أظهرت بيانات لمنظمة الصحة العالمية ، أن العراق أنفق خلال السنوات العشر الماضية مبلغا أقل بكثير من دول أفقر منه على الرعاية الصحية للفرد ، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الإنفاق 161 دولارا في المتوسط ( سنويا ) بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان ، كما خصصت الحكومة 2.5 % فقط من تخصيصات موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة لسنة 2019 ، وهذا مبلغ متواضع مقارنة بما يتم إنفاقه في دول أخرى بالشرق الأوسط ، ويشير واقع الحال إلى نقص بعدد الأطباء والممرضين في العراق مقارنة بعدد السكان فهو أقل بكثير من دول أخرى ، بل إن عددهم يعد متواضعا عند المقارنة مع دول أفقر مثل الأردن وتونس ، ففي 2018 كان المعدل في العراق 2.1 ممرضة وقابلة لكل ألف نسمة مقارنة مع 3.2 في الأردن و3.7 في لبنان وذلك وفقا لإحصاءات كل بلد ، وبلغ عدد الأطباء 0.83 فقط لكل ألف نسمة أي أقل بكثير من الدول المماثلة في الشرق الأوسط ، وقد بلغ العدد في الأردن على سبيل المثال 2.3 طبيب لكل ألف نسمة ، وبسبب سوء او انعدام الخدمات الصحية فقد لجأ الكثير من العراقيين للمعالجة بدول العالم المتقدمة والفقيرة ، فحسب تقارير منشورة فان العراقيين أنفقوا 500 مليون دولار على الرعاية الصحية في الهند في عام 2018 ( وحده ) ، وأصدرت الحكومة الهندية نحو 50 ألف تأشيرة طبية للعراقيين في العام المذكور ، وتعاني المدن من مسألة ضعف العدالة في تقديم الخدمات الصحية وقلة البنى التحتية ، ففي البصرة وهي من أكبر محافظات الجنوب وتعد العاصمة الاقتصادية للعراق كونها تصدر من النفط ما يوفر 90 في المائة من مجموع إيرادات الدولة، فأنها تعاني النقص المزمن في التمويل لقطاع الصحة ويديره فريق محدد من الأطباء والممرضات ، ووفقا لما يقوله أطباء ومرضى في المدينة وحسب تحليل لبيانات وزارة الصحة ، فان نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية في البصرة بلغ 71 دولارا في المتوسط للفرد بين عامي 2015 و2017 أي نصف المتوسط العام على مستوى البلاد ، وتعاني البصرة المبتلاة بالسرطان من نقص شديد في المعدات الطبية الحيوية حيث لا يوجد بها سوى ثلاثة أجهزة للأشعة المقطعية ووحدة واحدة للفحص بالرنين المغناطيسي لكل مليون نسمة ، وهي نسبة لا تذكر مقارنة مع المتوسط العام في الدول المتقدمة والذي يبلغ 26 جهازا للأشعة المقطعية و16 جهازا للرنين المغناطيسي .
وقد انكشفت حقيقة الواقع الصحي في العراق بأكثر من مناسبة ، ففي الأحداث الأمنية التي شهدها البلد او في المعارك التي تمت بعد عام 2003 ، اتضح خلو البلاد من أنظمة صحية متكاملة بضمنها خدمات الطوارئ والكوارث فكل ما وجود هي سيارات للإسعاف تقوم بنقل المرضى للمستشفيات حالها كحال السيارات العادية لانخفاض كفاءة المسعفين والمنقذين وضعف تمتعهم بالتدريب المستمر ، كما تتصف وحدات الطوارئ في المستشفيات بالقصور في الإمكانيات المادية والبشرية من حيث عدم قدرتها على استيعاب كل الحالات وفي كل الأوقات ، وحسب تصريحات من جهات برلمانية او حكومية فان معظم عقود وزارة الصحة تعرضت في أكثر من مرة إلى حالات الفساد ويتم الاعتماد على شركات غير كفوءة في تشييد المستشفيات مناشيء يشوب بعضها الشبهات في استيراد الأدوية الطبية والمواد ، الأمر الذي أدى إلى انتعاش القطاع الطبي الخاص الذي يكلف المواطن الكثير من الأموال ، وإحياء قطاع دخيل داخل المستشفيات الحكومية والذي يسمونه دور التمريض الخاص ، والتي هي بحقيقتها التفاف على جيوب المواطنين وتغليف رسمي للفساد حيث يضطر المواطن للحصول على خدمات صحية حكومية مقابل أجور تقترب من أجور القطاع الخاص وتوزيع أموال كثيرة على موظفين يتقاضون مرتبات حكومية ، وبعد دخول وباء كورونا للعراق افتضحت عورات القطاع الصحي في العراق من حيث نقص عدد الأسرة وعدم تناسبها مع عدد السكان والنقص الكبير في الأجهزة والمعدات ، واتضح إن الأسباب في هذه الأمور تعود إلى انتشار الفساد وقلة التخصيصات وضعف الإدارة في التخطيط والرقابة ، وكاد البلد أن يقع بمآسي كبيرة لولا رحمة الله وإتباع أساليب تناسب الإمكانيات الفقيرة واستنفار الطاقات البشرية التي أعطت الكثير من التضحيات للتصدي للكثير من الحالات ، وقد كانت دهشة الشعب بنجاح تجربة التصدي لكورونا لدرجة إن فئات عديدة من الشعب أيدت فكرة إطلاق تسمية ( الجيش الأبيض ) على الكوادر التي تصدت لوباء كورونا بمختلف المستويات ، وهي من اللحظات النادرة منذ عقود التي تحظى بها الكوادر العاملة في الصحة بهذا المستوى من التقدير والاحترام .
ويتوقع أن يواجه قطاعنا الصحي مزيدا من الصعوبات والتحديات خلال الأيام الأسابيع القادمة ، فرغم الجهود الكبيرة التي بذلت في البداية في محاصرة وباء كورونا والتصدي له وقائيا من خلال مجموعة إجراءات حصلنا من خلالها على رضا منظمة الصحة العالمية ، إلا إن واقع الحال يؤشر حالة ارتفاع غير مسبوق بعدد الإصابات نظرا لعدم التزام الكثير بإجراءات الحظر واتخاذ قرار متسرع وعاطفي بتخفيفه مما أوصل رسالة خاطئة للبعض بان شدة الوباء قد خفت وان من الحق العودة للحياة الطبيعية دون أخطار ، ناهيك عن وصول معدات وعدد فحص الإصابة بالوباء للعراق التي تتيح إمكانية التحري الوبائي لمليون مواطن من السكان وبمعدل يتجاوز 50 ألف فحص شهريا ، وهذه الفحوصات ربما ستظهر إصابات أكثر من الأعداد المشخصة حاليا التي كانت قيد الإعلان يوميا وقد تكون بأعداد مضاعفة لان هدفها تصنيف المواطنين إلى مصابين وحاملي الفيروس وغير مصابين ، وان ذلك سيظهر مدى الحاجة للرقود في المستشفيات وإبقاء ملامسيهم قيد الاستضافة في المحاجر ، وفي كلتا الحالتين فان المستشفيات لم تعد قادرة على استيعاب مزيدا من الحالات ، والحلول المطروحة حاليا هي نقل بعض المرضى خارج المستشفيات للحالات غير الحرجة في الفنادق وغيرها من الأماكن الملائمة لمثل هذه الفعاليات لان الغطاء ألسريري في البلد غير كافي لاستيعاب الإصابات بهذه الأوبئة ، ومما يخشى منه إن المستشفيات ربما ستحول اغلب أسرتها للوباء وبما يعطل تقديم الخدمات العلاجية لبقية الأمراض ( وعزرائيل لم يموت )، في وقت تقف فيه الجهات المعنية بموقف الحرج لعدم القدرة على بناء مستشفيات سريعة البناء والتجهيز ويصعب الحصول على مساعدات من الخارج لان إمكانيات العالم مستنفرة للوباء ، دون الإغفال إن بلدنا يمر بحالة لا يحسد عليها من حيث تناقص إيرادات النفط وشبه الانعدام في توفير الموارد للنفقات التشغيلية لان مئات المليارات أهدرت خلال السنوات السابقة دون حساب وكتاب ، مما يعني إن القطاع الصحي ليس في حالة اختبار وإنما يواجه صعوبات حقيقية في تلبية الاحتياجات ، وهو ما يتطلب من الجميع الترفع عن الذات والتعاون مع الجهات الصحية من خلال التزام إجراءات الوقاية والحظر وعدم تسفيه الأمور و التبرع قدر المستطاع لتمويل واسناد بعض الفعاليات ، فهناك العديد من الشركات والأفراد القادرين على إعانة الوطن والمواطنين بهذا الخصوص ، لان الخطر واحد ويواجه الجميع في ظل توقف السفر وكل سبل الخروج او الهروب .