ذات يوم قرر أبو القاسم الطنبوري السفر بالطائرة , وركب سيارة الأجرة وذهب إلى المطار , متشوقا متعجبا وحالما بأنه سيحلق في الفضاء ويرى ظهر الغيوم , ويتمتع بمنظر لم يألفه , أو يعتاد عليه من قبل.
وبعد وصوله , حمل حقائبه , ومشى بين المسافرين , وذهب إلى صالة الخطوط الجوية التي سيتقل طائرتها . وبعد أسئلة وصعوبات تمكن من التواصل مع إمرأة في المكتب فأرشدته إلى قطع التذكرة إليكترونيا , وجاء إلى الماكنة وما عرف كيف يستخدمها فاستعان بالمسؤولة عن ذلك , فوضعت جوازه ومررته في المكان المخصص لذلك , لكن الماكنة لا تستجيب إلا بالخط الأحمر , فأوعزت إليه أن يذهب إلى مكتب التذاكر , فوقف في طابور طويل , وبعد طول إنتظار تمكن من إتمام ما يلزم ويشحن حقائبه , ويحمل ما يمكن حمله بيديه.
ومضى عبر خطوط وحواجز حتى وصل إلى موقع التفتيش , فخلع كل ما يلبس إلا سرواله , ومضى عبر أجهزة الفحص والتدقيق , وبعد أن فرغ من ذلك مضى إلى الطائرة , وقبل أن يصعد إليها , تم تدقيق تذكرته , فأشار إليه أحدهم أن يذهب إلى مَن سيقوم بتفتيشه من جديد , قبل أن يصعد إلى الطائرة!
وذهب إلى فتاة شقراء , لها سيقان يعجز مايكل أنجلو عن الإتيان بمثلهما , وعينان لا يمكن لليونارد دافنشي أن يرسمهما , وشفتان يستهويان القلوب والنظر.
تسمر أبو القاسم الطنبوري أمام هذه الحسناء , وهي تشير إليه أن أفرغ جيوبك , واخلع سترتك وعمامتك , وقميصك , وما تلف به بطنك , وراحت تتلمسه جزءً جزءً , وهو في نشوة الإحساس بأن جميلة شقراء تداعب بدنه.
فطلبت منه أن يستدير إلى الوراء , ففعل , وراحت تتلمس بدنه مرة أخرى , وهو يتمتع بما هو عليه من أحاسيس!
وطلبت منه أن يستدير مرة أخرى , وراحت تمرر جهازا حول جسمه , وأبو القاسم الطنبوري في حيرة ونشوة ودهشة.
وبعد أن فتشت حقائبه وما كان بجيوبه , وكل ما خلعه من ملابس , نظرت إلى حذائه , وطلبت منه أن يخلعه!
قال: ماذا؟
قالت: إخلع حذاءك!
فخلعه متعجبا , وإذا بها تأخذ بفحص الحذاء وتتلمسه , وتدخل يديها فيه , وترفعه وتحدق به , وتطويه , وتضعه على المنضدة , وترفعه مرة أخرى , وتقلبه وتبقى محدقة بعيونها الرائعة بوجه الحذاء , حتى حسبه أبو القاسم الطنبوري قد تحول إلى مرآة!
وكم تمنى أن تحدق بوجهه , وتفعل به ما فعلته بالحذاء , وبقيت متسمرة , متحيرةً بأمر الحذاء , وراحت تفكر بفحصه مرة أخرى وأخرى , وتستشير الآخرين , ليعينوها على فك أسرار هذا الحذاء.
وبعد أن نفذ صبر أبو القاسم الطنبوري , قال: هذه “طكاكية”!
وعندما وجدها لا تفهم قوله , قال: طغاغية , وأردف “طخاخية” , ولا زالت لا تفهم.
فأضاف: ألا تأخذينه , وتعطيني أي حذاء تشعرين بأنه أمين , فلا فرق عندي أي قياس ستعطيني , لأن الحذاء سيكون “طقاقية”!
قال: يا إمرأة , أريد قندرتي , فما علاقة القندرة بالطائرة؟
قالت: هناك شيئ غريب في هذا الحذاء , لا بد من التأكد؟!
قال: عجيب , ستقلع الطائرة , خذي الحذاء , فلا أريده!
قالت: لا , لابد من فحصه مرة أخرى , وراحت تتأكد من أن الحذاء سليم , وإنه حقا حذاء وليس شيئا آخر على هيأة حذاء؟
وبعد محاولات , ومحاولات , أطلقت صراح حذاء أبو القاسم الطنبوري , فوضعه في قدميه وأسرع إلى الطائرة , وهم يلعن الزمن الذي صار يخاف من الحذاء.
فالحذاء يكفي لإدخال المطارات في حالة إنذار , ويوقف حركة الطائرات , فحذاء كحذاء أبو القاسم الطنبوري لو ترك في باحة مطار عالمي , لدخل ذلك المظار في حالة إنذار قصوى.
تلك حقيقة ما يجري في عصرنا الذي تحول البشر فيه إلى آلات عدوان وإنفجار , بأبدانهم وأفكارهم وملابسهم وحقائبهم , وأحذيتهم.
وتساءل أبو القاسم الطنبوري: لماذا لا نمشي عراة , كما ولدنا , لنعود إلى حيث ابتدأنا؟
فقال لنفسه: سيتم فحصنا بالنواظير في عصر الخوف من البشر!
وفي الطائرة أصبح يخاف من حذائه الذي تترقبه الأنظار , وصارت حركاته محكومة بالمراقبة , فأمضى سفرته أسير الهواجس والمخاوف التي أحاطته وأفسدت عليه متعة السفر.
وبعد أن هبطت الطائرة , تحير في أمر حذائه , وقرر أن يرميه في أقرب سلة مهملات , ويضع نعليه في قدميه , وما أن فعل ذلك حتى أحاطته قوى أمن المطار , وأخذته إلى أماكن التعرية التامة والفحص الأدق والأشمل , فانطلق عاريا لكنهم إتهموه بمخالفة القوانين , ووجهت إليه تهمة الإعتداء على الذوق والأخلاق.
وراح يلعن المدنية وما جلبته من أخطار ومخاوف , وتمنى أن يكون على ظهر حماره في درابين المعمورة المسكونة ببشر طيب بسيط , ولكن هيهات , فقد سرقت المدنية إنسانيتنا , وحولتنا إلى أشياء وموجودات وأرقام , وقنابل موقوتة تنفجر حسب التوقيت العدواني الرهيب.
رحم الله أبو القاسم الطنبوري , فهل يدري أننا نعيش في زمن طنبوري ( دُنبَهِ بَرَه) شديد , وكأن البشر صار فيه كالطّنبار؟!!