(1)
أن القسوة التي يعانيها الإنسان بمجرى حياته تأتي بالدرجة الأساس من مصدرين هما الطبيعة بقسوتها ووحشيتها ، والحضارة والتزاماتها…
حيث يرى فرويد أنه منذ وجد الإنسان على سطح الأرض حاول جاهدا حماية نفسه من قوى وأخطار الطبيعة ، محاولا ترويضها وتسخيرها لصالحه ، ورغم نجاحه لحد كبير ببناء البيوت وإنشاء المدن ومكافحة الأمراض…ولكنه فشل بتسخيرها وترويضها بشكل كامل فما زالت كثير من عناصر الطبيعة تهزأ بنا ،وبكل جهد يحاول الإنسان فرضه عليها.
فما زالت الأرض تزلزل وتنشق وتبتلع الإنسان وما صنعت يداه ، والماء يفيض ويغرق كل شيء ، والفيروسات تفتك بالبشر….والاهم هو لغز الموت الموجع الذي لا يمكن ان يوجد له ترياق.
ان الطبيعة بهذه القوة تنتصب في وجوهنا معادية، عظيمة، قاسية لا تشفق و لا ترحم وهي تذكرنا دائما بعجزنا وضعفنا….صحيح ان الطبيعة لا تطلب منا ان نحد من غرائزنا بل ترخي لها حبل الحرية كاملا لكن لها طريقتها الفعالة في تقيدنا فهي تقضي علينا بكل برود ووحشية.
لتجنب الأخطار التي تهددنا بها الطبيعة ، دائما ، اختصرنا المسافات فيما بيننا وتقاربنا وأوجدنا الحضارة التي من مبررات وجودها تمكيننا من الحياة المشتركة ،وفي الحق ان المهمة الرئيسية للحضارة ومبرر وجودها الأول هو حمايتنا من قسوة الطبيعة.
ورغم ما توفره الحضارة من حماية لكننا في بعض الأحيان نجد من الصعوبة تحملها او بالأحرى تحمل أوامرها ونواهيها…… فالإنسان يولد بمجموعة من الرغبات الغريزية ،التي تعاود الولادة مع كل طفل ، هذه الرغبات يحاول الإنسان إشباعها وإرضائها ولكنه يصطدم بالحضارة ، بتعاليم المجتمع ، بالعيب والحرام والممنوع والتي لا تسمح لنا دائما بتحقيق هذه الرغبات…عدم تلبية الغريزة يطلق عليها فرويد اسم الإحباط وعلى الوسيلة التي يفرض بها هذا الإحباط اسم الحظر، وعلى الحالة التي تنجم عن الحظر اسم الحرمان.
فالحضارة التي نشارك بها تفرض علينا درجة محددة من الحرمان ويسبب لنا الناس الآخرون مقدارا معينا من الألم ، الحضارة تلعب هنا دوران فهي لا تتوقف لحظة عن أداء مهمتها بالدفاع عن الإنسان ضد الطبيعة وبذات الوقت تحرمنا وتمنعنا من تنفيذ رغباتنا….
هذا الحرمان الذي تفرضه علينا الحضارة ، مضاف إليه المصائب التي تنزلها الطبيعة الغير مروضة ، يولدان هم وقلق دائم وإذلال خطير للنرجسية البشرية…..كيف سيواجه الإنسان هذه المعضلة ليعود إليه توازنه النفسي ؟ هنا سيكون الدين حاضرا…..
قسوة الطبيعة وإلزام الانصياع لأوامر الحضارة ، الانصياع لقوانينها ،محرماتها ،وممنوعاتها ، ليس وضعا جديدا بل له نموذج بدائي طفولي ، فقد سبق ان وجدنا أنفسنا في ضائقة مماثلة حين كنا أطفالا بمواجهة أهلنا وكانت لنا دواعينا لنخشى هولاء ولا سيما أبونا ، وان كنا متأكدين من حمايته لنا من الأخطار ، هكذا وجد الإنسان نفسه منقادا للمقاربة بين هذين الوضعين…هنا يجعل الإنسان من القوى الطبيعية كائنات إنسانية (أنسنة الطبيعة) يسعى ان يقيم معها علاقات شبيهة بتلك التي يقيمها مع أقرانه….هكذا يضفي على هذه القوى صفات الأب ويحولها الى آلهة مقتديا بذلك بنموذج طفولي….وبمرور الزمن تجردت قوى الطبيعة من سماتها وقسماتها الإنسانية ولكن الضائقة البشرية تظل كما هي ويبقى معها الحنين الى الأب والهة .
ان تحول صورة الأب الى صورة اله لاحقا سيضفي إلى وجود عدة صور للإله الرحيم ،القاسي ،العادل….اعتمادا على التصورات التي تكونت بفترة الطفولة مثلما تتغير صورة الإله بتغير الظروف الجغرافية والمعاشية والمهنية فاله الصحراء قاسي لا يقبل المشاركة بالقرار بينما اله المدينة أكثر رحمة يقبل النقاش والاعتراض….وتصور النجار عن الإله يختلف عن تصور الفنان او الحداد فكل له تصوره وهذا هو الذي يجعل الكل يدعي ان الله معه…………
ورغم تغير الأزمان لا زالت الإلهة تحتفظ بمهماتها الثلاث التي يفترض بها ان تؤديها وهي
– الحماية من قوى الطبيعة فما زالت هذه القوة الساحقة المستهزئة بحياة الإنسان ،كالأعاصير والإمراض وغيرها ، مازالت احد أهم المصادر المسببة الألم للإنسان …..
– والمهمة الثانية مصالحتنا مع قسوة الأقدار كما تتجلى بالموت بوجه خاص وشيخوخة الجسم البشري والذي هو عنصر من عناصر الطبيعة والذي سيبقى ابد الدهر قابل للفناء……
– والثالثة تعويضنا عن الآلام والأوجاع والحرمان التي تفرضها علينا حياة المدينة ، بسبب عدم كفاية التدابير الرامية الى تنظيم حياة البشر.
وإذا لم يستطع الإنسان إلغاء الآلام فلا يجوز الحكم عليه بالفشل ففي مقدوره التخفيف من بعضها وتسكين البعض الأخر فسيقوم الدين بمساعدتنا على طرد الأرواح الشريرة والوعد بحياة أخرى إضافة للتخفيف من وطأة قوانين والتزامات الحضارة.
بتطور البشرية وملاحظة ان ظواهر الطبيعة تحدث من تلقاء نفسها طبقا لضرورات داخلية وملاحظة ان الموت واقع لا محالة تقلص دور الإلهة الى المهمة الثالثة….مهمة التعويض عن الآلام والأوجاع…..
فكلما فازت الطبيعة بمزيد من الاستقلال الذاتي وكلما نفض الآلهة أيديهم منها وانسحبوا منها تركزت الترقبات أكثر فأكثر على المهمة الثالثة ، وأضحت الأخلاقية ميدان اختصاصها الفعلي ،عندئذ تغدو مهمة
الآلهة تدارك عيوب الحضارة ونواقصها والأضرار والخسائر التي تسببها والاهتمام بالآلام والأوجاع التي ينزلها البشر بعضهم ببعض بحكم حياتهم المشتركة ، والسهر على التقيد بأنظمة الحضارة التي لا ينصاع لها البشر إلا على مضض بالغ.
هكذا سوف ينسب أصل الهي الى أنظمة الحضارة فترفع الى مستوى من الرفعة يتخطى المجتمعات البشرية وتسحب على نظام الطبيعة وتطور الكون فتصير الضوابط التي أقرتها البشرية لتمشية أمورها تصير هذه الضوابط من باب لا تقتل لا تسرق لا تزني والتي أقرها حمورابي بشريعته….تصير لاحقا تعاليم إلهية….
هذه القوانين الأخلاقية التي تحولت الى أوامر إلهية ستكون هناك محكمة عليا تسهر على التقيد بها بقوة ومنطق أعظم بما لا يقاس ، فالخير سيجد بنهاية المطاف ثوابه كما يجد الشر قصاصة ، ان لم يكن في هذه الدنيا ففي الحياة الأخرى بعد الموت .
(2)
الأفكار الدينية معتقدات ، توكيدات تتعلق بوقائع العالم الخارجي او الداخلي وعلاقاته وهذه المعتقدات تعلمنا أشياء لم نكتشفها ونتأكد منها بأنفسنا ، فنحن من حقنا ان نشك بوجود مدينة لندن ولكن إمكانية السفر الى المدينة والإقامة بها والتأكد من وجودها ممكن …..بينما المعتقدات الدينية تتطلب من جانبنا الإيمان بدون محاكمات عقلية….وهي تطالبنا بالتصديق لان أسلافنا الأوائل كانوا يؤمنون بها وهناك أدلة وبراهين يعود تاريخها الى تلك الأزمنة ، إضافة لذلك من المحظور طرح مسألة صدقها وصحتها.
يحاول فرويد ان يميز بين مصطلحين هما الخطأ والوهم فليس الوهم والخطأ شيئا واحدا….. فالقول ان مجموع اثنان وثلاثة يساوي سبعة قول خاطئ بينما حلم فتاة بان الفارس سيأتي يوما ليأخذها على الحصان الأبيض , يمثل وهما ، رغم انه ليس بالضرورة ان يكون الوهم خطأ ،وكولومبس كان واهما عندما حسب انه وصل الهند بالوقت الذي اكتشف به قارة جديدة…..هكذا يسمي فرويد وهما كل اعتقاد تكون الغلبة في حوافزه وأسبابه لتحقيق رغبة من الرغبات…فرغبة الفتاة العارمة هي التي جعلتها تصدق وهمها بان الفارس قادم وكولومبس كان لدية رغبة الوصول للهند ولذلك ظن ان المكان المكتشف هو الهند….كل ما نؤمن به لتحقيق رغبة بداخلنا يمثل وهما.
ضمن هذا السياق يرى فرويد ان المذاهب الدينية جميعها أوهام ،لا سبيل لإقامة البرهان عليها ، ولا يمكن ان يرغم أي إنسان على ان يعدها صحيحة وان يؤمن بها….. أوهام من الناحية السيكولوجية لأنها تحقيق لرغبة بشرية كامنة ، كرغبة الفتاة الحالمة ، ورغبة كولومبس ، وكلما كانت الرغبات قوية صارت الأوهام أقوى واشد….الخوف والحاجة للحماية جعل الإنسان يتشبث بأب أعظم قوة و أشد باسا….والقلق الإنساني إزاء أخطار الحياة يسكن ويهدأ لدى التفكير بالسلطان الرفيق ، العطوف ، بالعناية الإلهية مع الرغبة بإرساء نظام أخلاقي يحقق العدالة ….ثم ان إطالة الحياة الأرضية بحياة أخرى مستقبلية سيوفر الزمان والمكان اللازمان لتحقيق تلك الرغبات….كلما قست علينا الطبيعة وصعبت ظروف الحياة وكثرت رغباتنا وأحلامنا زادت أوهامنا وحاجتنا الى العزاء والأساطير والخرافات….. إضافة الى ان المنظومة الدينية تعفينا وتسقط عن كاهلنا الإجابة عن الأسئلة التي تؤرق وجودنا مثل أصل الحياة والعلاقة بين الروح والجسد………..
يقول فرويد ما نصه …جميل ورائع حقا ان يكون هناك إله فاطر للكون وعناية إلهية رؤوف ، ونظام أخلاقي للكون وحياة ثانية ، لكن من المثير للفضول أن يكون هذا بالتحديد وبالضبط هو ما نتمناه لأنفسنا …