قهرت الحداثة الشعرية ما كان مكتنزا في النسيج الشعري القديم بالمقابل فقد اكتشفت حدود الفهم والمقبولية في اللغة إن بقيت على حالها قديما أو ما تم من إجراء بعض التعديلات السطحية كنتيجة للشعور بالتغير المادي لتوافق تلك الحساسية الجديدة التي بدأت تفعل فعلها في البعض من المجتمعات.
ولكن الشعر بشكل عام وبشكله ومضمونه آنذاك بقي خارج بدايات تلك التطورات حيث لم يسبق تلك التطورات ولم يتهيأ للمغايرة وقبول غير المتوقع، إذ إن خصائصه حافظت على نفسها وصلتها بالموروث واستخدامها للوصفي المديحي والوصفي الرثائي كما هو الحال في أبواب الشعر الجاهلي القديم. وكانت أن سيطرت على الفترة الحرجة التي سبقت ولادة الحداثة الشعرية شتى المتناقضات التي تمثل محاور عديدة للنزعات الإجتماعية والدينية والسياسية لتشكل على نحو ما تريد أشكالا من العلاقات ما بين الدين والآخر والمفهوم والآخر وقضاياه الدنيوية وتلك كلها لم تكن إلا نتائج فرعية لعمق الإشكالية الإنسانية التي توجت كرد فعل لتوجهات الحربين الكونيتين وما بشرت به لوائح حقوق الإنسان في أن يجد المرء حريته وأن يصونها وأن يفجر حاجاته المتراكمة من خلالها وإليها كي يجد شخصيته الإنسانية ويكون قادرا على فعل شيء ما ضمن المجتمع الإنساني السليم.
وقد أحدثت هذه المفاهيم الأولية توازنا ما بين العالم الخارجي وعالم الأنا الباطني بعد أن غيبت تلك الأنا قرونا عديدة وكانت تعاني من فقرها كونها تمثل عالة على وجودها، ولم يكن هذا الإدراك إلا البدايات الأولى لوضع الأسس الشعرية للحداثة الجديدة فقد تعزز مقدار الوهم تجاه العالم وتعزز الإشتغال على إثراء التنوع والتوجه نحو الأشياء الخفية إذ أصبح ما من شئ لايمكن اختراقه فاستوعبت الأسطورة والرمز بشكل جديد وتغطى الشعر بتلك الضبابية الساحرة التي ذهبت بالمتلقي إلى ما يريد من تأويل وإلى ماسعت روحه وبأي اتجاه للمكوث في روح النص.
فقد خرج النص عن ما تبقى من الذهنية المنطقية وتم انتهاك ما تبقى من النظام القديم وطرق الحدث من أبوابه الجملية بعد أن اضطربت المرئيات وتحلل الواقع وتخلص الشعرالجديد من كلية الأدوات القديمة أي أن الحداثة الشعرية فتحت أبواب التعتيم لكشف ذلك المحتوى من الغموض وبالتالي فالفرصة قائمة على جعل المتلقي أن يقف أمام أمكانياته في التعرف على محتوياته الإنسانية ذات البعد الكوني والتي لم تكن فعالة في الماضي.
انتظم كل شيء ونظر بدءا للغة بأنها ليست اصطناعات من الترابط والزخرفة وللعاطفة المباشرة بأنها إذلال للنص وتحجيم لقدراته الطليقة الأخرى وليس هناك من شيء مقدس خارج نطاق الذات وأن الأثر الذي تتركه الدهشة هو أثر لذيذ ولا حياة مع العلاقات المتكررة ولذلك فإن الشعر قد انتقل من الشكل إلى الرؤية ومن المحاكاة إلى التغيير ولا سبيل لذلك إلا بتفجير الوعي بخلخلته التي تتم بواسطة اللغة أو بمعطياتها الفنية وهذا جانب من الإشكالية التي ظل يقوم عليها الشعر القديم.
أمام ذلك كان يرى الحداثويون ضرورة نقل الإنسان إلى مناطق رؤية جديدة ليستطع أن يرى أشياء ما كان يراها سابقا وأن ينتج طرق تفكير ماكان يفكر بإنتاجها وهذا الاستدلال نحو الأشياء يعني في مجاله الآخر اكتشافا للعالم غير المنظور والاستمتاع بعملية الكشف تلك والتحول عبر نتائجها لنتائج أخرى.
لا شك في أن هذا التحول سيصطدم والمتلقي أول وهلة ويؤشر صعوبة في تقبله ومعيار الوصول إليه والقبول به أمام معيارية جمالية جديدة لا بد من بذل جهد ما لإدراك سريتها وتلك أحد عناصر البنية الحداثوية والتي يستكمل الشعر بها مفاهيمه ووظائفه.