قراءة تحليلية
واهم من يعتقد إن الإيرانين قد خسروا أو تراجع نفذهم في العراق، وهذا الإنطباع ينسحب على الأحزاب الشيعية، التي لا زالت تستأنس بإستشارة إيران في القضايا المفصلية، وعلى المختص والمراقب للمشهد السياسي العراقي أن يدرك شئ مهم، ألا وهو إن النظام السياسي في العراق، يعد من أعقد الأنظمة السياسية في العالم( نظام سياسي هجين)، وتعقيد هذا النظام يأتي من كونه خاضع لتقاطعات داخلية كثيرة، وتدافعات جيوسياسية دولية ذات تعددية قطبية، قد يكون أبرزها الصراع الإيراني الأمريكي، وهذا ما جعل الدولة العراقية، إذا لم تكن فاشلة فقد تعد دولة هشة وضعيفة، المؤلم في ظل هذه المعادلة المعقدة، أرى إن اللاعب الخارجي مؤثر جدا” في العملية السياسية والقرار السياسي العراقي على كافة المستويات، مع فشل ذريع للأحزاب السياسية المحلية، حيث أثبتت السنين السبعة عشر التي مرت، إن تلك الأحزاب لا تمتلك مشروع دولة، بل كثير منها تحول مترجم لسياسات اللاعب الخارجي.
وما بين الصراع الداخلي بين الأحزاب السياسية على المغانم الدونية، أشتد التدافع الإيراني الأمريكي لبسط النفوذ والهيمنة على الجغرافية السياسية بكل تضاريسها، وبوابة تحقيق ذلك النفوذ لا يكون إلا عبر طريق تشكيل الحكومة العراقية، بل ويعتبر الأهدف الأسمى في المنظور البراغماتي وليس المثالي للصراع الدولي في العراق، وطيلة الأشهر الستة الماضية، لم يوفق الجميع بتشكيل حكومة بديلة عن حكومة السيد عادل عبد المهدي وأتصور السبب عدم حصول التسويات السياسية، وبعد مخاض عسير تشكلت حكومة الكاظمي، وبتوافق كبير بين الفرقاء الداخلين والخارجيين.
لكن تساؤلات كثيرة أثيرت حول شخصية الكاظمي وحكومته، هذه الشخصية المثيرة للجدل، المتهمة بإغتيال الشهدين الحاج أبو مهدي المهندس والجنرال قاسم سليماني، والأشكال لا يثار بإتجاه الطبقة السياسية الشيعية، رغم حفيظة جمهور الحشد على بعض الأحزاب التي جاءت من رحم الحشد الشعبي، والتي بحسابات جمهورها إن تلك الأحزاب(الحشدية) تجاهلت دماء الشهداء القادة(قد يكون ظاهرا”)، وكل ما يهمها هو تحقيق (المغانم) أي ( المالات) وأنا أعتقد أن الكاظمي كان كريم في البذخ معهم، من أجل المضي في تشكيل كابينته ونيله الثقة، و ( لحاجة في نفس يعقوب قضاها)، لكن المكون السياسي الشيعي أيضا أستشعر أنه لا نجاة من هذه المرحلة ألا بهذه المناورة الخطيرة، على أن يتم الأمساك بعنانها، والأستفهام الأكبر في ماهية العامل المشترك الذي جعل طرفي الصراع إيران وأمريكا، تتوافق على ترشيح السيد مصطفى الكاظمي وينال ثقة البرلمان العراقي.
هنا لا بد من الإبتعاد عن ما يسمى ب(الإنفعال السياسي) ونفكك هذه المعادلة، ثم نرى كيف تفكر الدول المتطورة بإدارة أزماتها؟ فسياسة الأولويات نقطة مهمة بإدارة ملف الدولة، وعامل الوقت مهم جدا” لتحقيق النجاح في ملف الإدارة، ولنبدأ بإيران..كلنا يدرك إنها تعاني من أزمة إقتصادية خانقة، جراء الحصار الأمريكي والعقوبات المتشددة عليها، وهذا ما
جعل العراق رئة للإقتصاد الإيراني، بحكم التبادل التجاري الكبير والذي كان من المقررأن يصل إلى 20 مليار دولار أمريكي قبل إنخفاض أسعار النفط جراء جائحة كورونا، والأيرانيون أصحاب الفكر البراغماتي الواقعي، يدركون جيدا إن مرشح الرئاسة العراقية، في ظل هذه الظروف العصيبة والخانقة، سوف تكون مهمته صعبة بدون الدعم الدولي وتحديدا” الأمريكي.
لذا إيران تعاملت بعقلية السياسي الكيس، ولم تضغط على الأحزاب الشيعية لتبني مكلف رئاسة م الوزراء في هذه المرحلة، لأنه سوف يلقى نفس مصير السيد عادل عبد المهدي، وكذلك تأجيل الأخذ بثأر القادة الشهداءإلى وقت أخر، فالتوقيت الزماني لا يسمح بذلك بحسابات الإيرانيين فهم لا يجروا لمعركة لم يحددوا مكانها وزمانها، بالإضافة لذلك وبكل تأكيد إنهم أخذوا تضمينات من شخص الكاظمي على الإبقاء على المكتسبات الإيرانية، عبر المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، وتبقى قوات حزب الله التي هي خارج العملية السياسية العراقية، تلك العصا الغليظة التي تلوح بها إيران لكل الذين يفكرون بالنكول بتعهداتهم، وإيران بطبيعتها تعول على التكتيكات المرنة للوصول إلى أهدافها ولا تعتمد أستراتيجية بعينها كي لا يقعوا في الأستنزاف السياسي والأقتصادي، وقد نجحوا نجاحا كبيرا” عبر العقدين المنصرمين بهذا الأسلوب، على مستوى المنطقة وليس العراق فقط.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، ذهبت لأبعد من ذلك، بعد أن فشلت في كل السنوات الماضية من بسط نفوذها الكامل، سواء على الجغرافية العراقية، أو العملية السياسية بعينها، فلا القوة العسكرية الأمريكية المباشرة نجحت بذلك، ولا من خلال حروب الوكالة وتسخيرها لجماعات الأرهابية المتتالية، والتي كان أخرها داعش، أو حتى من خلال الأحزاب السياسية العراقية، التي تدين بالولاء المطلق لأمريكا، والولايات المتحدة الأمريكية فكرت بإسلوب مختلف هذه المرة، من أجل البدء بالسيطرة على القرار السياسي العراقي، بطريقة قد تكون مارستها نهايات عام 2007 بعد أن تعرضت قواتها لضربات موجعة وخصوصا” في الوسط والجنوب، فقامت بتسوير المناطق، لتجعل مخارج ومداخل مناطق العراق محددة، ومن خلال هذا التحديد أستطاعت فرض سيطرتها العسكرية والأمنية.
أعتقد هذه التجربة العسكرية والأمنية قد تم إستنساخها، إن لم تكن أستنسخت وبدأ التفكير بها من قبل أحداث التظاهر، ويمكن أن نسمي هذه السياسة الإمريكية الجديدة( أستراتيجية الأمساك بمفاتيح البوابة المركزية) أي السيطرة على مرتكزات القرار السياسي العراقي، من خلال الأمساك والسيطرة على الرئاسات الثلاث، بعد أن تمكنت من أزاحة عنصر الأعاقة لهذه الأستراتيجية د.عادل عبد المهدي، والأتيان بالسيد الكاظمي، دون الإنشغال بمفاتيح الغرف الداخلية(الوزارات وتفرعاتها) لأن تلك السياسة أستنزفت الأمريكان كثيرا”، ولم تحقق لهم المراد طيلة السنوات الماضية، وأرهق الأمريكان كثيرا”.
السؤال الذي أود طرحه، أين مكان السياسي العراقي، في ظل صراع التكتيك الأيراني مع الأسترتيجية الأمريكية؟ وهل سنستطيع إنقاذ مشروع الدولة العراقية؟ ذلك المشروع الذي لم يولد لحد الأن، أم سنقف متفرجين تاركين الملعب السياسي، يبقى أسير الصراعات الدولية؟ أم سنشهد بعض الساسة والأحزاب من يكون قادرا” لتحيول ذلك التقاطع الدولي في العراق؟ إلى نقطة لتلاقي المصالح الدولية، لذلك الوقت أودعكم على أمل الملتقى في (عراق الدولة) لا في (عراق الأحزاب).