18 ديسمبر، 2024 9:58 م

التصوّف في نظر العقاد

التصوّف في نظر العقاد

كتاب “الله” هو في نظري من افضل ما الف عباس محمود العقاد من كتب، فأنا قرأت له عدد من كتبه، وكتبه تربو على مئة كتاب تقريبًا، وفي مختلف الافكار والاتجاهات والفنون. لكن كتابه هذا هو الذي استهواني اكثر من سواه بيحث قرأته لمرتين. واعتقد لأنه يحتوي على افكار فلسفية ولاهوتية، وأخرى تاريخية واعتقادية، قد مزجها العقاد في مؤلف واحد يساير فيه البحث عن وجود الله وعن الفكرة الاولى لانطلاقها في المعتقدات القديمة، وعن الاديان الاولى التي كيف كانت تمارس هذه العبادة، “التوحيد” ثم يتطرق الى الفلسفات الاولى وكيف تمخضت لديها هذه الفكرة “الله”. والاهم ما في القضية أن العقاد طرح كل تلك الاطر والافكار والنظريات بأسلوب سهل وبسيط، وخاليا من كل التعقيدات وكثرة استخدام المصطلحات الفضفاضة التي عادة ما يلتجئ اليها كثير من الكتاب.
ولا ننسى، أن العقاد كاتب كبير وقارئ نهم، ومطلع على العديد من الفلسفات والافكار المختلفة، وفي مناح الحياة، الفكرية والدينية والاجتماعية وغيرها. وهو بعدُ له اسلوبه الخاص في الكتابة وعالم البحث، وأن اطلاعه الواسع يدل على غزارة ثقافته وتنوعها.
وقد خصص العقاد فصلاً كاملاً في كتابه هذا، وهو فصل بعنوان “التصوف” واعتبر هذا الفصل مكملا لسير بحثه، ورأى من المناسب أن يخوض في هذا المجال.
فعرف التصوف اولا بقوله: ” وهو ملكة فردية يستعد لها بعض الآحاد ولا تشيع في الجماعات، وقد توصف «بالعبقرية الدينية» إذا بلغت مرتبة التأصل والابتكار”.
وقد رفض من يتجنى على المتصوفة، واعتبر طريقتهم تنم عن عبقرية وقال:” إن هذه العبقرية هي نوع من التسامي بالغريزة النوعية أو الجنسية”. بسبب أن المتصوفة دائمًا ما نجدهم يتلفظون عبارات: العشق والشوق والهجر والدلال. مستشهدا بقول الحلاج: «يا أهل الإسلام! أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه». وكذلك قول رابعة العدوية: أحبك حبَّيْنِ حب الهوى وحب لأنك أهل لِذَاكَا”.
ونقول، واحيانا ذكر الخمرة والصبوح وغير ذلك تجده موجود وبكثرة في دواوين المتصوفة، ويرددونها على السنتهم، وهم قطعًا لا يقصدون بها خمرة الدنيا، ساعات وتنطفئ جذوتها، كما ذكرنا ذلك في كتابنا “الله في فكر عمر الخيام”، كـ (ميمية) ابن الفارض والتي هي من عيون الشعر العربي، وهي مقطوعة عذبة تفيض جمالا ودلالا، ورقة ورونقا، والتي يقول في مطلعها.
شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً …. سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
ويضيف العقاد الى ما قال وهو ما يعده خصوم المتصوفة مثلبة على التصوَف والمتصوّفة “وهو قول ابن عربي في حلمٍ رآه: رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذَّةٍ عظيمة روحانية، ثم لما أكملت نكاح النجوم أُعْطِيتُ الحروف فنكحتها، وعرضتُ رؤياي هذه على من عرضها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، فقال: صاحب هذه الرؤيا يُفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون لأحدٍ من أهل زمانه”.
ويعتبر العقاد أن تفسير مثل هذه القضايا هي اشتباه على خصوم المتصوفة، ومن وجهة نظرنا فهم بمعنى قد اختلطت عليهم المفاهيم والمقاصد، والا فأن المتصوفة هم فوق الشبهات، اذ هم قوم عبّاد زهّاد هاموا بالعشق الالهي، وذابوا في الذات الالهية. وفوق هذا وذاك هم مسالمون لم يكفروا أحداّ، لكن غيرهم كفرهم، ونسبهم الى الزندقة.
ويربط العقاد بين المتصوفة وغيرهم من العباقرة، كبيان لتنزيه ساحتهم مما لصُقت بها من شوائب: في الفن وفي المعرفة وفي ميادين اخرى خاض فيها اصحابها وقدم ما قدم للإنسانية من ابداع وعطاء، وفي مجالات اخرى، وكلها تصب في الاتجاه الذي يرونه نافع ومفيد. فيسأل العقاد هنا ويجيب أنه لماذا نخص المتصوفة بالانتقاد اكثر مما ننتقد وربما نلوم ونغلط المتصوفة ونغض الطرف عن كثير من الآراء والنظريات التي قدمها غير المتصوفة؟!.
يقول: “فإن ما يصدق عليهم يصدق على عباقرة الفن وعباقرة الحرب وعباقرة المعرفة على التعميم، فما من أحدٍ من أصحاب هذه العبقريات إلا لوحظ في تكوين مزاجه اختلاف قوي يمس الغريزة النوعية أقوى مساس، فمنهم من يفرط فيها ومنهم من يهملها، ومنهم من يصاب بالعقم ومن يولد له أولاد يموتون في الطفولة أو يولد له الإناث دون الذكور، ومنهم من يرتبط وحيه الفني بعاطفة من عواطف الحب تشغله في الحقيقة والخيال، فإذا قلنا إن العبقرية كلها نوع من التسامي بالغريزة النوعية بقي أن نعرف دواعي التمييز بين عبقرية المتصوف وعبقرية الفنان وعبقرية العالم وعبقرية القائد الفاتح والسياسي القدير، وإنما نذكر الواقع فنفهم الحقيقة في هذا الأمر على وجهه المستقيم، والواقع من جهة هو أن العبقرية «يقَظةٌ وتَنَبُّهٌ» وأن الغريزة النوعية عميقة القرار في تركيب كل بنية حية، فلا تتيقظ النفس في أعماقها إلا تنبهت معها تلك الغريزة فبرزت بتعبيراتها على نحوٍ من الأنحاء، والواقع من جهة أخرى أن العبقرية خدمة للنوع كله من جانب الخلق العقلي أو الروحاني لا من جانب الخلق الحيواني أو جانب التوليد، فلا عجب أن تنازع الغريزة مكانها وأن تنمو واحدة منهما «على حساب» الأخرى، ولا عجب أن تتلاقيا على حالٍ من الأحوال وكلتاهما مرهونة بطلب التجديد والدوام في نوع الإنسان”.
وإذن، وعلى رأي معروف الكرخي، كما يذكر العقاد:” إن التصوف هو معرفة الحقائق الإلهية، يكثر فيهم الاشتغال بالفلسفة وتأويل مذاهبها، ولكنهم ينقلونها من الفكر إلى الشعور ويحاولون أن «يحسوها» كإحساس المرء بالكائنات التي يتعلق بها الحب ويشهد عليها الجمال”. وهذا كلام سليم، وليس هذا فحسب، بل “وكل فكرة يؤمن بها الصوفية تنطوي في فكرة واحدة أصيلة شاملة لكل ما عداها: وتلك هي بطلان الظواهر وقيام الحقيقة فيما وراءها”. فمثل ماذا؟ ويجيب العقاد:” فمن قديم الزمن قال الفلاسفة إن هذه المادة المتغيرة خداع من الحس وإن جوهر الوجود الصادق إنما هو العقل السرمدي الذي لا تغير فيه، أو هو الروح السرمدي كما يرى بعض الفلاسفة الذين يوحدون العقل والروح”.
واذا كان هذا هو رأي الفلاسفة، وهو توحيد العقل والروح، فكيف يستقيم التصوف والظواهر؟. فيرى العقاد إنّ “التصوف هو الشعور بهذه الحقيقة لا مجرد التفكير فيها، وسبيل المتصوف إلى ذلك هو الإعراض عن هذه الظواهر بالزهد فيها والتنصل منها، فهي الحجب التي تستر الحقيقة الإلهية عن النفس البشرية، وكلها باطل تتكشف عن وهمٍ زائل؛ إذ لا موجود كما قال ابن عربي: «إلا الله، ولا يعرف الله إلا الله»”.
وبالتالي فأن العقاد هو الآخر ينتقد من يقول بوحدة الوجود من المتصوفة “ومنهم من يغلو فيقول بوحدة الوجود، ويقول: إن الله هو جميع هذه الموجودات، وإنها ليست فيه على سبيل التجزئة والتفرقة، ولكنها تكمن فيه كما يكمن الربع والنصف في الواحد، فليس هو كله، وليس هو منفصلًا عنه، وليس هو موجودًا على التحقيق، ولكنه موجود بالإضافة إلى وجود الله، أو أن وجوده كوجود الفرد بالنسبة إلى حقيقة النوع، فهو ليس بمعدومٍ، ولكنه لا يزيد تلك الحقيقة ولا ينفصل عنها”.
نعم، كل المتصوفة يقولون بوحدة الوجود وعلى رأسهم ابن عربي الملقب بالشيخ الاكبر، بل وحتى بعض الفلاسفة الغربيين من يشاركهم بهذا المعتقد، امثال برونو، وجاكوب بوهمه، وسبينوزا، ومن المسلمين الحلاج والسهروردي وجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، وسواهم. وكل هؤلاء حكم عليهم اما بالزندقة واما بالكفر واما بالإعدام.
ويرى العقاد إنْ “ليس في الكون قبح أو شر عند هؤلاء المتصوفة إلا بالمقابلة بين بعض الموجودات وبعضها دون الوجود المطلق الذي لا يقبل التعيين والمقابلة، ولا توجد الأشياء بالنسبة إليه وجود الانفصال والتخصص والموافقة والنفور، كما قال بهاء الدين العاملي: «إن نجاسة الأشياء وتَقَذُرَها ليست وصفًا ثابتًا في أنفسها، فإن كل طبيعة متعينة لها ملاءمة بالنسبة إلى البعض ومنافرة بالنسبة إلى البعض الآخر، وذلك من آثار ما به الاشتراك وما به الاختلاف الواقع من التعيين، فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاءمة والمنافرة، والنجاسة الواقعة في بعض الأشياء إنما هي بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التي وقعت بينها أسباب المخالفة، فهي لا تثبت لشيء إلا بالنسبة إلى ما يقابلها، لا بالنسبة إلى الإطلاق والمطلق، فهي وما يقابلها مما سمي نظافة على السوية بالنسبة للمطلق».”
ويذهب العقاد في النتيجة الى أن ما يقوم به المتصوّفة، من فكر وتفلسف ونوازع نفسية ايجابية في عبادة خاصة، تختلف كل الاختلاف لما يقوم به الفقهاء، يذهب الى ما يسميها بـ “العبقرية الدينية” ونحن نتفق معه في رأيه هذا، ونضيف أن هم حاذقين لتسويق بضاعتهم هذه التي قامت على العبادة الخالصة، وعلى صفاء النفس، وطلاق الدنيا والهروب من كل الماديات، مكتفين بالإيحاءات الروحية التي تكفي لسد رمقهم من الحاجات الاخرى، والتي هي ماديات بحتة تنتهي في محلها، فهم يرون أن الحياة قصيرة، مهما اعطي الانسان من عمر، فلابد أن يصل الى المحطة الاخيرة فترسو سفينته على شاطئ الوداع، طال أم المدى.
اذ يقول:” والعبقرية الدينية ظاهرة في الآحاد- مع ظهور الأديان في الجماعات – فلا شك في دلالتها الجوهرية وإن كانت عباراتها اللفظية محلًّا للخلاف بل للإنكار في كثيرٍ من الأغراض؛ لأننا لم نعرف في نفس الإنسان عبقرية قائمة على العدم، خلوًا من المعاني والقيم، فلا يسعنا أن نصرف العبقرية الدينية من عالم الحقيقة أو نصرف دلالتها التي تلح بها على عقولنا وضمائرنا؛ لأن بعض أصحابها تعوزه سلامة البنية أو دقة التعبير أو يشذ بأعماله وأقواله عن عادات الجماعات والأمم، فكل العبقريات – وليست العبقرية الدينية وحدها- سواءٌ في هذه الخصلة، وتبقى دلالة العبقرية في النهاية بعد كل تعقيب وتعليل، ودلالتها التي تلزم من وجودها: أنها تعبر عن حقيقة إلهية من وراء المجاز والرمز والكناية وتعدد الصور والأساليب في التصوير والتعبير”.
ملاحظ// اعتمدنا على النسخة من الكتاب للطبعة الثامنة، دار المعارف بمصر، لسنة 1980.