(١)
رغم التفاوت في آراء الأقتصاديين بخصوص العوامل المؤثرة على النشاط الأقتصادي تزامناً مع تصنيف دول العالم بداية القرن العشرين الى دول صناعية متقدمة ودول إشتركية ، ودول أخرى نامية مع إختلاف الأنظمة الأقتصادية ما بين الرأسمالية والأشتراكية والأنظمة الشمولية ، والأنظمة ذات الأقتصاد المخطط وغيرها ، لكن الأغلبية كانت مع طروحات (آدم سميث) بخصوص إعتماد آليات السوق والقواعد الذاتية التي تتحكم بالأنشطة الأقتصادية ، والتي تمت تسميتها بـ(اليد الخفية) ، والتي من شأنها أن تتأثر مع أي تدخل خارجي وخصوصاً (التدخل الحكومي) في تلك الأنشطة مما يؤدي الى تخلخل تلك القواعد الحاكمة ، لتبقى هذه الآليات هي الكفيلة بالمحافظة على أو معالجة الأختلالات التي تحصل في تلك الأنظمة التي بدأت تتوجه بأتجاه السوق الحر . ولكن عجز هذه النظرية في تفسير الأحداث التي حصلت أعقاب الحرب العالمية الأولى وتحقق الكساد الأقتصادي العالمي عام (1929) ، قد دفع بأتجاه أرجحية النظرية (الكنزية) التي إستطاعت أن تقدم التفسير الوافي لكيفية معالجة الأوضاع ، والتي أيدت وجود تلك الآليات التي تتحكم بالأسواق ، ولكن أكدت عجزها في المعالجة الذاتية للأختلالات التي تحصل في الأنشطة الأقتصادية خلال فترات وجيزة ، وأنه لا بد من التدخل الحكومي في حال تعرض الأسواق الى التقلبات والإختلالات كوسيلة لأعادة التوازن ، في حال عدم الأعتماد على آليات السوق وقواعد اليد الخفية من أجل المعالجة الذاتية لأنها قد تستغرق أعواماً طويلة ، وقد تتعثر الكثير من المفاصل الأقتصادية خلال هذه الفترة وتتبعثر الأهداف . وأيدت هذه النظرية مفهوم التدخل الحكومي في الأنشطة الأقتصادية ، بل وشجعت على إعتماد معظم الدول التوجه نحو الأقتصاد المخطط ، وخصوصاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية . لكن التطور الحاصل في التكنولوجيا والزيادة السكانية في دول العالم ، وتنوع وتعدد الخدمات المطلوبة تقديمها من الأدارات العامة وزيادة الطلب عليها نهاية السبعينات من القرن الماضي ، وضعت الأدارات العامة في حالة إختلال هيكلي وأوصلت الموازنات العامة الى حالات العجز ، ناهيك عن سوء جودة الخدمات وغلبة البيروقراطية وتفشي البطالة المقنعة التي أصابت مفاصل الأدارة العامة ، التي أكدت جميعها بضرورة التدخل لمعالجة هذه الأختلالات من أجل تصويب مسار النشاط الأقتصادي وخصوصاً في الجوانب التي تتعلق بمؤسسات القطاع العام . فكان لا بد من الخوض في تطبيق سياسات جديدة تحقق إستغلال الموارد بكفاءة ، وضرورة إعتماد برامج تحقق التحوّل الأقتصادي ، ولا بد من إتخاذ إجراءات تعيد النظر في توزيع أدوار القائمين بالنشاط الأقتصادي وتحقيق الأصلاح الأقتصادي .
وبوصولنا إلى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي ، ومع تفاقم وضع المؤسسات المملوكة للدولة وضعف الأدارة العامة (تردّي في الكفاءة ، وأزدياد البطالة المقنعة ، وتفشي البيروقراطية وسوء الخدمات) ومعاناة الدولة من جراء صعوبة إدارة المؤسسات نتيجة الزيادة في المديونية وتحقق العجز في الموازنات وتفشي الفساد ، فقد توصل العديد من الدول ورغم إختلاف الأنظمة الأقتصادية المتبعة فيها الى قناعة تصويب المسار الأقتصادي (مثل بريطانيا وفرنسا اللتان تصنفان من الدول الصناعية المتقدمة ) وتبعتهما مجموعة من الدول النامية في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (مثل تشيلي وماليزيا) ، حيث تبنت معظم هذه الدول جملة من الأجراءات وفق البرامج التي أعدتها ، والتي كانت تهدف بالدرجة الأساس إلى الأنسحاب التدريجي للدولة من قسم من الأنشطة الأقتصادية والخدمات العامة ، وتفعيل دور القطاع الخاص والأعتماد عليه ، إنطلاقاً من مبدأ بأن القطاع الخاص يمكنه تقديم بعض الخدمات العامة بدلاً من القطاع العام بشكل أفضل ، وأنه حان الوقت للأعتماد على آليات السوق التي يعود لها السبب في نجاح أداء القطاع الخاص . وكان الهدف المنشود والسائد في معظم هذه البرامج هو تخفيف العبء على الأدارة العامة من أجل تقليص مديونيتها ومعالجة العجز في الموازنة العامة ، وتخصيص الموارد والمبالغ التي يتم توفيرها من أجل تحسين وتوسيع الخدمات الأخرى (بجانب تحسين الكفاءة وتحقيق الجودة والقضاء على المظاهر السلبية التي تولدت في مؤسسات الأدارة العامة) .
من المؤكد أن السياسة الأقتصادية الجيدة في أية دولة ، تهدف الى تنظيم مجالين رئيسيين لإدارة الأستثمار العام ، الأول هو إدارة المؤسسات المملوكة للدولة ، والثاني هو إدارة الموارد الطبيعية (المال العام) . ولكن مع تفاقم المشاكل في الأدارات العامة ، ظهر التساؤل التالي ( هل أن الدولة ملزمة بتقديم جميع الخدمات العامة من خلال مؤسساتها ، أم أن هناك بدائل أفضل يمكن اللجوء إليها ؟ ) ، حيث يؤيد الكثيرون بأنه ربما بالأمكان تقديم أفضل الخدمات من قبل القطاع الخاص إذا ما تم تدعيمها بتشريعات قانونية ونظام ضريبي مع الأخذ بنظر الأعتبار مسألة التكاليف مقابل الفوائد المتحققة . ويؤيد معظم أنصار تيار الأقتصاد المتحرر والذين يؤمنون بالأحتكام الى آليات السوق ، بأن أداء معظم شركات القطاع الخاص أفضل من أداء المؤسسات العامة رغم تشابه المشاكل التي تواجه القطاعين . وقد توصل العديد من البلدان الى أن الخصخصة ضرورية لتصويب المسار الأقتصادي ، فقد تم أعتبار الخصخصة منذ الثمانينات الوسيلة الأفضل أو ربما الوحيدة لتحسين أداء المؤسسات العامة ، وهذا ما كانت تؤكد عليه الحكومات المانحة و البنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي . وبعد الخبرات المتراكمة نتيجة العديد من التجارب (الناجحة منها أو الفاشلة) ينبغي أن نتساءل ، هل أن نظام الخصخصة هو المفتاح لحل المشاكل الأقتصادية ، وهل أن الخصخصة تمثل الحل الأمثل لتصويب المسار الأقتصادي ؟؟ أم أن هناك طريق ثالث ( حل وسطي ) ما بين الأدارة العامة والخصخصة ، يمكن أن يقودنا الى تحسين الكفاءة الأقتصادية ، وربما من خلال إصلاح المؤسسة المملوكة للدولة وتنظيم عملها ( الهيكلة ) ؟؟؟
يتبع ……