كورونا والتي هي إختصار للإسم العلمي للوباء الجديد ” COVID 19 “، ينضاف إلى سلسلة من الأوبئة والأمراض الفتاكة التي عايشتها البشرية منذ فجرها، بدأت الأعراض الأولى للوباء الجديد في الظهور مع نهاية سنة 2019، مع مطلع سنة 2020 إنبهر العالم بقدرته على التأقلم والتكيف في جميع البيئات وكذلك الانتشار بسرعة لم يسبقه لها مرض أو وباء إضافة على قدرته في الفتك، ما أجبر صناع القرار ومراكز صناعة القرار للدخول في دهشة وحيرة من أمرهم لم يعرفوا لها مثيل من قبل، هي حيرة وخوف في آن واحد، وهي أكبر من تلك التي عايشوها مع صعود النازية وبداية الحرب العالمية الثانية.
هذا الشعور بالدهشة كان العامل الأساسي في إجبرهم على اتخاذ مجموعة من القرارات والتذابير التي نذكر منها على سبيل المثال ” إغلاق حدود” دول و “حضر التجوال” في اخرى و ” اعلان حالة الطوارئ” هنا وهناك …. وغيرها من تمظاهرات حالات الإستثناء، والتي هناك من يرى أنها قرارات مناسبة كما أن هناك من يرى أنها تحمل في طيتها الكثير من الإرتجالية، ولكن الاهم أن الأغلبية الساحقة ورغم معارضتهم لها، قد إنضبطوا لها.
هاته القرارات شكلت هي بدورها المدخل الرئيسي نحو سلوك يمكن وصفه ب”لا عقلاني” أو بسلوك “لا وعي” عند عموم الجمهور، والذي لا يمكن فهمه إلا بالاطلاع الجيد على الكتاب الثاني من كتاب “سيكولوجية الجماهير” ل جوستاف لوبان، سلوك أخدت تتعاطى معه كل فئات وطبقات المجتمع في أغلب دول العالم، وهو الاندفاع نحو المتاجر لشراء المواد والسلع الأساسية بكميات كبيرة بغيت تخزينها، لأن التخزين وكما معروف يولد الإحساس بالأمان ، وقد نسى الإنسان ان فيروس كورونا ورغم خطورته، فإنه سينتهي في يوم ما، كما سيمكن التحكم في أضراره ومعالجتها ، كما هُزِمَ المرض في رواية “الطاعون” ل ألبير كامو، بينما لا يمكن معالجة الأضرار الناتجة عن أكبر تهديدين عرفتها البشرية وهما : الأسلحة النووية والاحتباس الحراري.
وأمام هذا الوضع، يُفْتَحُ المجال لطرح مجموعة من التساؤلات، حول طبيعة النظام الذي نعيش فيه، وقدرت الوباء في الحكم على البشرية بالفناء، و الدروس التي يمكن استخلاصها من هاته التجرية الجديدة على عصرنا، وطبيعة الحياة أو بالأحرى طبيعة النظام الذي يمكن ان يسود العالم والذي سيسود العالم بعد جائحة كورونا …. وغيرها من الأسئلة أو التساؤلات التي يمكن وصفها بالمشروعة.
إن البشرية اليوم تعيش لحظة تاريخية، وربما هي لحظة حاسمة ؛ وهذا ليس فقط بسبب فيروس كورونا بل لأن الفيروس يحضرنا للوعي بالعيوب والأعطاب العميقة التي نواجهها في نظامنا العالمي الحالي.
وهنا يجب التذكير، انه قد أصبح من الواضح اليوم ومما لا يضع مجال للشك أننا في هاته اللحظة الشيخ الحرجة قد سلمنا مصيرنا لطائفة جديدة/قديمة من طوائف الإستبداد، الاستبداد الاقتصادي، وهو إستبداد شركات الأدوية والتي لا تخضع لمساءلة أحد كيفما كان، حيث أن هذه الشركات لا تشتغل إلا لمصالحها النفعية الخاصة والتي هي بدورها نتاج لمصلحة النيوليبرالية المتوحشة التي تتحكم بالمنظورين العلمي والعملي لفلسقة عرض والطلب التي تشكل العمود الفقري لإقتصاد السوق. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار أن الوباء جاء محذرا لأعطاب النظام العالمي الآني، مع تبيان جوانب الخلل به على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يمكننا اليوم من إعتبار ان “طاعون القرن الواحد العشرين” أو الوباء الحقيقي لعصرنا هذا هو “النيوليبرالية” أو “الليبرالية الجديدة” كما كانت تسمى في العشرينيات القرن الماضي ، وما الجائحة الجديدة ماجائت إلا لتأكد لنا مرة أخرى القدرة الهائلة للمنظومة النيوليبيرالية في قيادتنا إلى الهلاك.
جائحة اليوم إستطاعت ان تعري لنا “أزمة” النظام النيوليبرالي على جميع الأصعدة وعلى كافة المستويات، بشكل لم يسبقها له أحد من قبل ؛ و مع بروز نجم الجائحة الجديدة، ظهرت للعالم هشاشة الأنظمة الصحية في الدول المنخرطة في النظام النيوليبيرالي أو تلك التي تعيش على ديون صندوق النقد الدولي، كما فضحت تدني القيم الكونية (الإنسانية والاجتماعية) في الدول هاته الدول، دون أن ننسى ما تبع هذا من إنهيار لأسواقها المالية.
والأمر لم يتوقف عند تعرية النظام النيوليبيرالي فحسب، لأن جائزة COVID 19 حملت معها نقاطا يمكن اعتبارها إيجابية، وهي عبارة عن إشارات تحذيرية لنا من الخطر القادم الذي يلوح لنا في المستقبل القريب، خاصة أن الديمقراطية في خطر بسبب حالات الاستثناء المتحكم فيها من قبل القلة القليلة المتواجدة في مراكز القرار المباشرة أو الغير المباشرة، وهذا بغرض حثنا على التحرك والاستعداد للمستقبل حيث الخيارات تنحصر في إثنين هما :
1/ بناء مجتمع الإنسانية، حيث يتجاوز هذا المجتمع الجديد الخيار الديموقراطي إلى خيار أكثر كونية من ناحية القيم السائدة بين الناس(مثال الدول الاسكندينافية)، مجتمع تكون قيادته تستمد شرعيتها من الإنجازات المحققة في إطار استراتيجيات واضحة على المستوى البعيد (مثال جمهورية الصين الشعبية)، وتكون فيه الأسبقية للإحتياجات الإنسانية، وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة النيوليبرالية على حساب المنفعة الإنسانية المشروعة.
2/ اما الخيار الثاني، فهو يتجلى في إعادة تركيب الدول في إطار استبدادي، تصبح فيه الدول أكثر راديكالية في وحشيتها الأمنية والاقتصادية النيوليبيرالية وهو ما قد يتمظهر في عنف الدولة الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة حصار الفيروس في إطار التعامل مع أزمة وباء كورونا، وهو ما قد يتحول لحصار الإنسان، لا سيما إن طالت الأزمة وطالت معها حالات الاستثناء، ولنا في بينوتشي التشيلي خير مثال.
وفي نهاية المطاف لا يمكن أن أضيف سوى، أن أزمة اليوم هي رسالة تحذير يجب التعامل معها بشكل عقلاني وفي إطار جماعي لا يقصي أحد لمنع حدوث انفجار قد نكون غير مستعدين له.