بعد انفجار التظاهرات 2019 بيومين، تلقّت شخصيّة إعلاميّة اتصالاً من صديق كبير لها وهو رجل اعلامي نافذ على علاقة وثيقة بالإدارة الأميركيّة، تناقش معه في الوضع العراقي بالمعاني والأهداف الكامنة خلف لتظاهرات. وبصراحة واضحة أظهر رجل الاعلامي هذا، الخطّة الأميركيّة بتفاصيلها وأبعادها، كاشفًا وبناء على معرفته العميقة بالرؤى الأميركيّة البعيدة المدى، بأنّ الأميركيين فقدوا ثقتهم بسياسيي العراق ، “فلا بدّ من التغيير وإسقاط الهيكل السياسيّ واستبداله بهيكل جديد، العراق نموذج تابع لإيران بالقراءة الأميركيّة، فلا بدّ من التغيير الجذريّ واستنهاض نظام جديد هنا وهناك، بسياسيين جدد لم يتعاملوا مع إيران
وتابع رجل الاعلام نقاشه قائلاً: “ليس الحشد الشعبي وحيدًا على لائحة الإرهاب، بل لائحة ستضمّ سياسيين ستتمّ معاقبتهم أيضًا بسبب عدم اطاعتهم لولايات المتحدة ، والأسماء ستضمّ شخصيات والت الأميركيين واندرجت في خطابهم السياسيّ، ولكنّها بدورها غاصت في الجانب الإيراني وغرقت ، لذلك فإنّ تظاهرا بالمنظور الأميركيّ سيستمرّ إلى حين سقوط الطبقة السياسيّة الراهنة بانتخابات نيابيّة مبكّرة، كما أنّ المساعدات لن تعطى للعراق حتى تنفيذ شروطه، وأيضًا بحسب المنظور الأميركيّ، كما ورد في حديث رجل الاعلامي .
لا تفترق الخلاصة التي وصل إليها هذا الرجل عن الخلاصة التي وصل إليها. إصدار قانون عقوبات يطال شخصيات لن تكون محصورة بفريق الفتح وحلفائهم ، إشهار فقدانهم الثقة بغالبيّة القوى والشخصيّات السياسيّة النافذة في العراق ، وطريقة تصرّف الحكومة الأميركيّة سيختلف مع الواقع السياسيّ العراقي عن السابق. إن ما يحصل في العراق تجسيد للسياسة الأميركيّة الجديدة تجاهه. وبرايهم سيكون العراق أمام تحديّات جديدة يرسم مستقبل البلد وفق قواعد جديدة كاللامركزيّة…
إلى مايرمي الأميركيون بتلك الخلاصات؟
قبل الإجابة على هذا السؤال وهو مستدخّل في سياق القراءة، لا بدّ من التذكير مرّة أخرى، بأنّ الرؤية الأميركيّة المتورّمة والمتدحرجة في الداخل العراقي ، ليست حديثة الحكم أو وليدة لحظتها الآنية، بل هي تربو إلى ثلاث عشرة سنة خلت، أي على وجه التحديد اوباما إلى البيت الأبيض ، لكن عندما وصل ترامب ودار النقاش بينهم وبين سياسين عراقين زارو أمريكا حول الوضع العراقي برمتّه ثمّ عرضوا وجهة نظرهم بما خصّ النظام السياسيّ العراقي ، معتبرين بأنّه لن يتمكّن من الصمود ولا يملك قدرة حماية الشعب والطبقة السياسيّة في العراق . فهو بقراءتهم مترجرج ومثقوب ومعطوب. إنّ الأميركيين بما ورد منهم وعنهم، ومنذ ذلك الحين يرنون إلى تغيير النظام السياسيّ برمته. وبغوصهم في الكثير من التفاصيل منذ ذلك الحين وإلى الآن أظهروا عدم اهتمامهم على الإطلاق باتفاق وأدوه لحظة ولدوه. فحكم بعد 2003عندهم تسوية ، وقد رسّخ أنظومة سياسي بالمطلق أطبقت على القوانين والدستور، وهذه الحالة بقراءتهم لا تقتلع إلاّ بتغيير النظام السياسيّ بجوهره.
بطبيعة الأمور، تغيير النظام السياسيّ ليس محصورًا في الرقعة الجغرافيّة العراقية . بل هو عميم وممدود باتجاه المنطقة المشرقيّة برمتها، ضمن أنظومة الفوضى الخلاّقة التي ابتكرها المفكّر اليهوديّ الإنكليزيّ الأصل برنارد لويس، فترجمت بربيع عربيّ عاصف، وتكدّس بالكليّة بمعاييره في سوريا ضمن الحرب عليها. العراق بالنسبة للأميركيين مدى واسع ومطل رحب، يعبّرون فيه عن عمق موجوديتهم في الشرق الأوسط، ولذلك أي نظام يبتكرونه ويقولبونه من شأنه حتمًا أن يعبّر عن إسقاطاتهم السياسيّة ومصالحهم الاقتصادية والاستثماريّة فيه، وينطلقون منه إلى المنطقة. تلك هي البراغماتيّة الأميركيّة، وهي حاليًا تتوحّش في العراق ليس لأنها تحبّه وتعمل لصالح شعبه، بل لأنه لا يزال الموقع الاستراتيجيّ المستهلك منها لحماية أمن إسرائيل بالدرجة الأولى وهذه مسلّمة جوهريّة عندها، ولأنه شاغل العالم بجيو-سياسته المستندة إلى الموقع الجغرافيّ المطلّ على سوريا والعالم العربيّ.
من جهة العراق ، يفترض بالحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي ، أن تلتمس من قراءتهم وأهدافهم أمرين أساسيين انكشفا في وفي كلام رجل الأمريكي مع صديقه الإعلاميّ، وهما مكافحة الفساد بصورة جذريّة وزجريّة، ولنقل بصورة جذوريّة حتى تكون العبارة دقيقة، واستعادة الأموال المنهوبة من معظم السياسيين الذين فسدوا وسرقوا. لقد ورد هذا الكلام على لسان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي ، وهو في الأصل وارد في أدبيات رئيس الجمهوريّة برهم صالح ، مما يدلّ على وحدانيّة الأهداف المتجليّة في العمل ما بين الرئيسين والحكومة. ويمكن أن نستفيد من هذا الضغط المتراكم لبناء نظام اقتصاديّ متماسك يعدّل كثيرًا من متن الاقتصاد الريعيّ ويعيد الاعتبار إلى الاقتصاد المنتج بفعاليّة، حتى لا يصير العراق تحت أيدي وكلاء وأوصياء يرهنونه ويتقاسمونه.
غير أنّ هذا الإصلاح لا يفترض إظهاره كرمى للأميركيين، أو تماشيًا مع أهدافهم. ذلك أنّ لهم مآرب أخرى واضحة في الحرب الاقتصاد التي شنّوها على العراق ، وهم العاملون بآحاديتهم المطلقة ليبقى العراق تحت وصايتهم وضمن قبضتهم، ليبقى النفط تحت سيطرتهم وجزءًا من استثمارهم.
ثلاثة أهداف يرمي الأميركيون لإظهارها:
1-الهدف الأوّل ضرب المقاومة أي الحشد الشعبي وبتر وتمزيق الوصال المتين بين الجيش والشعب والمقاومة، كرمى داعش الرابضة على حدودنا الغربية . ولذلك هم مصرّون على بقاء التظاهرات الفوضويّ بالتسيّب الأمنيّ على الأرض لظنّهم أنهم بتلك الطريقة يشتتون الحزب، ويضعفون الجيش، ويمزقون الشعب، ويهيئون الأرض لفتنة مذهبيّة (شيعيّة-سنيّة)، وبنيويّة (سنيّة-سنيّة). وهذه المسألة عند الأميركيين مركزيّة لا حياد عنها، ويفترض من النخب فهمها وتمحيصها وعدم السماح باتساعها، وفي تسير وتسري في قلب لحظة الصراع الأميركيّ-الإيرانيّ، الكثيف الاشتداد بعيد اغتيال أميركا للواء قاسم سليماني.
2-الهدف الثاني إسقاط تحالف الفتح . السبب الجوهريّ لإسقاطه أميركيًّا انه حمى المقاومة وشرّع نضالها وقتالها بوجه داعش ، وشرّع مقاومتها لمشروعهم الآيل على بثّ القوى والمنظمات التكفيريّة، لتشتيت المنطقة برمتها. إنّه وبقراءة واضحة إسقاط سياسيّ-شخصيّ ومنهجيّ. وبالفهم الأميركيّ، فإنّ محاولة إسقاط الفتح، إسقاط للجذوة التشيع ليس في العراق فحسب بل في العالم عمومًا. من هنا يسوغ القول بأنّ هدف أميركا ضرب الوجود الشيعي بدءًا من إضعافه، فهو وكما قال احد أصدقائي غير مرّة يذكّر أمريكا بإثمها الكبير أي بقتلها الأطفال . ومتى ضربت الشيعية في العراق ضعف الإسلام القرآنيّ، فالعروبة البيضاء تنبع من لقائهما وعيشهما معًا.
3-الهدف الثالث تغيير النظام السياسيّ في العراق بمنظورهم، بمحاولة سحقهم الفلسفة الميثاقيّة التي قام عليها النظام السياسيّ الأوّل مع انبثاق دستور سنة 2004 الذي كتبه سياسيوا 2003 والتي رسا عليها النظام السياسيّ الثاني مع تنفيذ اتفاق محصاصة، الذي كانت لهم اليد الطولى في تفعيله بتسوية بينهم وبين طبقات السياسية . لم يعد النظام السياسيّ العراقي يلبّي حاجتهم ومصالحهم، ولذلك هم عاكفون وماضون منذ سنة 2014 وربما أكثر إلى تغييره، وقد بدا واضحًا أن اللامركزيّة في فكرهم و هدفهم بديل يعملون على تجسيره ومن ثمّ تجذيره.
في النهاية تلك هي الخلاصات الأميركيّة تجاه تكوين العراق الجديد Remaking a New lraq. واللافت أن الأمريكان في 2003، وفي عظة له أشار إلى تكوين العراق الجديد، من دون الإشارة إلى طبيعته، وهو حين كان أسقفًا على جبيل ردّ على مسألة إلغاء الطائفيّة السياسيّة بسؤال وما هو البديل. من هنا حين يقول التظاهرات ولا سيّما الصداميون منهم ما أمسى شعارًا كللن يعني كللن، فهم أشاروا ويشيرون وبالمفهوم الأميركيّ إلى إنهاء النظام السياسيّ الحالي وإبداله بجديد، من دون الإشارة إلى فحواه فيما اللامركزية قد تكون العنوان الأبرز في المفهوم الأميركيّ للعراق الجديد New lraq كجزء من الشرق الأوسط الجديد New Middle East.
ختام هذه القراءة هل سيسير ساساة،العراق في الفلك الأميركيّ من ضمن مجموعة تسويات تحضّر عموما عمومًا وشيعة خصوصًا، أو أننا سنشهد بعادًا؟ والمسألة الأدق أين ستكون الحكومة العراقية الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي من حجم تلك الأطروحة، وأين سيكون الحكومة من هذا المشهد؟ الجواب بأنّ الحكومة برئاسة فخامة الرئيس مصطفى الكاظمي لا يزال يملك أوراق القوّة إلى جانب الحكومة، فالحكومة إنقاذيّة ولكنها حكومة مواجهة لمعظم الاحتمالات المطروحة. وإذا قررنا عدم الاستسلام، فالاتجاه نحو الغرب هو الأفضل والأكمل، علمًا بأنّ الأمريكان أعلنوا عن استعدادهم لمساعدة العراق مع ولادة تلك الحكومة.