بعد اقل من شهر على مخاض عسير للقوى السياسية في الغرف المظلمة واجتماعات الكواليس انجب البرلمان بولادة قيصرية حكومة من 15 وزيرًا يرأسها مصطفى الكاظمي في ليلة رمضانية اجتمع فيها مهندسو الصفقات تحت قبة البرلمان على مائدة سحور لتقاسم “كعكة” الوزارة الجديدة بحجة مواجهة الأزمات والعبور بالبلاد والعباد إلى بر الأمان، في سفينة برنامج حكومي لم تخلوا نقاطها من تعهدات قد تصبح لاحقًا ضمن ارشيف رئاسة الوزراء.
فما حصل خلال جلسة منح الثقة لم يكن بعيدا عن “كوميديا” فصول العملية السياسية المستمرة مع تبدل الشخوص في كل مناسبة والتي غادرنا منها الغائب طوعيا عادل عبد المهدي لياتي بديله بالطريقة ذاتها، من خلال منح بعض الأطراف صلاحية توزيع المهام فبدلًا من رئيس تحالف الفتح هادي العامري الذي اشترك مع زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في تقسيم كابينة عبد المهدي، اصبح رئيس البرلمان محمد الحلبوسي يقود عملية اقتسام الحصص وتحديد الجهات المشمولة “بالصفقة” بعد استشارة لاعبين أساسيين من القوى الكردية، لكن هذا لا يعني تجاهل الزعامات التي أوصلت عبد المهدي، وقد يكون ابتعادهم اختياريا لمنع “الوقوع بالحرج” أمام جمهورهم، فكيف تفسر رفض تحالفي الفتح وسائرون مرشح تحالف القوى لوزارة الشباب والرياضة عدنان درجال وتراجعهم بعد اجتماع أستمر لعدة دقائق مع رئيس البرلمان بصفته زعيما لتحالف القوى.
لكن.. جميع تلك الخطوات لم تكن بقرار داخلي منفرد فالورقة الخارجية كانت حاضرة من خلال الاتفاق الأمريكي الإيراني على دعم الكاظمي “لتهدئة” الصراع الإقليمي على الأقل في الوقت الحالي، وهو ما يفسره قبول غالبية القوى الشيعية بالتصويت للمكلف من دون اعتراض، باستثناء كتائب حزب الله التي بررت موافقة من وصفتهم “بالفئة المخلصة” على الكاظمي بوجود ضغوط كبيرة تعرضوا لها، لكن بالعودة إلى الوراء قليلا وتحديدا في العشرة الأولى من شهر آذار نسجل زيارة للامين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني إلى العاصمة بغداد التقى خلالها رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي وأبلغه بان “طهران ترغب بوجود حكومة عراقية قوية وفاعلة” لتكون هذه الكلمات بمثابة بطاقة عبور لمنصب رئيس الوزراء، فيما كشف الاتصال الهاتفي لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالكاظمي بعد اقل من ساعة على منحه الثقة عن حجم الاتفاق بين القطبين المتصارعين، حينما اخبره بان “الوقت حان للعمل العاجل والشاق لتحقيق المطالب الإصلاحية للشعب العراقي، واصفا اجندة الكاظمي “بالجريئة” لتأتي بعدها اول إشارات الدعم الأمريكي من خلال قرار ادارة الرئيس ترامب بتمديد استثناء استيراد الطاقة للعراق من إيران لمدة أربعة اشهر إضافية.
في وقت حقق اختيار الكابينة الجديدة نقطة مهمة تمثلت بإزاحة عبد المهدي المتورط بقتل المئات من المتظاهرين وسجل نصرا جديدا لساحات الاحتجاج بأبعاد “حكومة القناصين” عن التحكم بالمشهد السياسي والاستمرار باستغلال السلطة “لمطاردة” معارضيهم بالآراء والمواقف، وجعل عبد المهدي في مكانه الحقيقي الذي ستذكره الأجيال “بالقاتل” الذي أطاحه الشعب، حتى وان تجاهل الكاظمي محاسبته لأسباب قد تكون الضغوط السياسية في مقدمتها، لكن شباب الساحات سيستمرون بنهجهم الاصلاحي ليذكروا جميع من يأتي بعد عبد المهدي بمصير قاتل اخوتهم الذي رحل بهتافات سلمية من دون سلاح او تدخل خارجي ولم تنفعه “كواتم الصوت” والمؤيدين من دعاة الانفصال.
الخلاصة… ان حكومة الكاظمي وعلى الرغم من ارتفاع نسبة التشاؤم بسبب “الإحباط” الذي ولدته الحكومات السابقة، أمامها فرصة كبيرة لإثبات وجودها من خلال التحرر من زعامات الصفقات وإيجاد وسيلة لتنفيذ تعهداتها وتحقيق مطالب المواطنين فالمسؤولية كبيرة والمشاكل التي تشهدها بلادنا لا يمكن حصرها بكورونا والأزمة المالية فهناك الوضع الأمني الذي يتطلب معالجة منابع الفساد لتضمن نهايته عسكريا… اخيرا… السؤال الذي لابد منه… هل سيتمكن الكاظمي من إكمال حكومته الناقصة؟…