19 ديسمبر، 2024 12:51 ص

كورونا يحيل صفحة الحياة إلى ورقة نعي .. إلى الشقيقين فرات ومعن رحمهما الله

كورونا يحيل صفحة الحياة إلى ورقة نعي .. إلى الشقيقين فرات ومعن رحمهما الله

قساوة الموت أنه يفتح بوابات الحزن على شعور مطلق، يُفرغ الكلام من أية إمكانية للبيان، يحيله إلى هذيان، يُلبسه حُلّة سرد زائف، لا يكفُّ عن قول أشياء تتمرد على الحسِّ اليومي، ترسم الزمن خليطا من ذاكرة ونسيان، يأتلفان في حيز لم تطأه أقدام الحداثة، وهي تخطُّ على الدروب الغارقة، عباراتٍ لا أثر للكلمات في تلافيفها، فتسحيل اللغة عبثا، أقسى ما فيه أنه يغلق المفاهيم على نفسها، يقطع كل الجسور إلى واقع ينطوي على نفسه، متسورا بضبابية كثيفة، تشرع أبواب الغياب القابع فينا، مدينة فاضلة بحزنها، تجري أنهارها بين ضفاف الكلمات، لغة لم تدشن بعد، تتطهر من لوثة الضجيج، معتكفة بصمت مهيب.

   إنه الصمت الذي يحاصرني مذ قرأت رسالة [وتسآب]، تضمنت تصريح مسؤول بوزارة الصحة، يحذر الناس من خطر وباء كورونا، ويستشهد بحادث مؤلم لهذا الفيروس القاتل، وكيف أنه فجع عائلة عراقية بشقيقين شابين، هما فرات ومعن ابنا عبد الكاظم الفتلاوي.

   أنا أعرف هذه العائلة المفجوعة جيدا، فهي عائلة كريمة طيبة، وأعرف الشابين، فهما من أبناء الصلاح والاستقامة، الكبير فرات تاجر يمتلك متجرا في شارع الجمهورية، قرب مدخل الشورجة، كنت إذا وجدت نفسي يوما قريبا من متجره، أحرص على إلقاء التحية عليه، كان، رحمه الله، يفيض بالحياة ودودا متصالحا مع نفسه ومع الناس، متدين مستقيم، فقد طوى كورونا بقسوة صفحة من صفحات الحياة، كنت أجدها منشورة في أروقة بغداد، حدثا يوميا يعانق المدينة مشرقا يطفح بالأمل، ليضع بدلا منها ورقة نعي، ملبدة باليأس والحزن.

   لست معترضا على الموت، فهو حق، فقد قضى الله سبحانه وتعالى على عباده بالموت، ولكنني أعبر عن ألم وحسرة تختلج في داخلي، أمام هذا الإيقاع المفجع للحياة، إنه حداء رحيل، يفجع متلقيه بصوته المتذاوي بين مسافات الغياب، ليس سوى ملامح تتلاشى في فضاء واسع، إنني على يقين أنه مفض إلى الخلود، حيث يشرع الله أبواب رحمته، ويفجر ينابيع حبه، لعباد كسرهم الوجع، يجبر خواطرهم، فهو الودود الكريم، أحسبهم، وهم يدخلون إلى رحمة الله، يرتلون قوله تعالى {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، ولكن ليس بحزن، كما نرتل نحن، وإنما بصوت من أضنته الآلام، وتنكرت له الحياة، ومادت تحت قدميه الدروب، يطلب رحمة الله، وبابه المشرع، ليدخل، وهو يرتل بسرور من وجد ربه {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.