مسيرتهم التنموية ونموهم الاقتصادي، لان في الأساس قد أثرت الأزمة الاقتصادية التي خلفتها جائحة (كورونا) تأثيرا ملحوظ على مستويات نمو دولها الاقتصادية، وكذلك فان التخاطب التجاري فيما بين دول المجموعة يعترضه لمشاكل متعدد بسبب عدم وجود لغة مشتركة تسهل مهمة التعامل والمخاطبة التجارية فيما بينهم أو مع أسواق الدول الخارجية أو مع أسواقها لأسباب كثيرة ومن أهمها إن (الصين) لها إيديولوجية شمولية تتبنى (الشيوعية) بمفهوم (الماركسية اللينينية الماوية الاشتراكية) وهي تناقض مع توجهات كل دول مجموعة (بريكس) إن لم تقف اغلب هذه الدول بالضد من هذه التوجهات؛ إضافة إلى ما تعانيه دول المجموعة (بريكس) من مشاكل أمنية داخلية الناتجة عن التعددية الإثنية والدينية والتميز التي تخلفها هذه القلاقل في مجتمعاتها والتي تؤثر على النمو الاقتصادي؛ وهو الأمر الذي يجعل من الصعوبة الحصول على توافق بشأن الدول التي ستتوجه إليها الاستثمارات المستقبلية .
سياسة ضبابية في بنية العلاقات بين الدول
ولهذا فان (الصين ) مع مجموعتها (بريكس) لن يستطيعوا مجيء بالمسارات إستراتيجية جديدة؛ وهو أمر يقال أيضا بحق (الاتحاد الأوربي) التي جاء تأسيسها كقوة معتدلة لا تميل شرقا ولا غربا في (النظام الدولي) ولكن هذه القوة التي كانت بمثابة (قوة توازن) انهارت في أول أزمة واجهها (الاتحاد الأوربي) اثر انتشار جائحة (كورونا) التي هزة كل أركان دولها وظهر للعيان حجم هشاشة تنظيم (الاتحاد الأوربي) بعد إن سارعت كل دول الاتحاد بإغلاق الحدود وعدم المساهمة في تخفيف العبء عن دول التي الحق وباء (كورونا) فيها أضرارا جسيمة كـ(ايطاليا) و(اسبانيا) والتي اليوم تنذر جميع معطيات الموقف في دول (الاتحاد الأوربي) إلى تفكيك والتي بدأتها (بريطانيا) بعد إن لم يقدم مسار الاتحاد أية إستراتيجية واضحة المعالم في (النظام الدولي) بقدر ما افرز فشله عام 2009 اثر أزمة الديون (الأوربية) وكذلك في أزمة المهاجرين عام 2015 .
بينما يكون موقف (روسيا) ودورها الممكن إن تلعبه في (النظام الدولي)؛ ما زال يعتريه الكثير من الغموض؛ رغم أنها بما تمتلكه من قوة عسكرية وتسلحيه متطور وينافس قدرات (الولايات المتحدة)؛ وان اقتصادها يمكن إن يقال عنه لا بائس به؛ إلا إن رغم إشارات التي تقدمها (موسكو) في تعزيز نفوذها في المجال الإقليمي؛ ولكن بدون إيديولوجية واضحة ولا إستراتيجية بناءة، فهي لا تتبنى المفاهيم (الشيوعية) ولا (الاشتراكية) ولا (الرأسمالية) ولا (الليبرالية) ولا تعترف بالنظام العولمة؛ ولهذا فان خطواتها جلها تكون (ضبابية) مبنية بحذر وعدم الرغبة باصطدام مع المسار (الأمريكي) النافذ في كل قارات العالم، رغم إننا على يقين مطلق بان الأزمة الاقتصادية الحالية والتي ترافق انتشار وباء (كورونا) لا يستثني أي من أقطاب التي ذكرناها لا (أمريكا) ولا (الصين) ولا (الاتحاد الأوربي) ولا (روسيا) ولا دول (مجوعة بريكس)؛ ولن تكون أية دولة بعيدة عن تأثيرات الركود الاقتصادي الذي يضرب (النظام الدولي) والذي له عوامل مؤثرة في تركيبة بنيته؛ بما يتحتم إلى إعادة تصحيح مسار (النظام الدولي) وفق ما يترتب من تصحيح العلاقات الدولية وسلوكياتهم المتبناة وفق معطيات الواقع في زمن (كورونا) وما بعده، بعد إن وجدنا كيف تتهاوى دول اعتبرت في قمة الهرم الصناعي وتكنولوجي من الدول (الرأسمالية) عجزت من احتواء وباء (كورونا) والسيطرة على أمنها وأوضاعها الصحية والاجتماعية، لتعطي هذه الدول التي اعتبرت (متقدمة) و(متطورة) صورة سلبية في مجال التعاون الدولي؛ وبما كان يصدر منهم – تحديدا – من مفاهيم (العولمة) و(الليبرالية) والتعاون الدولي الموحد؛ لنرى كيف كل هذه الدول في المنظومة (الرأسمالية) الذين اعتبروا أنفسهم حلفاء؛ يتخلون عن بعضهم البعض وبشكل مؤسف؛ وبما جعلتهم هذه الأزمة الوبائية يتقوقعون داخل حدودهم، دون مبالاة بما يصاب أصدقائهم وحلفائهم وتركوهم وشئنهم منفردين يلاقوا مصيرهم تحت وطأة جائحة (كورونا) القاتل، وهو ما جعل مسار هذه الدول التي ركضت وراء (العولمة) والمفاهيم (الليبرالية) التي كانت تدعمها (الرأسمالية) المتوحشة (الأمريكية)؛ تصطدم بجدار هذه الأزمة الوبائية ليتهشم جدارها دون سابق إنذار، وهذه هي نقطته مفصلية في تاريخ (النظام الدولي) الذي يتعرض اليوم إلى موجة من تشويش لا يفهم منها اللغة المحكية على مستوى العلاقات الدولية؛ بما يعتريها من عدم الاستقرار وزعزعة ثقة المجتمعات بالنظم (الرأسمالية) وما تصدره من المفاهيم؛ فشلت في أول اختبار لها اثر انتشار وباء (كورونا) بعد إن عجزت المنظمات الدولية والمؤوسسات العالمية ومنظمة الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية والصحة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي كما وجدناهم خلال أزمة هذه الجائحة تعيش في أزمات متتالية واضطراب وعجز؛ وتتراجع عن القيام بواجباتها القانونية والأخلاقية والإنسانية لحماية المجتمعات في كل بقاء المعمورة .
كورونا، خلقت لنا عالما فوضويا بلا معالم
ومن خلال ما تقدم نجد اليوم بان دول العالم اجمع؛ تبحث عن نموذج ليتبنوه من المفاهيم الفلسفية والاجتماعية البناءة لنظام دولي معاصر لتطلعاتهم المستقبلية؛ ليجدوا فيها أمانا وتعاونا مشترك بما يؤمن مستقبل الحياة على كوكبا، ولهذا فان المجموعات الغربية والشرقية على السواء؛ تبحث عن هذا النموذج بعد إن أصابت العلاقات الدولية وكل تنظيماتهم وهيئات الأمم المحتدة التي تراعي حقوق الإنسان والأمن المجتمعي ارتباك وتشويش؛ ليصبح عالمنا وفق هذه المنظور الذي نجده في زمن (كورونا) عالما فوضويا بلا معالم، ولهذا فان اغلب دول العالم تسعى لتامين مستقبل المجتمعات الإنسانية بلا الأنانية وبلا الاستغلال من قبل الدول (الرأسمالية) المتوحشة على حساب المجتمعات الفقيرة والدول الضعيفة، لان (النظام الدولي) الحالي انشغل بالصراعات ولفترة طويلة؛ بما ساد بين الدول من التنافس والاستغلال؛ والإصرار لإضعاف كل طرف الطرف الآخر من اجل استنزاف بعضهم البعض؛ ومن اجل بسط النفوذ وتقسيمها فيما بينهم، وهذا الأمر هو الذي أدى إلى إنهاك ميزانيات دول العالم، لان صرفه انحصر في التصنيع العسكري بكل فروعة وأسلحته؛ فلم يبالوا بتطوير مؤوسسات الصحية.. والضمان الاجتماعي.. والترفية.. والثقافة.. والمعرفة.. والعلم.. من اجل خدمة الإنسانية (لا) إلى تدميرها بصناعة الأسلحة الفتاكة، وهذا ما أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي في كل دول العالم؛ لان هذا الصراع.. وهذه الأنانية.. وهذا التوحش؛ هو من افشل هذه القوى في فرض طبيعة عادلة ومستقرة لـ(النظام الدولي)، وإذ ما استمرت هذه الأنانية.. وهذا الاستغلال.. وهذا التوحش؛ فإننا لن نجد نظاما دوليا عادلا مهما كانت اتجاهاته سواء أحاديا كان أو ثنائيا أو متعدد القطبية؛ ما لم نجد انضباطا أخلاقيا متزنا بين قادة السياسيين لدول المتقدمة والمتطورة للحفاظ على الأمن والسلم المجتمعي والتعاون الدولي في كل دول العالم؛ وعدم الانجرار إلى الاستغلال والمنافسة (الجيوسياسي)؛ وإذا لم يتجنبوا هؤلاء اللاعبين الأساسيين في (النظام الدولي) هذه القواعد السلبية؛ فان (النظام الدولي) الجديد سيستمر في ظل هذا السيناريو في مرحلة من الصراع اشد قتامه مما سبق .