لم تُدرك أغلب الفضائيات العراقية التي تأسست بعد عام ٢٠٠٣ حقيقة أن العالم أصبح قرية صغيرة وإن نشر أي معلومة بات لا يحتاج إلى مجهود كبير في سرعة وصولها وإنتشارها، بحيث أصبح أي مواطن عادي قادر على نشر أي خبر من خلال قنوات التواصل الإجتماعي أو من خلال جوَاله الخاص.
وظلت هذه الفضائيات العراقية تتعامل مع الرأي العام بنفس المنهج والسياسة التي كانت مُتبعّة من الإعلام الحكومي الذي كان قائماً في زمن النظام السابق.
وفي حادثة يتذكرها معظم العاملين في وزارة الإعلام سابقاً أن الرئيس صدام حسين زار صحيفة الجمهورية الحكومية للاطلاع على سير العمل فيها وخرجت الصحيفة في اليوم التالي بمانشيت وخبر رئيسي عن الزيارة مذيلاً بالمصدر (وكالة الأنباء العراقية) وهي مؤسسة إعلامية حكومية كانت تستحوذ على جميع الأخبار لتقوم بعد ذلك بفلترتها وتوزيعها على الصحف والإذاعة والتلفزيون العراقي، حيث لم تستطع أن تنشر الصحيفة هذا الخبر عن الزيارة إلا بعد أن استلمته من الوكالة كأي صحيفة أخرى.
وبالرغم من هذا الإنفتاح الإعلامي والتطور الإتصالي الذي حدث للعالم في السنوات الأخيرة إلا أن الفضائيات العراقية لازالت لا تفرّق بين فكرة نقل المعلومة ومبدأ صنع المعلومة وشتان بين الفكرة والمبدأ، فنقل المعلومة بات الأمر السهل واليسير للكثير من الفضائيات التي إعتمدت أخبارها بالدرجة الأساس على تصريحات السياسيين والمسؤولين وعلى مكاتب إعلام المؤسسات والوزارات الحكومية وأخبار وتقارير وكالات ومواقع أنباء عالمية دون أن يكون هناك جهد واضح ومتميز في صنع المعلومة، بحيث أصبح واضحاً للمتلقي العراقي ظاهرة إفتقار أو إنعدام وجود مراسلين للفضائيات في كثير من الأماكن أو الدول ذات التأثير السياسي الدولي وصنع القرار مثل البيت الأبيض الأمريكي أو الصين أو روسيا أو حتى في كوريا الشمالية لنقل الأحداث أولاً بأول وظلت هذه الفضائيات تتناقل الأخبار مع إضافة بعض الرتوش أو التكهنات حسب ما تقتضيه الحاجة أو توجهات الفضائية.
أما بالنسبة لمبدأ صنع المعلومة فقد دأبت بعض القنوات العربية والتي تُجيد فن ايصال الرسائل الإعلامية الى الرأي العام على تأسيس مطابخ إعلامية ومراكز بحوث نفسية داخل الفضائيات الإخبارية العربية لرسم توجهات وإستراتيجيات الفضائية وما تُريده من إيصال الخبر والغاية من نشر المعلومة، بحيث أصبح مقدم نشرة الأخبار في الفضائية العربية إضافة إلى مهنيته فهو محاور بارع في إنتزاع الاجوبة من الضيف وأكثر دهاءاً في إستمالة ضيوف نشرة الأخبار وطرح ما عندهم من معلومات وأسرار قد لا يذكرونها عند إستضافتهم في نشرات الأخبار العراقية، والطريف أن جميع السياسيين وعلى إختلاف مسمياتهم يتسابقون للظهور في هذه الفضائيات العربية وطرح أفكارهم وآرائهم وما يخفوه بالرغم من إنتقادهم ولومهم لتوجهات تلك الفضائيات، يضاف الى ذلك بساطة وعدم تكّلف مقدم نشرة الأخبار الفضائية العربية في طرح الأسئلة وانتظار الأجوبة بعكس مقدم أو مقدمة نشرات الأخبار العراقية الذي غالباً ما يكون مُتشنجاً أو كأنه في إستجواب مع الضيف، ولا ننسى أن الكثير من مقدمات نشرات الأخبار العراقية يوحي مظهرهنّ التبرج الزائد في الملبس والمكياج وكأنهنّ عارضات أزياء وليس مقدمات برامج وهو مالم نجده في نشرات أخبار الفضائيات العربية التي إمتازت مقدماتها بالبساطة وعدم التكلف.
لقد أظهرت أحداث إنتفاضة تشرين الأول للشعب العراقي تخلف وتشتت الإعلام العراقي في نقل المعلومة إلى الرأي العام، حيث إعتمد الكثير من هذا الإعلام على نقل الاحداث والوقائع من خلال وسائل إعلام ووكالات أنباء عالمية أو مراسلين أجانب أو من خلال صور ولقطات بثها ناشطون توثق صور ولقطات وأحداث ما كان يجري في موقع التظاهرات، ولم تستطع هذه الفضائيات أن تقدم الصورة الأوضح لما كان يحدث في التظاهرات وإكتفى بعضها بنقل آراء وإنتقادات بعض المتظاهرين للحكومة أو التنقل بين خيم المتظاهرين، بينما تجاهلت بعض الفضائيات وخصوصاً الحزبية ما كان يحدث في ساحات التظاهر.
ولقد أختلفت الفضائيات فيما بينها في توصيف هذه الأحداث فالفضائيات الحزبية المؤيدة للحكومة اتهمت المتظاهرين بالعمالة والجوكرية والمندسين وأخرى لم تقدم الصورة الحقيقية لثورة العراقيين وإكتفت بما كانت تعرضه على التلفاز من لقطات وصور تُذيلها ب(العاجل) وهو شريط يوثق الحدث بلحظته ببضع كلمات تختصر الخبر وكان هذا العاجل هو العنوان الرئيسي الأكثر شيوعاً في الأحداث العراقية التي تسيّدت الأخبار.
وقد حاولت بعض الفضائيات ومن باب التغيير والإنجاز (كما تعتقد هي) أن تغير كلمة (عاجل) إلى كلمة (هام) ظناً منها أن هذا هو التفوق الإعلامي، بينما اكتفت فضائيات أخرى بموقف المتفرج واللامبالاة بما يحدث وكأن هذه الأحداث تحدث في كوكب آخر بينما أشغلت هذه الفضائيات الرأي العام العراقي وخصصت معظم وقتها للأحداث والتظاهرات وأعمال العنف التي اجتاحت أمريكا بعد مقتل مواطن أمريكي.
الباحث والمتتبع لواقع الإعلام العراقي يُدرك جيداً أن الإعلام العراقي يمر بأزمة ومحنة حاله حال أي قطاع صناعي أو زراعي أو صحي وإن هذا القطاع يحتاج إلى منهاج عمل واستراتيجية تنتشله من الضياع والإحباط وأن العالم بات يُدرك إن إيصال الرسائل الإعلامية الى الرأي العام قد تطورت وأصبحت أقصر مما نظن وأصغر حتى من القرية بينما ظلت الفضائيات العراقية عبارة عن دكاكين لا تُجيد حتى فن تسويق وبيع البضاعة وأنجذب إليها الكثير من العاطلين الذين وجدوا فيها مهنة من لا مهنة له.
وبعد أن كانت الإذاعة والتلفزيون العراقي لا يتجاوز عدد موظفيه (٣٠٠-٤٠٠) موظف من كافة الاختصاصات أصبح عدد موظفي الفضائيات بالآلاف دون أن يكون هناك إنتاج إعلامي متميز وهو الفشل الذي نخاف منه.