على الرغم من كثرة أزمات المواطن العراقي التي لم تكن حكرا للكهرباء و الماء و نقص العديد من الخدمات المدنية, فأن تدهور الوضع الأمني في الأشهر الأخيرة أثرت على طلباته و تركزت نحو هذا الملف الأمني و الاهتمام به متجاوزا ملف زميله …الكهرباء.
ففي الأشهر الثلاثة الأخيرة سقط قرابة الألف قتيل و ثلاثة ألاف جريح لكل شهر بحسب الإعلان الرسمي. و من هنا بدأ العراقي يقارن وضعه الأمني الحالي على ماكان عليه قبل عام, الذي لم يخلو من سقوط القتلى , إنما كان مختلفا في عدد القتلى . فلم يعد العراقي يرى نورا لإنهاء هذه الدماء فاخذ يعد الوضع الأمني مستتبا حالما يرى أرقام عدد القتلى و التفجيرات منخفض , متدهور عندما يرتفع. و هذا ما عمل عليه العديد من السياسيين في تغيير مفهوم الأمن الذي يعمل على إنهاء القتل و التفجيرات إلى النظر إلى الأرقام بعملية حسابية تدرس في المرحلة الابتدائية (اكبر > , اصغر<) , و لم يعد السياسي يخجل من القول أن العراق أكثر أمنا من العديد من المناطق العربية مثل سوريا و اليمن, واثقا من أن العراقي يقيس الوضع الأمني بطريقته الجديدة (>,<). و حقيقة الأمر أن الوضع الأمني في العراق و منذ عام 2003 غير مستتب, و الوصف الحقيقي له “متدهور”, تتخلله فترات تخف فيه وتيرة العنف و أخرى يزداد.
سمع العراقيون كثيرا مصطلح “الخطة الأمنية” التي يعلن عنها دائما و بشكل مستمر , لكن لم يرى العراقيون أية نتائج لهذه الخطط مجرد قطع الطرق و زيادة التأخير عند نقاط التفتيش, و أخرها منع سيارات “المنفيس” من دخول بعض المحافظات و كأنها قادمة من قبل دولة أجنبية, و غيرها من الإجراءات التي تركز على “منع…. منع…”. فأساس الخطة الأمنية مرتكزين, الأول “منع” و الثاني “اعتقال” , إذ لايمر يوما دون إعلان اعتقالات , دون أن يكون لها اثر على زخم التفجيرات شبه اليومية, و صولا إلى درجة العجز عن حماية السجون و المقرات الحكومية الأساسية, من قبيل وزارة العدل و غيرها . إن استمرار السيناريو بهذه الطريقة يعني فشل الأجهزة في تحقيق الهدف من وجودها.
إن سفر رئيس الوزراء إلى الهند لأكثر من يوم على الرغم من ارتفاع وتيرة العنف ,و اهتمامه للقضية السورية في خطبه الأسبوعية دون التعليق على الوضع الأمني في البلاد, يشير إلى اعتراف من السلطة التنفيذية بان الوضع في العراق طبيعي على ماهو عليه من العنف, و إن البلد لايمر بظرف استثنائي يوجب تواجد رئيس وزرائها داخل البلد لاتخاذ القرارات الهامة و متابعة الميدان مباشرة …كما أن تصريح بعض المتحدثين الرسمين من الأجهزة الأمنية و المدنية بعدم وجود ضحايا غير “قتيل واحد و جريحان” يدل أن السلطة الحاكمة في البلد تتعامل مع حرب وأن سقوط القتلى مسألة طبيعة.
و بعيدا عن خطة الحكومة في تحقيق الأمن الوطني في غير المجلات الأمنية , مثل الأمن الغذائي , التعليمي , المائي ..الخ, والتي تفتقد لسياسة حكومية واضحة نحوها, و بعيدا عن الخطط الاستراتيجية لرسم موقع العراق إقليميا و عالميا , فان الأمن الوطني المتعلق بسلامة المواطن و حفظ أمنه ظهر مفقودا لدى الحكومة و دون خطة معلومة و متخبطا في أحيانا أخرى عند إنفاق مليارات الدولارات لشراء أسلحة عسكرية و تجهيز الجيش بالدبابات و الصواريخ, دون تعزيز القوى الأمنية الداخلية بالأجهزة الضرورية لكشف المتفجرات و الأسلحة الحديثة, و بناء جهاز مخابراتي فعال. فالحكومة لاتفرق بين الإستراتيجية الأمنية التي تتناول الإرهاب المحلي و معدلات الجرائم و العنف الاجتماعي, عن الإستراتيجية العسكرية الخاصة بالغزو الخارجي و اختراق الحدود و العقيدة القتالية للجيش , فاعتبرت الجيش جزء من الحل الأمني للبلاد, و أن تجهيزه و إيصاله لموقع السيطرة العسكرية على جميع أراضي العراق يسهم في إنهاء الإرهاب في العراق.
مع كل هذا الحراك اللانظامي تصر الحكومة بين الحين و الأخر على أنها وضعت خطة أمنية. فعندما تسأل مدرب كرة القدم كيف ستلعب المباراة القادمة , يجيب بان فريقه يلعب باسلوب المدرسة البرازيلية, و بخطة هجومية, وبطريقة 4ـ 4ـ2,على سبيل المثال. و ذات السؤال عند توجيهه إلى القادة الأمنيين فلن نجد غير أجوبة مبهمة , لذا أصحبت القوات الأمنية تتحرك على وفق اسلوب “قبائل الزولو” التي تستخدم القوى فقط ,و تتحرك دون خطة للهجوم أو الانسحاب , فقرار اللحظة لدى الحكومة هي الصفة البارزة و ما ينتج عنها من قرارات هامة و منها القرارات الأمنية. أي إن ردة الفعل هي المنتجة للخطة الأمنية الحكومية و ليس الفعل الناتج عن تدبر و تخطيط.
إن العراق يحتاج إلى ماهو ابعد من “خطة أمنية”, إلى خارطة شاملة لإحلال السلم الأهلي الحقيقي و بناء العراق, ومن ثم سيكون اضمحلال “المليشيات و الإرهاب” نتيجة و محصلة لها, مرتكز الخارطة محورين أساسين يحتاج كل منها إلى خطة إستراتيجية و يعملان سوية , الأول يقوم على زرع روح المواطنة لدى العراقيين التي تبدأ من المسؤول الحكومي في السلطات الثلاث من الدرجات الخاصة و القناعة بأنه يمثل العراقيين و ليس السنة أو الشيعة , ومن ثم غرسها لدى الفرد العراقي و بلورة شعور الاعتزاز بعراقيته بالعمل على المحور الثاني القائم على قسمين أوله يتعلق بتوفير احتياجات المواطن الأساسية على اقل تقدير دون تفريق طالما حاملا للجنسية العراقية بإجراء الإصلاحات الاقتصادية و الإدارية , و الثاني فصل عمل المؤسسات الأمنية عن القرارات السياسية و جعل قيادتها بيد شخوص مهنية و موضوعية لا ترتبط بالأحزاب. دون ذلك لن تكون الخطط الأمنية المزمعة سوى مجرد “خرافة” من صنع السياسيين, تقوم مقام الكوابح للجم الغضب الشعبي يعلن عنها عند الحاجة .