ولد تولستوي عام 1828 , وكان عمر غوغول آنذاك 19 سنة , وتوفي غوغول عام 1852 , وكان عمر تولستوي عندها 24 سنة , اي ان تولستوي وغوغول عاصرا بعضهما البعض , لكنهما لم يلتقيا شخصيّا رغم انهما عاشا معا في روسيا, اذ لم يكن تولستوي قد بدأ مسيرته الابداعية الكبيرة بعد, اما غوغول فكان في أوج مجده الادبي , ولكن مع ذلك و رغم ذلك , فان الحديث عن علاقة تولستوي بغوغول اصبح الآن موضوعا واسعا و كبيرا في مسيرة النقد الادبي الروسي , و نحاول في مقالتنا هذه الاشارة – ليس الا – الى واحدة من اهم معالم هذه العلاقة بين الاديبين الكبيرين , و تعريف القارئ العربي بها , اذ اننا نظن , ان القارئ العربي لم يطلع على تلك التفاصيل التي قد تبدو صغيرة , ولكنها – في الواقع – مهمة جدا (وطريفة ايضا) في مسيرة الادب الروسي وتاريخه .
يتحدث الباحثون الروس عن عدة مراحل لعلاقة تولستوي بغوغول , ويختلفون طبعا بتقييم هذه العلاقة وحسب مواقفهم الفكرية تجاه ابداع غوغول وتولستوي , ولكنهم يتفقون ان ذروة تلك العلاقة حدثت في اعوام الثمانينات من القرن التاسع عشر , عندما بدأت ما يسمى بالازمة الروحية لتولستوي ( على وفق التعبير السوفيتي , الذي كان سائدا في المصادر الروسية السوفيتية آنذاك ) , وهي – في واقع الحال – ليست أزمة , وانما يمكن تسميتها مرحلة التأمّل الروحي او الصحوة و الاستيقاظ او لحظة التفكير المعمّق في مجمل مسيرة الحياة الماضية, والتي يمر بها الانسان المثقف ( وخصوصا المبدع ) في كل زمان و مكان , وذلك لمراجعة صحة مسيرته الفكرية السابقة , وهل يجب عليه الاستمرار بها كما كانت سابقا , ام يعيد البناء الفني والفكري لمسيرته من منطلق آخر, تتقبّل ( المسيرة) وجهات النظر الاخرى وتأخذها بنظر الاعتبار , وهذه المرحلة تحدث عادة في مسيرة حياة الانسان المثقف , وحسب كلمات تولستوي نفسه – ( …في شبابه او في سنوات نضجه او في شيخوخته , او على فراش الموت …).
أعاد تولستوي في تلك المرحلة من مسيرته قراءة كتاب غوغول الاخير – مراسلات مختارة مع الاصدقاء ( انظر مقالتنا بعنوان – حول آخر كتاب أصدره غوغول) , للمرّة الثالثة كما كتب تولستوي نفسه في احدى رسائله الى اصدقائه, وان الانطباعات لديه هذه المرّة ( اي الثالثة ) أشدّ وأقوى من القراءات السابقة . العودة الى قراءة هذا الكتاب لم تكن عفوية ابدا , اذ ان تولستوي كان يعتبر هذا الكتاب تعبيرا دقيقا عن تلك الحالة الفكرية التأمّلية لغوغول بشأن مسيرته الابداعية الماضية, والتي كان تولستوي نفسه يمرّ بها آنذاك , مرحلة تقييم واعادة تقييم المواقف الماضية تجاه كل شؤون الحياة . وفي هذه النقطة بالذات كان يكمن اختلافات الباحثين الروس حول تلك العلاقة بين الاديبيبن الكبيرين – غوغول وتولستوي , اذ كان الرأي السائد في الاتحاد السوفيتي حول كتاب غوغول ( مختارات من مراسلات مع الاصدقاء ) هو موقف سلبي , الموقف الذي حدده بيلينسكي آنذاك في رسالته المشهورة الى غوغول ( انظر مقالتنا بعنوان – حول بيلينسكي ورسالته الى غوغول ) , ولهذا أطلقوا تسمية ( الازمة الروحية لتولستوي ) على تلك المرحلة من مسيرة تولستوي الابداعية , لانه عاد مرة اخرى لقراءة كتاب غوغول السلبي هذا , أما الرأي الآخر عند الباحثين هؤلاء , فكان يرى ان كتاب غوغول هذا هو التقييم الصحيح لغوغول , والذي قام به غوغول نفسه بشأن مجمل ابداعه في نهاية حياته, هذه الحياة التي انهاها غوغول حسب رأي تولستوي بنضوج اخلاقي وانبعاث روحي .
تولستوي بعودته الى قراءة هذا الكتاب لغوغول – وللمرة الثالثة – تعني تأييده – بشكل او بآخر – لموقف غوغول الفكري المحدد ذاك , وان هذا يعني ( فيما يعنيه ايضا ) , ان تولستوي كان غير متّفقا مع آراء بيلينسكي وموقفه المضاد من كتاب غوغول ذاك , على الرغم من ان تولستوي لم يذكرذلك ولم يتحدث عنه بشكل صريح ودقيق, وربما كان هذا الموقف يعني , مثلما علّق أحد القراء الروس , ان تولستوي العملاق أكبر من ان يتوقف عند هذه النقطة عندما يحدد موقفه الفكري من أي قضية كانت , فقد كان في روسيا آنذاك (وكما قال أحد كبار النقاد الروس في حينه) قيصران ولم يكن هناك قيصر واحد , وهما – قيصر الكرملين والقيصر تولستوي , وان قيصر الكرملين لا يقدر ان يؤثّر على تولستوي , بينما تولستوي يقدر ان يؤثّر على قيصر الكرملين …
هذه هي بايجاز خلاصة الخلاصة بشأن موقف تولستوي تجاه كتاب غوغول ( مختارات من مراسلات مع الاصدقاء ) , الكتاب الذي أثار زوبعة من الآراء المتناقضة في تاريخ الادب الروسي , وهي زوبعة لم تخفت لحد الآن , علما ان النقد الادبي السوفيتي في حينه لم يأخذ بنظر الاعتبار رأي تولستوي هذا , وحاول تجاهله اصلا و عدم التطرق اليه بشكل عام عند الكلام عن الكتاب المذكور, وهذا موضوع آخر طبعا …