23 نوفمبر، 2024 1:32 ص
Search
Close this search box.

التصوف الإسلامي .. وَمَضَاتٌ مِنْ رَسَامِيل الدَّهْشَةِ

التصوف الإسلامي .. وَمَضَاتٌ مِنْ رَسَامِيل الدَّهْشَةِ

التَّصَوُّفُ الإسْلامِيُّ فِي سُلْطَةِ مَجَازِهِ :
يعد القرنان الرابع والخامس الهجريان عصر المصنفات الصوفية الكبرى والتي استطاعت أن ترسم طريق التصوف الإسلامي لعصور قادمة ، وربما هذا العصر الذي يمكن توصيفه بالعصر الذهبي للتصوف في الإسلام قد واكب التفكك السياسي للدولة العباسية حتى أقر المؤرخون بأن سلطة الخليفة العباسي لم تتجاوز حكم وولاية بغداد ، وهذا التفكك السياسي هو الذي أفقدها القدرة على السيطرة والتحكم في البلاد مما استحال الأمر عقب ذلك إلى تحول تلك البلدان إلى إمارات سياسية مستقلة عنها وبعيدة تمام البعد عن سيطرتها السياسية والعسكرية . ورغم هذا التفكك السلطوي للخلافة العباسية وانهيار الأنظمة السيادية آنذاك بفعل عوامل مختلفة منها ضعف الخلفاء العباسيين ، وبزوغ الدولة الفاطمية ، والهجمات الخارجية التي تعرضت لها الخلافة العباسية مثل الحملات الصليبية المتواترة ، ومن بعدها الغارات المغولية لم تفقد الثقافة الإسلامية تماسكها المعرفي أو بريقها الاستثنائي ، واستطاعت فتوحات الدولة العباسية رغم انهيارها بعد ذلك أن تفتح آفاقا جديدة للحراك الثقافي والشراك المعرفية مع ثقافات أخرى غير متماثلة ، وفي ظل هذه الثورة الثقافية استطاع التصوف الإسلامي أن ينتقل من مرحلة الشيخ الصوفي الذي يهتم المريدون والمعارضون بأخباره وحكاياه وبعض قطوفه اللغوية القصيرة ومواقفه الشخصية مع العامة والأمراء على السواء ، إلى مرحلة جديدة وفارقة في تاريخ التصوف وهي مرحلة تصنيف المؤلفات الكبيرة ذات التخصص ، مما أمكن المتخصصون أن يطلقوا على هذين القرنين علم التصوف لكثرة التصنيفات والمؤلفات ، ورأينا المصنفات الصوفية التي تجري في موضوع واحد وتقتصر على قضية واحدة بعينها بخلاف ما سبق من تصنيفات كانت تتناول موضوعات وقضايا شتى .
ويمكن توصيف هذه الحقبة الزمنية بأنها ثمة انتقال التصوف من مرحلة إبداع الكلمة والجملة والعبارة إلى مرحلة الخبرة الصوفية الواسعة والشاملة ، وربما اتساع دائرة العلوم الإسلامية آنذاك وظهور عواصم عديدة للثقافة الإسلامية وانتشار العلوم الإسلامية وشيوع المدارس الدينية وفتح أبواب الاجتهاد الفقهي مع دعوات تجديد الفكر الديني هو الذي ساعد على ظهور علم التصوف في سلطة مجازه اللغوي . ومن أبرز هذه المصنفات التي راجت في عصر التصوف الذهبي معتمدة على سلطة المجاز كتاب ( اللمع في التصوف ) لأبي نصر السراج الطوسي ، وكتاب ( قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد ) لأبي طالب المكي ، وكتاب ( الرسالة في علم التصوف ) لأبي القاسم عبد الكريم القشيري ، وكتاب ( ختم الأولياء ) للحكيم الترمزي ، وأخيرا كتاب ( المواقف والمخاطبات ) لعبد الجبار النفري .
اِنْفِرَادُ المَشْهَدِ :
مِنْ جَمَالِيَّاتِ المواقف والمخاطبات لمحمد بن عبد الجبار النفري انتفاء سيرة ذاتية لشخصه وحياته وقلة الاهتمام التاريخي بتكوينه الصوفي وانعدام وجود ترجمة ذاتية تسطر حكايته وحكاياه ، مما جعل كتابه المواقف والمخاطبات إرثا شرعيا لقارئه ، ووطنا مشاعا للراغبين في النهل والاستئناس ، وهذا ما جعل كتاب النفري سفرا استثنائيا مدهشا بخلاف كافة مصنفات المتصوفة ، لأنه بلا سيرة ذاتية تقتنص فيمكن للقارئ والمريد والكاره أيضا أن يستقرئ المواقف والمخاطبات في ضوء هذه الإشارات المتضمنة بسيرته وحياته ، وكم من مؤرخ وناقد ومتتبع لسير أقطاب التصوف في الإسلام استعان بسيرهم من أجل تفسير مضمون العاقبة لمصنفاتهم وسطورهم التي لا تزال خالدة الذكر والتداول .
ولحظات الاقتناص تلك تضطر القارئ دوما إلى التماس فرضيات القراءة ، ومعالجة النص التراثي بآليات ومناهج نقدية معاصرة غير تاريخية ، وعدم الاعتماد على أطر منهجية معتادة من أجل تحقيق الوصول إلى المنطق الداخلي الذي يحكم هذه النصوص الصوفية التي تكترث كثيرا بالترميز اللغوي والإشارات صعبة المراس والتأويل النقدي المباشر لها ، وهذا يجعلنا نشير إلى السؤال المكرور حول النصوص التراثية الدينية وهو هل من منهج واحد لقراءة النص التراثي الديني ؟ الإجابة بالقطعية تفي وتشي بأن المنهج التاريخي النقدي هو الأقرب لتناول جملة كبيرة وعريضة من نصوص التراث ، لكن في حالة المشهد الصوفي يبدو الأمر مغايرا ، لجملة من الأسباب أيضا أبرزها طبيعة النص الصوفي الذي يتسم بالعمق الذي يبعده كثيرا عن التناول التاريخي القريب لشخصية الشيخ الصوفي وللعصر الذي يمثله أيضا ، علاوة على أن النص الصوفي الواحد متعدد الشكل متنوع المضمون وهذا التنوع يجعله محصنا وبمنأى عن التناول النقدي المعتاد ، بل يمكننا أن نرصد حالة نقدية صوب النصوص الصوفية ، وهي أنه بقدر ما يحاول المؤرج أو الناقد لتحليل وتأويل النص الصوفي ساعيا في ذلك إلى خلق مساحات أوسع من الفهم والتلقي ، بقدر ما يزيد هذا التناول غموضا عليه ، فهو يضئ مساحات ويترك مساحات أخرى معتمة .
الملمح الآخر الذي يمكن رصده ونحن بصدد اقتناص المشهد الصوفي هو تحولات المعرفة داخل النص وتطورها ، فبرغم أن النص الصوفي يبدو تراثيا بحكم موقعه الزمني ، إلا أن المعاصرة والجدة والحداثة من أبرز سماته مما يجعل تداخلا بين موقفي الاتصال التراثي والمعاصر وهذا التداخل يشكل صعوبة لدى الناقد وهو يتناول نصا صوفيا بالغ الترميز . ولعل سمة التداخل هذه امتزجت فيها البلاغة التخييلية بالغاية التواصلية التداولية وهو الملمح الأكثر بروزا في المواقف والمخاطبات لاسيما المواقف التي تمثل مشهدا افتراضيا ، يقول النفري : ” يا عبد ، اخرج من همك تخرج من حدك ” ، ويقول أيضا : ” يا عبد ، الوجد بما دوني سترة عن الوجد بي ، وبحسب السترة عن الوجد عن الوجد بي تأخذ منك البدايات ، كنت من أهلها أم لم تكن من أهلها ” .
البَحْثُ عَنْ لَحْظَةِ اقْتِنَاصٍ:
أما إمامنا وشيخنا القطب عبد الجبار النفري يمثل صندوقا أسود لا يمكن العثور على حقيقة تاريخية بشأنه إنما بشأن سفره العظيم المواقف والمخاطبات ، وكم من مستشرق أجنبي أرهق لهثا وبحثا وتنقيبا عن مَعْلَمٍ يمكن من خلاله العبور إلى وقفات النفري ومخاطباته ، وجلَّ ما استطاعوا تسطيره عنه مثل ما أورده جوزيبي سكاتولين في كتابه ( التجليات الروحية في الإسلام ) أنه من مدينة ( نَفَّر ) وهي مدينة بابلية قديمة بالقرب من الكوفة ، اسمها الأصلي ( نيبور ) ، وكان فيها معبد ( آكور) الذي عُبِدَ به الرب إنليل المعروف بسيد الهواء، واستحالت المدينة بعد ذلك مركزاً للديانة المانوية، ثم المسيحية في القرن السابع الميلادي. وكل ما وصل إلينا من حكايته شيئان فحسب ، ما رواه الصوفي الكبير عفيف الدين التلمساني في شرحه للمواقف والمخطابات بأنه كان كثير السفر كثير الترحال في البراري ، لا يسكن إلى إنسان ، ولا يستوطن بمكان ،مستوحشا المكان وربما الزمان أيضا ، وهو شخصية تعتاد التخفي عن قصد ، والابتعاد عن الأنظار متعمدا ذلك ، ويروي عفيف الدين التلمساني أنه توفي بمصر المحروسة . أما الشئ الثاني الذي وصل إلينا واضحا جليا هو كتابه المواقف والمخطبات وهو رؤية للكون والأشياء من زوايا استثنائية تفوق كل المعارف الصوفية وكل البيان البلاغي البشري ، والنفري هو صاحب المقولة الأشهر في تاريخ التصوف والتي رددها بعده مئات مئات المتصوفة وهي مقولة ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ” .
واجتهد المؤرخون العرب والمستشرقون على السواء في تحديد جملة من الأسباب التي أدت إلى غموض شخصية النفري ، وغموض توقيت تصنيفه لكتاب المواقف والمخاطبات والذي اكتشفه المستشرق آرثر جون آربري في عام 1934 ميلادية ، ومن هذه الأسباب أن عبد الجبار النفري عاصر محنة الحسين بن منصور الحلاج ، تلك المحنة التي انتهت بقتله حتى صارت شخصيته بعد ذلك مصدرا أصيلا للإبداع الشعري والمسرحي واستحال هو نفسه أيقونة لحرية التعبير والإبداع ، ويشير كثير من نقاد الأدب إلى أن نصوص الحلاج الصوفية هي المصدر الأصيل لما يعرف بقصيدة النثر المعاصرة ، ولعل محنة الحلاج أجبرت كثيرين على الجنوح بعيدا عن المشهد الاجتماعي وحراكه خوفه من سوء الفهم وغضب الحكام ورجال الشريعة والخوف من تكفير الفقهاء . لاسيما وأن بعضا من مواقف النفري تجعله ينال نفس مصير الحلاج إذ يقول في مواقفه : ” وقال لي في خلافية التعرف ، فوقفت فرأيته جهلا ، ثم عرفت فرأيت الجهل في معرفته ولم أر المعرفة في الجهل به ” ، ويقول أيضا : ” من علامات اليقين الثبات ، ومن علامات الثبات الأمن في الروع ” .
والسبب الثاني الذي دفع النفري إلى الاحتجاب وانعدام الظهور المجتمعي هو ما ذكره بعض المؤرخين عنه بأنه شيعي المذهب؛ وهو ما يبدو من خلال نصِّه الأخير في المواقف والمخاطبات الذي يشير فيه إلى الإمام المنتظر الذي يظهر وأصحابَه في آخر الزمان، بحسب الرواية الشيعية، والاعتقاد الشيعي بخصوص الإمام المنتظر متطابق مع مفردات النص النفَّري. لكنني حينما عدت إلى الموقف الأخير من مواقفه وجدته يتحدث عن ( الكنف ) وفيه تناول موضوعات سريعة كالقوة والوسائط ، العلم والعمل ، ولا توجد أية إشارة للتشيع حسبما وصف بذلك ، أما في المخاطبة الأخيرة وهي بعنوان ( مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت) وفيها يقول : ” أوقفني وقال لي قل لليل ألا أصبح لن تعود من بعد لأنني أطلع الشمس من لدن غابت عن الأرض وأحبسها أن تسير وتحرق ماكان يستظل بك وينبت نباتا ماء فيه وأبدو من كل ناحية فأرعى البهائم نبتك ويطول نبتي ويحس وتتفتح عيونه ويروني واحتج فيكتبون حجتي بإيمانهم ويفرق الجبل الشاهق من قعره بعد أن كانت المياه في أعلاه وهو لايشرب وأخفض قعر الماء وامد الهاجرة ولا أعقبها بالزوال هنالك يجتمعون وأكفئ الأواني كلها وتري الطائر يسرح في وكره وترى المستريح يشتري السهر بالنوم ويفتدي الحرب بالدعة ” . والحقيقة أن التشيع بغير ملمح واضح في كتاب المواقف والمخاطبات سوى أنها غارقة في العرفانية والذهنية المحضة .
المَوَاقِفُ والمُخَاطَبَاتُ :
كما ذكرنا من قبل أن مصنف عبد الجبار النفري ( المواقف والمخطابات ) يستمد قوته ومكانته المعرفية والصوفية كون صاحبة بغير سيرة ذاتية كافية وشافية للمريد والمهموم بتاريخ التصوف في الإسلام ، مما يجعل الكتاب نفسه هو الملمح الأهم والأبرز في حياة صاحبه ، و هو ـ أي الكتاب ـ يعتبر بمثابة دليل ثقافي للتصوف ونموذج معرفي شديد الخصوصية الذهنية إذ يتطلب قدرا عاليا من التأويل ومن قبله رصد المشاهد المعرفية المتضمنة في المواقف ، وربما أشار كثير من مؤرخي حركة التصوف إلى أن المواقف والمخاطبات مشروع جديد في التصوف الإسلامي قائم على المنحى الذهني المعرفي ، وحاول كثيرون أن يربوا بين كتاب عبد الجبار النفري وبين كتاب الاعترافات لأوجستين واضع أول سيرة ذاتية في التاريخ .
وتبلغ ذروة بلاغة كتاب النفري في اختزال المشاهد والمواقف الإنسانية في أقوال وحكم ، وهي بالقطعية تشاكل الضوء المضغوط المكثف الذي يستدعي نوعا خاصا من المراقبة دون غمض العين عنه . ومن أجمل التوصيف لمشاهدات النفري ومخاطباته الذهنية ما ذكره سكاتولين بأنه ” كان صوفيا عميقا ، بل عبقريا ، مما يجعلنا نعتبره من أعمق المفكرين في الإسلام ” ، ولاشك أن القارئ للمواقف والمخاطبات يقف على ثمة حقائق بعينها يمكن رصدها الآن في ملامح ، مثل المصالحة الرائعة مع ذاكرتي القلب والعقل معًا ، ومحاولته البديعة في كسر الصمت الصوفي الطويل الذي لازم كثيرا من الصوفية ، وربما استطاع النفري أن يرهقنا ذهنيا بمواقفه من خلال طرحنا نحن لأنفسنا عدة أمثلة لا تزال راهنة إلى يومنا الآني من مثل : هل امتلك النفري المعرفة وكنهها ؟ ، وهل كتاب المواقف واقع يقر بألا نخاف من انفتاح القلب صوب العقل ؟ ، وهل ما طرحه النفري في كتابه مجرد تساؤلات استنفارية للعقل البشري أم هو تقرير لحالة البوح الصوفي ؟ .
وفي كتاب المواقف والمخاطبات نجد النفري قسم مصنفه إلى موضوعات هي أشبه بالمحاورة وإن كانت أقرب إلى وضع تصور معرفي لبعض القضايا الإنسانية وقضايا أخرى تتعلق بغيب لا يقتنص ، ومواضعات المواقف نفسها تشير بقوة إلى حضور الجانب المعرفي والمنحى العرفاني مثل مواقف ” أنت معنى الكون ” ، ” معرفة المعارف” ، ” الدلالة ” ، “البصيرة”، ” وراء المواقف” ، ونسرد موقف ( أنت معنى الكون ) الذي يقول فيه :
” أوقفني وقال لي أنت ثابت ومثبت فلا تنظر إلى ثبتك فمن نظرك إليك أتيت وقال لي أنظر إلى مثبتي ومثبتك تسلم لأنك تراني وتراك وإذا كنت في شيء غلبت.
وقال لي متى رأيت نفسك ثبتاً أو ثابتاً ولم ترني في الرؤية مثبتاً حجبت وجهي وأسفر لك وجهك فانظر إلى ماذا بدا لك وماذا توارى عنك.
وقال لي لا تنظر إلى الإبداء ولا إلى البادي فتضحك وتبكي وإذا ضحكت وبكيت فأنت منك لا مني.
وقال لي إن لم تجعل كل ما أبديت وأبديه وراء ظهرك لم تفلح فإن لم تفلح لم تجتمع علي.
وقال لي كن بيني وبين ما بدا ويبدو ولا تجعل بيني وبينك بدواً ولا إبداء.
وقال لي الأخبار التي أنت في عموم.
وقال لي أنت معنى الكون كله ” .
إشْرَاقَاتُ النَّفَّرِيِّ :
إن اهتمام النفري في المواقف والمخاطبات بالماورائية تعد إراقات تمهيدية للمريد بحثا عن طبيعة التصوف الإسلامي وصولا إلى غايته ، لذلك لم يلجأ النفري في كتابه إلى انزياحات معرفية سابقة أو مبررات لتعبيراته بخلاف ما قام به محي الدين بن عربي في بعض مصنفاته التي قام بعمل شروح قصيرة لها خوفا من قصر الفهم وسوئه . لكن الكتاب في مجمله والذي يمتاز بلغة رمزية شديدة الترميز والتلميح بغير تصريح أو استطراد في الشرح يحتاج إلى قارئ مثالي يجيد آليات التأويل ويعتبر نفسه أمام نص أجنبي وليس عربيا فيستحيل بذلك مترجما فنيا وليس حرفيا له ، مع محاولة اجتيار اللغة النصية المباشرة اجتيازا إلى لغة أخرى غير بائنة بسبب ثراء اللغة الرمزية المتوافرة بكتاب المواقف للنفري .
ولم تكن الكتابة عند النفري مسألة اختيار ، هذا ما يدفعنا إلى تبني حقيقة مفادها أن اعتماد عبد الجبار النفري على التكثيف اللغوي والرمزية الاستثنائية والتراكيب اللغوية البيانية الأقرب للومضات الكاشفة لأسرار النفس هو توجه عن غير قصد للكتابة تأكيدا لمقولته البارزة ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ” .
وتنتمي مواقف النفري إلى فكرة الحجاب الموجودة لدى الصوفيين وهي في اصطلاح الصوفية كما أشار الجرجاني في كتابه ( التعريفات ) بأنها تعني كل ما يستر المطلوب ، وهو عندهم انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق . أما الغزالي في كتابه (روضة الطالبين وعمدة السالكين ) فيرى أن كل ما سوى الحق تعالى إنما هو حجاب عنه ، ويقول نصاً : ” ولولا ظلمة الكون لظهر نور الغيب ، ولولا فتنة النفس لارتفعت الحجب ، ولولا العوائق لانكشفت الحقائق ، ولولا العلل ابرزت القدرة ، ولولا الطمع لرسخت المحبة ، ولولا حظ باق لأحرق الأرواح الاشتياق ” . ومن هذه الزاوية ، زاوية الحجاب والاحتجاب يمكن فهم مواقف النفري ومخاطباته كلها ، وهو في استخدامه لفكرة الحجاب لا يخرج عن مسالك محددة تشير إلى معانٍ متعددة للحجاب مثل الشيخ المريد ، والسالك الصادق ، وبمعنى الحجب ، وبمعنى الستر ، يقول النفري في مواقفه :
وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء .
وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني .
وقال لي: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف .
وقال لي: فإن العارف كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها.
وقال لي: المعرفة نارٌ تأكل المحبة .
وقال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل .
أما ما يتعلق بمشاهد الغيب يقول النفري في مواقفه عن النعيم والجحيم :
” قال لي ما الجنة، قلت وصف من أوصاف التنعيم، قال ما التنعيم، قلت وصف من أوصاف اللطف، قال ما اللطف، قلت وصف من أوصاف الرحمة، قال ما الرحمة، قلت وصف من أوصاف الكرم.
قال ما الكرم، قلت وصف من أوصاف العطف، قال ما العطف، قلت وصف من أوصاف الود، قال ما الود، قال وصف من أوصاف الحب، قال ما الحب، قلت وصف من أوصاف الرضا.
قال ما الرضا، قلت وصف من أوصاف الاصطفاء، قال ما الاصطفاء، قلت وصف من أوصاف النظر، قال ما النظر، قلت وصف من أوصاف الذات، قال ما الذات، قلت أنت الله، قال قلت الحق، قلت أنت قولتني، قال لترى نعمتي.
مَشَاهِدٌ مِنْ مُخَاطَبَاتِ النَّفَّرِيِّ :
تمثل المخاطبات التي أوردها عبد الجبار النفري في كتابه ذروة بيانه الصوفي وإن تعمد الرمزية وترميز نصه بإشارات لا يمكن فهم كننها إلا بدراسة عميقة لواقع التداول اللغوي آنذاك ، كذلك بدراسة المشهد الاجتماعي المشتمل على الفكر الديني والفقهي والملامح السياسية وحراك المجتمع الذي بالظنية قد يلقي بظلال على تلك الطروحات الصوفية التي سرها النفري في مخاطباته الروحية . ومن مخاطبات النفري :
” يا عبد اجعلنى صاحب سرك أكن صاحب علانيتك ”
” ياعبد اجعلنى صاحب وحدتك أكن صاحب جمعك ”
” يا عبد اجعلنى صاحب خلوتك أكن صاحب ملائك ”
” يا عبد لا تيأس منى فتبرئ منك ذمتى”
” يا عبد كيف تيأس منى وفى قلبك متحدثى ”
” يا عبد أنا كهف التائبين وإلى ملجأ الخاطئين ”
” يا عبد أنا السند الذى لا يسلم و أنا السيد الذى لا يظلم ”
” يا عبد اصبر لى يوما أكفك غلبة الأيام”
طاووس الفقراء .. السراج الطوسي :
ولقد وجد التصوف نفسه في موقف المبرر والمدافع عن التهم التي وجهت للحسين بن منصور الحلاج واتهامه بالفسق ثم بالخروج على التقاليد والأعراف الدينية وأخيرا بالكفر ، فكانت ثمة ضرورة في توضيح موقف التصوف الذي لجأ إلى الاستناد على مصدري الشريعة القرآن والسنة الشريفة ، فكانت كل النصوص والطروحات الصوفية لا تخرج عن المصدرين ورد كل فكرة وحال ومقام إليهما وهذا دفع الكثيرون إلى الاعتراف بأن التصوف لا يخرج عن الدين ولا عن القيم والأخلاق الإسلامية الرشيدة . وسرعان ما تحول المهاجمون إلى منسجمين مع الطرح الصوفي انسجاما تاما ، وتستحضر تلك السطور ما قاله الإمام أبو الحسن الشاذلي : ” من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو بدعي ” ، وقوله : ” إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في جماعة فلا تعبأ به ” .والإمام الجنيد يؤكد دوما على الصلة الوثيقة والعلاقة المتينة بين التصوف والشريعة فقال : ” الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر السول صلى الله عليه وسلم ، واتبع سنته ، ولزم طريقه “.
ومن أبرز المتصوفة المنتسبين لهذا العصر الذهبي في التصنيف والتأليف السراج الطوسي ، الملقب بطاووس الفقراء ، وتأتي ترجمته بموسوعة ” ويكيبيديا ” العالمية بأنه زاهد، كان شيخ الصوفية، على طريقة السنة. ملقب بطاووس الفقراء وتنقل بين بلاد كثيرة، منها: القاهرة، وبغداد، ودمشق، والرملة، ودمياط، والبصرة، وتبريز، ونيسابور. ويعد كتابه « اللمع في التصوف » بمثابة موسوعة في تاريخ التصوف الإسلامي وطبقات الصوفية وعلومهم ومصطلحاتهم وأقوالهم وأحوالهم.
السيرة والمسيرة :
ومشكلة السراج الطوسي هي قلة الأنباء والأخبار عنه ، وأن المهمومين بتأريخ حركة التصوف الإسلامي لم يعيروه اهتمام يليق بمكانته وتصانيفه ، بالرغم من أن المستشرقة الألمانية الكبيرة ” آنا ماري شميل ” ذكرت أن ول مرجع في التصوف الإسلامي يعرض بشكل متكامل الطريق الصوفي مع ذكر مصادر عديدة له هو كتاب اللمع ، وهو كتاب جامع شامل للتصوف الذي قسمه إلى مائة وخمسين بابا ، اجتهد فيه أن يرصد ويصف رؤية الصوفية لمقام الوجد. وفيه يعرض الطوسي سبب تأليفه للمصنف فيقول : ” واعلم إن في زمننا هذا قد كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة ـ يعني الصوفية ـ وقد كثر أيضا المتشبهون بأهل التصوف والمشيرون إليها ، والمجيبون عنها وعن مسائلها ، وكل واحد منهم يضيف إلى نفسه كتابا قد زخرفه ، وكلاما ألفه ، وليس بمستحسن منهم ذلك ، لأن الأوائل والمشايخ الذين تكلموا في هذه المسائل وأشاروا إلى هذه الإشارات ونطقوا بهذه الحكم إنما تكلموا بعد قطع العلائق وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والاحتراق والمبادرة والاشتياق إلى قطع كل علاقة قطعتهم عن الله عز وجل طرفة عين وقاموا بشرط العلم ثم عملوا به ، ثم تحققوا في العمل فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل” .
ولمكانة الكاتب والكتاب يقول عنه المستشرق نيكلسون : ” ومن العجيب أن يغفل مؤلفو التصوف القديم شأنه ، فلم يؤلفوا عنه أسفارا تحوي لنا تاريخه وتراجمه وأحواله ،مع أنه كان فريد عصره ، راسخ القدم في علوم القوم ، وشيخًا لمذهبهم في الزهد والتصوف ، وكم كنت أتمنى لو سبق وجودي إلى عصره الذهبي أو الذي يليه لأترسم خطاه ، وأتتبع آثاره وأخباره وأحواله ، فأميط اللثام عن مستور لو كشف لعبق عبيره ، وطيب شذا عرفه الأنام “.
وإذا كان الصوفيون هرعوا بعيدا باجتهاداتهم عن أبواب الجدل التي أثارت الخصومة ، إلا أن فصل المحبة نفسه يعد أروع مثال لتجارب الصوفيين التي لا تعرف للتشابه سبيلاً ، ولا تؤدي للنمذجة طريقاً ، لذا فإننا نجد ثمة أقوال متباينة عند حديثهم عن المحبة والوجد ، لدرجة أن أبا نصر السراج الطوسي يقول : ” اختلف أهل التصوف في الوجد : ما هو ؟ فقال عمرو بن عثمان المكي : لا يقع على كيفية الوجد عبارة ؛ لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين ” .
وقفات في كتاب اللمع :
وكتاب ” اللمع ” للسراج الطوسي نجد حديثا ماتعا وشاملا عن الوجد ، من حيث ذكر اختلاف الصوفية في ماهية الوجد ، وتواجد المشايخ الصادقين ، وقوة سلطان الوجد وهيجانه وغلباته ، وأيضا حديثه عن صفات الواجدين ، وفيه يقول أبو نصر عبد الله السراج الطوسي : ” يقول الله تعالى : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ( سورة الزمر ، الآية 23 ) ، هذه صفة من صفات الواجدين ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ( سورة الحج ، الآية 35 ) ، فالوجل صفة من صفات الواجدين ، وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ) ( سورة النساء ، الآية 41 ) فصعق ، فالصعقة صفة من صفات الواجدين” .
ويسهب السراج الطوسي في حديثه عن صفات الواجدين فيقسمهم إلى طبقتين ؛ واجد، ومتواجد ، أما الطبقة الأولى الواجدون فهم على ثلاثة أصناف كما يذكرهم بكتابه ” اللمع ” ، يقول : ” فصنف منهم : وجدهم مصحوبهم ، إلا أنه يعارضهم في الأحايين دواعي النفوس والأخلاق البشرية ومزاج الطبع ، فيكدر عليهم الوقت ويتغير عليهم الحال . والصنف الثاني : وجدهم مصحوبهم ، إلا أنه إذا طرأ عليهم ما يشاكل وجدهم من طوارق السمع تنعموا بذلك وعاشوا وانتعشوا ، ثم يتغير عليهم الوجد. والصنف الثالث : وجدهم مصحوبهم على الدوام ، وقد أفناهم ذلك الوجد ، لأن كل واجد قد فنى بما وجد ، فليست فيهم فضلة عن موجودهم ، لأن كل شيء عندهم كالمفقود عند وجدهم بموجودهم بذهاب رؤية وجدهم ” .
ثم ينتقل السراج الطوسي إلى الحديث عن الطبقة الثانية من أهل الوجد وهم المتواجدون ، والذين يقسمهم إلى ثلاثة أقسام أيضا في تواجدهم ، فيقول : ” أما المتواجدون فهم أيضاً على ثلاثة أصناف في تواجدهم ، فصنف منهم : المتكلفون والمتشبهون وأهل الدعابة ومن لا وزن له . وصنف منهم : الذين يستدعون الأحوال الشريفة بالتعرض بعد قطع العلائق المشغلة والأسباب القاطعة ، فذلك التواجد يجمل منهم ، وإن كان غير ذلك أولى بهم ، لأنهم نبذوا الدنيا وراء ظهورهم ، فتواجدهم مطايبة وتسلياً وفرحاً وسروراً بما قد عانقوا من خلع الراحات وترك المعلومات … فالتواجد من الوجد بمنـزلة التباكي من البكاء . وصنف ثالث : أهل الضعف من أبناء الأحوال وأرباب القلوب والمتحققين بالإرادات ، فإذا عجزوا عن ضبط جوارحهم وكتمان ما بهم تواجدوا ونقضوا ما لا طاقة لهم بحمله ، ولا سبيل لهم إلى دفعه عنهم ورده ، فيكون تواجدهم طلباً للتفرج والتسلي ، فهم أهل الضعف من أهل الحقائق” .
وفي كتابه ” اللمع ” بذل السراج الطوسي جهدًا محمودًا في إبراز الجوانب الأساسية للإسلام وهي القرآن الكريم والسنة النبوية في التصوف الإسلامي ، وهو في ذلك بذل مشقة كما تشير ترجمته من حيث إنه تقمص دور عالم النفس من جهةٍ ، ومن جهة أخرى كان حكيما ربانيا مبصرا ببصيرة إلهية يتسلل بوساطتها إلى خفايا الصدور وخفقات القلوب كما كان يتسلل إلى دقائق المعرفة ورقائق الذوق فيكشف عن أخطاء العابدين وعقد الذاكرين وتلبيسات المحبين ووسوسة الزاهدين وهي أخطر عقبات الطريق ومزالقه، فجلى لنا بذلك وجه التصوف الإسلامي كما جاء به القرآن وكما صوره النبي المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وكما عاشه رجاله وأعلامه وهم الصفوة من خلق الله والخيرة من عباده وخزائن العلم والمعرفة.
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية المساعد
كلية التربية ـ جامعة المنيا

أحدث المقالات

أحدث المقالات