22 ديسمبر، 2024 9:07 ص

ما سجِّلَ لعبدالسلام عارف وما عليه

ما سجِّلَ لعبدالسلام عارف وما عليه

مقدمة
الحمد لله الذي أمدّ في عمري لأبلغ السبعينيّات كي أضحى شاهد عيان مخضرَم لعهد العراق الملكي لغاية تموز/1958 وعهود “الزعيم عبدالكريم قاسم”، ثم عهد حزب البعث فعهد “الرئيس عبدالسلام عارف” وأخاه “الفريق عبدالرحمن عارف”، ثم الرئيس “أحمد حسن البكر”، فالرئيس “صدام حسين”، قبل غزو العراق وإحتلاله وحتى يومنا الراهن.. في حين أنعم العليّ القدير عليّ بذاكرة طيّبة أستعين بها في تسطير حقائق ومواقف عديدة والإجابة على إستفسارات قد أكون مقتدراً عليها.
لماذا أعود للرئيس “عبدالسلام عارف”؟؟
واقع حالي أني ترددتُ في سرد مقالة جديدة عن الرئيس “عبدالسلام عارف” لسببين:-
أني غطّيتُ الكثير عن شخصه وسنيّ حكمه القصير وسط كتابي الموسوم بإسمه “الرئيس عبدالسلام عارف.. كما رأيتُه”، والذي وفّقني الله سبحانه أن يٌطبَعَ في “عَمّان” للمرة الرابعة خلال (12) عاماً.
أني تلقّفتُ الكثير من السباب والشتائم والـمَلامات من أشخاص أغلقوا عيونهم وعقولهم ونفوسهم -من دون إيضاح الأسباب- وهم مشحونون حقداً حيال هذا الرجل الذي كانت له بصمات -سلبية كانت أم إيجابية- في تأريخ العراق والشرق الأوسط، رغم عدم معاصرتهم لعهده وبُعدهم الزمني عنه، وذلك من عظم ما سمعوه وشُحِنوا به لمآرب متعاكسة.

إلاّ أن العديد من الأصدقاء والمهتمّين بتأريخ العراق المعاصر في عقد الستينيات دفعوني هذه المرة إلى مقالة أوضّح من خلالها ما رأيتُه بأمّ عينَيَّ عن “الرئيس عبدالسلام” في غضون سنتَين من خدمتي بالحرس الجمهوري في عهده… فرضختُ لإلحاحهم.
مشاعري نحو “عبدالسلام عارف”
لحدّ هذه اللحظة أؤكد على إعجابي بالعهد الملكي ومؤسسيه وبُناته وسياسيّيه الموقّرين والمخضرمين الذين أخرجوا -مهما قيل عنهم- دولة مؤسسات ووزارات ودوائر ومستشفيات ومدارس ومشاريع عملاقة من جسور وطرق وسدود، وجهازاً قضائياً مستقلاً وأحزاباً وطنية عديدة، وبرلماناً محترماً يصل نوّابه إلى مقاعده عن طريق إنتخابات تتمتّع بديمقراطية مقبولة أفضل بكثير ممّا لدى العديد من الدول العربية والإسلامية وسواها من الأقطار التي تشكّلت خلال النصف الأول من القرن العشرين في عالم ما بعد الحرب العظمى الأولى.
لذلك أُصرّ على أن ما يسمّى بـ”تنظيم الضباط الأحرار” قد أجرم بحق العراق ونظام حكمه وغدروا بالعائلة المالكة لَـمّا نكث كبار ضباطه العهد والوعد بإنقلاب 14/تموز/1958، الذي ما زلنا -وعموم المنطقة- نعاني من ذيوله وإرهاصاته وشآبيبه الكارثية، وكان على رأس منفّذيه “العقيد الركن عبدالسلام عارف”.
كيف إنتسبتُ للحرس الجمهوري؟؟
لا أمتُّ بأية صِلَة مع شخص “عبدالسلام عارف” لا من قريب أو بعيد، ولا أنا من مدينته الأصل “الفلّوجة”، ولا من عشيرة “الجُميلات”، ولا من قبائل “الدلَيم”.
أنا عراقي-تركماني-من أصول شركسية مولود في “قلعة كركوك”، ولم أدرِ كيف إنتُقِيتُ للحرس الجمهوري -بمواصفات لم أطلع عليها- من بين (353) طالباً إلاّ يوم توزيع خريجي دورتنا بالكلية العسكرية في تموز/1964 على الجيش، وقتما بُلِّغتُ -بشكل خاص- من بين (أربعة) ملازمين بالإلتحاق فوراً إلى فوج الحرس الجمهوري الأول، وهو المسؤول الأول عن حماية القصر الجمهوري ونظام الحكم وشخص رئيس الجمهورية الساكن في جناحه الخاص.
ولكني أعترف أني خدمتُ في هذا الفوج ضابطاً -برتبة “ملازم” وبمنصب آمر فصيل- على ما يُرام، وأدّيت واجبي بإخلاص، ولم أخُن العهد الذي قُذِفَ على عاتقي بصفتي ضابطاً في الجيش العراقي، في حين كنتُ -في واقع الحال- مُتضَجِّراً من المهمات التي نكلّف بها، وهي أشبه ما تكون بواجبات وحدات الشرطة المحلّية وأفراد الأمن العام لحماية نظام الحكم وليس دفاعاً عن حياض الوطن.. لذلك وقبل إنقضاء سنتين في هذا الفوج، رفعتُ عريضة على إدارة الضباط بوزارة الدفاع راجياً نقلي إلى أية وحدة من الجيش، فحصل ذلك في تموز/1966.
ما لعبدالسلام عارف وما عليه
تحفّظ العديد من الذين عاصروا العهد الملكي وما تلته من العهود الجمهورية، وبالأخص عهد الرئيس “عبدالسلام عارف”، وإختلفوا بمناصرتهم لهذا ومناهضتهم لذاك بزوايا حادة ومنفرجة تبلغ أحياناً (180) درجة في رؤاهم المتضاربة نحوه في العديد من الأمور ما بين مُعجَب وحاقد ومُحِبٍّ وكارِه.
فلنَدَع تلك الخلافات السياسية والعقائدية والطائفية والعرقية والمشاعر القومية -التي لا تنتهي نقاشاتها إلى نتيجة- جانباً، لنركّز على ما شاهدتُه في شخصه عن قرب نسبيّ، وبرؤية شاب برتبة “ملازم ثانٍ” ليس إلاّ:-
أُخِذَ على “عبدالسلام عارف” إنعدام توازنه في خُطَبه أمام الجماهير وإستخدامه عبارات غير مستساغة أثناء جولاته في مختلف محافظات العراق خلال الأسابيع التي تَلَت إنقلاب 14/تموز/1958، إلاّ أنّه راجع نفسه ولم يعُدْ كذلك -نسبياً- بعد تبوّئه رئاسة الجمهورية بمثابة منصب رمزي من دون صلاحيات تُذكَر بعد إنقلاب 14/رمضان (8/شباط/1963)، وبالأخص بعد أن أضحى رئيساً بصلاحيات شبه مطلقة بعد حركة 18/تشرين2 /1963.
لا نقاش في شجاعته لحدّ التهوّر، سواء في إنقلاب تموز/ 1958 -رغم تحفّظاتي الشخصية أزاء الإنقلاب- بل أن البعض يظنّ أن لولاه لما قُضِيَ على النظام الملكي، وأن الزعيم الركن “عبدالكريم قاسم” كان ينتظر في “معسكر جلولاء” ولم يتحرك بشخصه على رأس لوائه/19 نحو “بغداد” إلاّ بعد ظهر ذلك اليوم ليتمترس وسط مبنى وزارة الدفاع.
وتسجّل عليه قبوله لإعدام صديقه “الفريق الركن عبدالكريم قاسم” أمام ناظرَيه بمبنى الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية” يوم 9/شباط/1963 رغم عدم تنفيذ “قاسم” لقرار الإعدام الصادر بحقه، وإطلاق سراحه من السجن بعد سنتين وإيصاله بسيارته الرسمية وتسليمه سالماً لعائلته… ولكن “عبدالسلام” حاول تبرير نفسه عن ذلك، بأن القرار لم يكن بين يديه، إنما لدى مجلس قيادة الثورة.
أما شجاعته في إتخاذ القرار وتنفيذه فقد تجلّت في حركته التصحيحية -إن جاز التعبير- يوم 18/تشرين2/1963 للقضاء على فوضى فصائل حزب البعث المسلّحة والمعروفة بـ”الحرس القومي” وإزاحتهم من الساحة السياسية، والتي لم تختلف تصرفاتها غير المقبولة عمّا إقترفه مسلّحو “المقاومة الشعبية” الشيوعية في أوساط الغالبية العظمى من المجتمع العراقي، تلك الحركة التصحيحية التي أعادت هيبة الدولة وإستقرارها والفوضى التي سادت “بغداد” وحصرت السلاح -مركزياً وبلا منازع يُذكَر- بين يديها.
وعلى عكس حكم “قاسم” الذي جرت فيه -بمباركة “الزعيم الأوحد” في معظمها- ممارسات دموية وقتل بالجملة وسحل وتعليق جثث على الأعمدة وقذفهم وسط مقابر جماعية وإعدامات بمحاكم بروليتاريا غير مسبوقة في تأريخ العراق… فقد تميّز عهد “عبدالسلام” بعد 18/تشرين/1963 بإستتباب الأمن والنظام وسطوة القانون في معظم بقاع الوطن.
وقد سُجِّلَ له بعد 18/تشرين2/1963 عدم إعدامه أيّاً من مناوئيه السياسيين بمن فيهم الذين أقدموا على محاولات إنقلابية لإزاحته من الحكم، مثل محاولة البعثيين في أيلول/1964، ثم القوميين في أيلول/1965… بل أنه لم يصادق على تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة من محاكم قضائية بحق أيّ مواطن عراقي حتى لو كان قد إقترف جريمة منظمة وعن سبق ترصّد وإصرار… ولستُ من أزعم ذلك ولم أعرف هذه المعلومة في حينه، بل أن كلاًّ من السادة “ناجي طالب، صبحي عبدالحميد، هادي خمّاس، خليل إبراهيم الزوبعي” أحاطوني علماً بذلك وقتما كنتُ أعدّ مسودة كتابي آنف الذكر عن الرئيس عبدالسلام عامَيّ (1997-1998).
وعلى عكس الزعيم “قاسم” الذي إحتفظ بأعلى المناصب بحيث عُدَّ دكتاتوراً إلى جانب الأحكام العُرقية المعلنة رسمياً ووجود حاكم عسكري عام لعموم العراق ممثَّلاً بشخص رئيس أركان الجيش “اللواء الركن أحمد صالح العبدي”، وفي حين ظلّ “قاسم” رئيساً الوزراء ووزيراً الدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلّحة وبصلاحيات مطلقة، ومن دون أن يستحدث حتى منصب رئيس الجمهورية ولا مجلساً –ولو صورياً- لقيادة الثورة، فقد إكتفى “عبدالسلام عارف” برئاسة الجمهورية والقائد العام بحكم منصبه، وكلّف دونه بتشكيل عدة وزارات في عهده، وألغى الأحكام العرفية والمجالس العسكرية ومنصب الحاكم العسكري العام والصلاحيات الإستثنائية المناطة للجيش داخل البلاد وحوّلها إلى وزارة الداخلية.
وبينما عُرِفَ عن “قاسم” ترؤسه بمفرده لحكومة واحدة مستديمة طالت أربع سنوات ونصف السنة، بوزراء جلّهم عسكريون من أصدقائه أو من تنظيم الضباط الأحرار، فقد تميّزت الوزارات التي تشكّلت في عهد “عبدالسلام” -بعد 18/تشرين2/1963- بوزراء حرفيين، مهنيّين، كفوئين، ومتدرّجين بمسالكم وإختصاصاتهم الوظيفية وشهاداتهم العالية في معظمهم، ويستثنى من ذلك وزيرا الدفاع والداخلية، وكذلك حقيبة الخارجية لمرّتين فقط والتي أُنيطت لضابطين من ذوي الكفاءة والدراية قبل أن تؤول إلى مدنيّ.
وبذلك يبدو أن الرجل كان عازماً على إعادة العراق للحكم المدنيّ بعد خمس سنوات من حكم العساكر المُسَيّسين، وقتما أناط حتى منصب رئيس الوزراء إلى الأستاذ “عبدالرحمن البزاز” خلال أيلول/1965، فكانت آخر وزارة في عهده قبل حادث الطائرة التي أودت بحياته في نيسان/1963.
وعلى عكس الزعيم “قاسم” الذي قبع في مبنى وزارة الدفاع الذي تحوّل إلى أشبه بقلعة محصّنة، وأحاط نفسه بمئات الجنود يضمّهم فوج كامل من اللواء/19 مع دبابات ومدافع لمقاومة الدبابات والطائرات، وإبتعد عن الشارع والمجتمع رغم ما يُقال عن جولاته الخفيّة بعد منتصف الليل وسط البعض من أحياء “بغداد” من دون المحافظات إلاّ نادراً… فقد عُرِفَ عن “عبدالسلام” جرأته في هذا الشأن، فزياراته للمحافظات -وصولاً إلى الأقضية والنواحي والقرى والأرياف والأهوار- كانت مكّوكية لتفقّد أوضاع دوائرها وأحوال مواطنيها، ولم يكن يمضي أسبوعان حتى يجري زيارة تالية، تُضاف إليها زياراته الأسبوعية أو نصف الأسبوعية للوزارات ودوائر “بغداد” ومصانعها ومعاملها في الضواحي، ناهيك عن أدائه لصلاة الجمعة في أحد الجوامع مع إعلان مسبق في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في كل يوم خميس عن إسم الجامع وموقعه.
وكذلك على عكس “قاسم” الذي قطع علاقات العراق عن دول الجوار والمنطقة والعالم ولم يُجرِ ولو زيارة واحدة لإحداها، وظلّ على عداء وخصومة وعدم وئام مع الجميع، فقد أعاد “عبدالسلام” صلات العراق مع العديد منها، وكانت سفراته للخارج وحضوره المؤتمرات ولقاءاته المتكررة والمثمرة مع معظم الزعماء العرب والإسلام وكتلة عدم الإنحياز تستجلب الأنظار.
الكثير يتهمونه بأنه لم يسمح بإنبثاق أحزاب سياسية قديمة جمّدها الزعيم “قاسم” طيلة عهده، أو تشكيل أحزاب جديدة بقانون… ولكني أقول بعيداً عن الحزب الواحد أو الحزب القائد الذي تسلّط على رقابنا طيلة (35) سنة من حكم البعث، فإننا نتلمّس ما عانيناه بعد 2003 تحت ظلال الحرية المزعومة والتعددية الدستورية والديمقراطية المزيّفة والعملية السياسية المزوّرة والمتخمة بعشرات الأحزاب التي عاثت في العراق فساداً وقتلاً ودماراً وخراباً وجثمت على صدورنا منذ 2003 ولغاية يومنا هذا، وما زالت حبالهم على جراراتهم… لذلك أرى أن قرار “عبدالسلام عارف” كان صائباً.
ومما يُسجّل له أن البطالة في عهده كانت معدومة بالمرّة، فالعراقيون جميعاً، سواء أكانوا أصحاب شهادات عليا وجامعية أو ما دونهم ولغاية حملة الشهادة الإبتدائية، يتعيّنون في دوائر الدولة من دون إستثناء، وكلُّ في المنطقة التي يرغب بالخدمة فيها، وبرواتب تحقق لهم معيشة مقبولة لبناء مستقبلهم، في حين كان القطاع الخاص نشِطاً بحيث كان الألوف يستغنون عن الوظائف الحكومية… لذلك فقد إنعدم الفقر في عموم البلاد، وغدت الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة طاغية بنسبة لا تدنى عن 80% بين فئات الشعب.
ورغم ما يُؤخذ عليه في إستحداث مؤسسة تابعة لوزارة التجارة تحت مسمّى “مصلحة المبايعات الحكومية” تقليداً للنهج الإشتراكي المتّبع في “مصر”، فإن هذه المؤسسة حققت إستقراراً مشهوداً في توفير حاجات المواطن الإستهلاكية حتى في أقصى أقاصي الوطن، وحافظت على إستقرار أسعارها المحدّدة في كلّها والمدعومة في بعضها، وذلك بالمراقبة اليومية المستديمة على الوكلاء ومحاسبة المخالفين بشدة.
وإستمراراً لما دأب عليه النظامان الملكي و”قاسم” فقد واصل “عبدالسلام” توزيع قطع الأراضي السكنية على المستحقين من موظفي الدولة والقطاع العام المشتركين لدى جمعيات بناء المساكن لكلّ فئات المجتمع، وكذلك لذوي الدخل المحدود في بغداد والمحافظات، إلى جانب دعمهم بسلف المصرف العقاري ذات الفائدة الضئيلة والمدى الطويل.
ويسجّل لـ”عبدالسلام عارف” غضّ النظر عمّا آل إليه قانون الإصلاح الزراعي الصادر عام 1958، وكان يعده فاشلاً آذى الفلاحين والمزارعين أصحاب الثروة الحيوانية وآذي العراق في أكثر من منحىً، فإستثمروا ذلك ليعودوا إلى البعض من مشاريعهم الصغيرة والوسطى، فإنتعشت الزراعة في عموم الوطن وإمتلأت الأسواق بكل حاجيات المواطن، فعاد “العراق” إلى سابق عهده في تصدير الحبوب والقطن والمواشي، من دون إستيراد شيء يُذكَر من الخارج.
وداعاً إلى مقالة متمّمة
وكي لا أطيل على القارئ الكريم وعلى نفسي أكثر مما أطلت، فأني أتوقّف عند هذا الحد، لأن الحديث يطول عن مجالات حرص “عبدالسلام عارف” على المال العام وتقطيره على ذاته وأهله وكبار مسؤولي الدولة، وإكتفاءه بحماية بسيطة لشخصه ومسكنه ونظام حكمه، وكيفية إندلاع العمليات العسكرية مجدداً في شماليّ الوطن، وقضايا أخرى قد ترد ببالي.
وتحت تلكم العناوين سأخوض معكم مقالة قادمة -بعون الله سبحانه- على صفحات هذا الموقع الأغر، ولكن في حالة إستشعاري بإهتمام المتابعين لهذه المقالة.