ليس في هذه المقالة اية محاولة للتنظير، ولكنها اول محاولة في تحويل الانطباع العام الى نهج خاص، اذ المحور الذي يدور حوله حديثنا هو التجربة او التجريب او النقل.
التجريبية مذهبا Empiricism بعد المعرفة كلها مستمدة من التجربة، اذ ليس هناك اي مجال للتنظير قدر تعلق الامر بهذه المعلومة الكبيرة الصغيرة، ولكن التجربة تجعل من صاحبها السياسي هنا كائنا بين ظرفين اولهما قبل التجربة والاخر بعدها، فمعرفته قبل التجربة بها وبدروسها او عبرها او اسبابها ونتائجها تجعله مؤهلا لخوض التجربة بنجاح في الاحيان او في نصفها في الاقل، اما اذا لم يكن ذا معرفة بذلك كله قبل التجربة فانه سيخرج منها بخبرة تجريبية محددة تتراكم لديه. وهكذا صار المصطلح الادبي – قبلي وقبلية Priorism- و-بعدي وبعدية Posteriorism- ممكن التطبيق والتداول في العمل السياسي تماما وبمعزل عن النجاح او الاخفاق في كل تجربة، بل بتحديد العلاقة بين الخطأ والصواب والممكن وغير الممكن قبل ذلك.
والتجربة السياسية كالتجربة الفيزيائية او البيولوجية بداهة ولكن التجربة السياسية تسبق التجربة الفيزيائية او البيولوجية من حيث امتدادها الظرفي وانتشارها البشري وافاقها الاجتماعية وجذورها التاريخية وليس كل عمل سياسي تجربة ولكن كل تجربة سياسية هي عمل سياسي حتما.
من هنا جاء اهتمامنا بموضوع (قبل) و (بعد) بازاء التجربة السياسية وليس العمل السياسي اذ ان الاخير تابع والاولى متبوعة بل الاخير جزء ملحق بالاولى بحكم الواقع وليس بضرورة الارتباط الشكلي او الادائي.
تبدو علاقة العراق بمجلس الامن الدولي تجربة سياسية وليس عملا سياسيا تقليديا لان العمل السياسي العراقي ازاء مجلس الامن الدولي اتى باطار هذه التجربة الواسعة في محتواها الاقتصادي والفكري والنفسي، وكل من هذه الصعد له عمل يرتبط به باطار التجربة الواحدة، ولكن خبرة العراق ازاء هذه التجربة غير مسبوقة، اي انه قبل هذه التجربة لا يمتلك الصورة التي ستؤول اليه الامور استنادا الى تجربة سابقة مماثلة او نظيرة، من هنا فان ما تفرزه التجربة بعد اجراءاتها العملية بعد خبرة جديدة مستحصلة، اذ تصلح بدورها لتكون خبرة قبلية لعلاقة جديدة مستقبلية. واذ من الراجح ان هذه العلاقة لا تنفي افادة العراق من خبرات (قبلية) لتجارب اخرى غير عراقية … فان ما تتمخص عنه تجربة العراق من خبرة (بعدية) تصلح لدول اخرى قد تمر بظروف مماثلة لما مر بها العراق. وليست ( كذا دولة في عالمنا المضطرب ..) ببعيدة عن هذا الواقع المتوقع ولا نستطيع تحديد مدى الافادة في كل الحالات ولا حتى نوعها انما هي مسألة نسبية تظهر فيها براعة الدبلوماسية في تحويل القليل الى كثير والمتواضع الى فعال وهكذا..
واذا كان هذا المثال يغطي العلاقات الدولية في ازمة التقابل (مع – ضد) بين دول تريد الهيمنة ودول تسعى الى التحرر والاستقلال فأن التجربة بقبلتيها وبعديتها الخبرية يمكن ان تكون وطنية داخلية، تماما سواء على سقف زمني مفتوح او بسقف زمني مغلق، فالوضع الاجتماعي والديموغرافي والانثروبولوجي والاقتصادي للمجتمع الواحد وفي المجتمع الواحد لا بد يفرز علاقة افقية توافقية او علاقة رأسية تناقضية في وقت آخر. بينما حالة المثال التي تنبثق من تكامل (القبلية) و ( البعدية) تشير الى علاقة افقية ورأسية توافقية في وقت ما، وقد تنقلب الصورة الى علاقة افقية تناقضية او رأسية توافقية وان حالة الخروج على التاريخ والمجتمع كله هي حالة العلاقة الافقية والرأسية التناقضية وهي حالة الاستعمار المباشر مقابل الوطن المحتل بشعبه وتاريخه ومقوماته المادية كلها.
ذلك الذي كنا نراه ومازلنا في واقع فلسطين بأزاء سلطة الاحتلال الاسرائيلي تماما. فلقد افادت التجربة القبلية للشعب الفلسطيني والامة العربية ان الصهيونية لن تستسلم للحق الفلسطيني والعربي سلميا وعندما خاضت منظمة التحرير الفلسطيني تجربة الحل السلمي بغير هذه الخبرة المستخلصة تاريخياً، بل خاضتها نفسيا ودبلوماسيا فقد افضت التجربة الى خبرات (بعدية) نعتقد انها اكدت الخبرة القبلية بنسبة عالية اما ما تحقق من نجاح عملي على الارض فقد كان محدودا بل مقابل كلفة عالية في الزمن والمال والانفس الطاهرة معا. ولكن التجربتين، العراقية مع مجلس الامن الدولي عقد التسعينات ، والفلسطينية مع الصهاينة ومن وراء مجلس الامن والصهاينة معا تقف الولايات المتحدة وبريطانيا، تواجه عقبات لا تندرج على صفات التقليدية او المتوقعة بل على عدد من الموانع التاريخية في السياسة الدولية المعاصرة التي يكون فيها القرار المسبق سيفاً امام كل حيثيات الاخلاق والموضوعية، ازاء حقوق الانسان التي خرقتها الجهات التي شرعتها اصلا، وليس لنا بعد ذلك الا العودة الى قوانين التاريخ والمجتمعات الرئيسية في التعامل مع الاحداث المعاصرة.. وقد تكون في هذه السيرورة فعلا.
[email protected]