في مفاهيم الشرق، مازلنا نبحث في معايير القائد المنقذ والنموذج المثالي الذي يقود الامة ويحقق آمالها في تأمين الخبز والامان والكرامة
في الشرق ،نبحث عن معايير البطل وفق مثل دينية وقيمية موروثة ترقى الى حد الاسطورة والميثولوجيا .
وفي العبادات اليومية وفي الموروث الديني وكذلك في الفكر السياسي الديني ، تتمحور السلوكيات والتمنيات والدعوات من اجل تصور القائد النموذج والمثالي والمقدس الذي يتصف بالصفاء والنقاء .
غير ان هذا المرتجى لم يات .ولم تتمكن الدعوات والتمنيات وحركات الاسلام السياسي ان تنتجه او تصنعه من بين اتباعها ومشايخها لانه وباختصار هو مجرد اسطوره يلهث الاتباع خلفها ويتمنونها على امل ان يخلصهم من حقيقة ومن واقع ساهموا في تجهيله وابقاءه في حلقة خيالية مغلقة .
والفشل في انتاج القائد المثالي لايقتصر على حركات الاسلام السياسي , فالقوى العلمانية بكل اطيافها من اليمني والى اليسار فشلت ايضا وبشكل مخز في انتاج القائد الذي يظهر في المنعطفات , والسبب ذاته هو المثالية والتنظير الورقي الذي يفتقر الى التربية والتدريب العملي للكفاءات والكوادر والقيادات وتهيئتها لتولي القيادة في المنعطف الحاسم والتاريخي لقيادة الدولة والامة .
وفي العقود الاخيرة ،زادت تلك التمنيات حيرة وغرقت بالتيه كثيرا حيث تعقدت جدلية الواقع والتنظير وحيث تعرى المنظرون امام آليات مختلفة ومغايرة ،كان الواقع بحاجة اليها.
ولايزال الجدل قائما حول ما اذا يصلح النموذج المدون على الورق والمستعار من التاريخ، في قيادة الامة وفي ادارة مكونات الدولة .
في السنوات الاخيرة وصلت ثلاثة احزاب اسلامية وعقائدية كبيرة الى السلطة في كل من العراق وتونس ومصر ، غير ان هذه الاحزاب وقعت في مأزق الواقعية وفشلت ،لانها وصلت الى السلطة على اساس تنظيرات ورقية وانتخبها اتباع حالمون ، لم تتم تربيتهم وتثقيفهم وفق متطلبات الواقع والمتغيرات الكبيرة والمتسارعة التي حدثت في العالم ولدى الاجيال الجديدة في تلك الدول .
في اوروبا القديمة كان الحال كذلك خلال الحروب الصليبية .حيث كان الايحاء الضني هو ان سفك الدم سيحقق امة المسيح العالمية ..ولكن وبعد قرون اكتشف المتنورون ان الملايين قتلوا من اجل الوهم .
وكردة فعل اصلاحية .تقرر اعادة الكنيسة الى مكانها التعليمي والوعظي حيث اكتشف ضحايا الوهم ،ان الكنيسة لاتقود المكونات المادية للدولة والامة وانما كان عليها عضة وتربية الخطائين روحيا واخلاقيا لكي يلد قادة اخلاقيون ويقودون الامة والدولة بتقنياتها الحديثة وبخلفية قيمية تؤمن النزاهة والاخلاص والوفاء بقسم المسؤولية .
وبعد عدة قرون من تلك التجربة .. اصبحت اوروبا تسمى بالعالم الاول ولم يعد اليوم مستساغا اطلاق تعبير البطل والقائد والزعيم العقائدي في قيادة الدولة وادارة السلطة التنفيذية بناءا على خلفياته الروحية حيث تحول النظام السياسي الى منتج لرجال السياسة وفق شروط حددتها القيم الحديثة التي بموجبها تمت صياغة الدساتير والقوانين التي هي بدورها تتمحور حول صون كرامة الانسان من حقوق شخصية وحريات فردية ،صارت تتيح الفضاء المناسب لاطلاق الافكار البناءة والواقعية والرقمية التي فتحت العقل على نافذة واسعة نحوالمستقبل .
بالمقابل ، وفي عالم جنوب الارض ،ماتزال الافكار تشد الرعية الى الماضي ويتم اخضاع الفرد لمعايير الابطال التاريخيين ولبطولات الخرافة ولذلك سرعان ما يتم وأد محاولة صياغة نظام حديث ياخذ الامة الى المستقبل .
*الصين والهند
.ولكن هذا النقد لاليات وادوات انتاج التنمية في عالم الجنوب ، بات يصطدم بنموذجين ظهرا في عالم الجنوب وهما ، الصيني والهندي !
يرى الدارسون للنموذج الصيني ان الصين لم تنهض وفق معايير البطل الشرقي الاسطوري وانما بعد ان حصلت الصين على التكنلوجيات المتقدمة من الغرب وادارها لاحقا نظام الحزب الشيوعي الذي له معاييره المادية الصرفة في ادارة الدولة وتنمية الانسان .
والحال ايضا في الهند التي حققت قفزة في امتلاك التقنية والتكنلوجيا من خلال شباب ويافعين ساهمو في تأسيس الفيسبوك وياهو وغوغل وهم يفضلون لبس ربطة العنق بدلا من مئزر المهاتما غاندي ،ويستمعون الى اغاني حديثة بدلا من مواعظ البراهما وبوذا .( هكذا يعلق فريد زكريا وتوماس فريدمان ).
نظام التفاهة والقيادة
بين يدي كتابان :الاول ( نظام التفاهة ) للكاتب الكندي المتمرد على الراسمالية ( الآن دونو ) وايضا كتاب (فن القيادة ) للدكتور الجنرال وليام.أ.كوهين والذي يطلق الصرخات لانقاذ النظام الراسمالي من شح انتاج القادة .
في كتاب ( نظام التفاهة ) نقد صارخ للاجيال الحديثة من قادة العالم الغربي ،وينعتهم بانهم زمرة من الساقطين والجهلة الغارقين في المادية والرقمية ، ويؤكد ان استمرار تولي ادارة النظم السياسية والاقتصادية من قبل هؤلاء ،من شانه انهيار قيم الليبرالية وسقوط الدولة المدنية الحديثة ..
اما الجنرال وليام كوهين . فهو يحذر وينذر مما ( يبشر) به الآن دونو ويدعو الى الاهتمام اكثر في انتاج قادة يديرون على احسن وجه المؤسسات المالية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وذلك قبل فوات الاوان .
ويبدو لي في المحصلة ان كلا الكاتبين يلتقيان في نقطة واحدة في أفق المستقبل القريب وهي القلق حيال مصير الحضارة الحديثة التي اسس لها الاباء الاوائل في اوروبا واميركا الشمالية وجعلت تلك المجتمعات تنعم بالرفاهية والاستقرار والقوة والهيمنة .
غير ان البعد المعنوي والاخلاقي الاهم في هذا النقد والقلق لدى مثقفي العالم الغربي ، هو انه يخاطب الامة الغربية ويحرضها على ان تتخذ موقفا حيال توالي اجيال من ( القادة التافهين والساقطين والجهلة ) على قيادة الدول الغربية .
وبواعث الخطاب الموجه الى الامم الغربية ،تنطلق من آليات الانتخاب واختيار الرؤساء عبر صناديق الاقتراع ،ويعتقدون ان الاختيار تم على اساس من الخلل في القيم والمفاهيم الاخلاقية والوطنية ( كما يعتقد فوكوياما في انتخاب الرئيس ترامب ) ..
وتذهب صحيفة النيويورك تايمز الى اكثر من ذلك وترى ان الرئيس ترامب يتحدر من ثقافة مافيوية وتدعي انه كان على صلة بعصابات المافيا في نيويورك خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي ،وتسرد في لائحة اتهامها جملة من العبارات المافيوية وردت على لسان ترامب من قبيل : (( شرطي قذر . محقق فاسد .. تخلصوا منه .. )) .
ازمة القيادة برزت بشكل فاقع قبيل محنة كورونا والتدهور في الاقتصاد العالمي .وستزداد الازمة تعقيدا وستصبح اكثر الحاحا في في المستقبل القريب , اذ سيتيه العالم في الشرق والغرب والشمال والجنوب ،وسط جدلية الراعي القيمي والقائد الرقمي .
فالكنيسة حتى بعد تخليها عن الصليبية السياسية ,لم تؤسس الاطار التربوي والقيمي للمجتمعات التي تنتج القائد الرقمي القيمي ، كذلك في الاسلام السياسي الذي فشل في تفريغ النموذج الميثولوجي من الورق الى الواقع الرقمي . وايضا الصهيونية التي هي نتاج اليهودية السياسية ،فشلت كذلك في حسم ومعالجة الجدلية القيمية حيث مايزال المجتمع اليهودي في اسرائيل يعاني من ازدواجية الثقافة والانتماء بسبب فشل الصهيونية في تحويل الدين الى شعب ودولة.