بسم الله الرحمن الرحيم
{ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج } صدق الله العلي العظيم
يذكر السيد محمد باقر الصدر(رض) في الفتاوى الواضحة ما يلي:
شهر رمضان وشعبان من الأشهر القمرية وهي تتكون تارة من تسعة وعشرين يوما وأخرى من ثلاثين يوماً حسب طول الدورة الاقترانية للقمر وقصرها وهي دورة القمر حول الأرض حيث أنَّ القمر يتحرك حول الأرض من المغرب الى المشرق وهو كالأرض نصفه يواجه الشمس فيكون نيّراً ويكون الوقت في المناطق الواقعة فيه نهارا ونصفه الآخر لا يقابل الشمس فيكون مظلما ويكون الوقت في المناطق الواقعة فيه ليلاً، فإذا ما دار القمر حل الليل في المناطق التي كانت في النصف النيّر وطلع النهار في المناطق التي كانت في النصف المظلم ،والقمر أثناء دورته هذه حول الأرض تارة يصبح في موضع بين الأرض والشمس على صورة يكون مواجها بموجبها للأرض بوجهه المظلم ومختفياً عنها بوجهه المنير اختفاءً كاملاً ، وأخرى يصبح في موضع على نحو تكون بينه وبين الشمس ، وثالثة يكون بين هذين الموضعين ، وحينما يكون القمر في الموضع الواقع بين الأرض والشمس لا يمكن أن يُرى منه شئ .. وهذا هو (المحاق) ، ثم يتحرك عن هذا الموضع فتبدوا لنا حافة النصف أو الوجه المضيء المواجه للشمس .. وهذا هو (الهلال) ، ويعتبر ذلك بداية الحركة الدورية للقمر حول الأرض ، وتسمى بالحركة الاقترانية ، لأن بدايتها تقدر من حين اقتران القمر بالأرض والشمس وتوسطه بينهما ، وابتداؤه يتجاوز هذه النقطة وعلى هذا الأساس تعتبر (بداية الشهر القمري الطبيعي) عند خروج القمر من المحاق وابتدائه بالخروج عن حالة التوسط بين الأرض والشمس ، وابتداؤه بالخروج يعني أن جزء من نصفه المضيء سيواجه الأرض وهو الهلال ، وبذلك كان الهلال هو المظهر الكوني لبداية الشهر القمري الطبيعي .
كما يذكر العلامة المستشار عبد المقصود شلتوت:
إنَّ فى الاعتماد على الحساب الفلكي لإثبات دخول الشهر القمري خطآن جسيمان :
أولهما : إسقاط العلة الشرعية الموجبة للصوم والإفطار وهى الرؤية البصرية .
والثاني : إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله وهو الحساب الفلكي وإضفاء الحجية عليها .
أما الأول : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غُم عليكم فأقدروا له ثلاثين ” وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ” وقال صلى الله عليه وآله وسلم ” إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يوماً ” والأحاديث فى هذا كثيرة ، وهى تدل على أن المعتبر فى ذلك هو رؤية الهلال أو كمال العدة .وليس المقصود من هذه الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه ،وإنما المراد بذلك شهادة البينة العادلة .
وفى الاعتماد على الحساب الفلكي إهدار للعلة الشرعية ، وإسقاط لحجية الرؤية الشرعية والحجية القضائية لحكم الإفتاء بالرؤية الشرعية ، واعتبار لما ألغاه الشرع وهو الحساب الفلكي .
وبالتالي : انتهاك حرمة النص القرآني ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وحرمة نص السنة الشريفة :” صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ” وانتهاك حرمة الصوم بمنع الناس من صيام أول رمضان ، وانتهاك حرمة العيد بمنعهم من إفطار يومه ، مما يؤدى إلى تعطيل أحكام الله ، وإثارة القلاقل والاضطراب ، وزيادة الفرقة والانقسام بين المسلمين .
وأما بالنسبة للخطأ الثاني : فهو إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله سبحانه وهى الحساب الفلكي وإضفاء الحجية عليها ، وبيان ذلك :أن الله سبحانه وتعالى ربط أحكامه بعلل وأسباب شرعية ، فإذا وجدت العلة الشرعية وجد حكم الله ، وإذا انتفت انتفى حكم الله ، ولا يملك أحد أن يغير هذه العلل ولا أن يبدلها .وقد ثبت بالشريعة الإسلامية أن علة وجوب الصوم والفطر هي المشاهدة ورؤية الهلال بصرياً .وليست العلة مجرد وجوده علمياً ، فى السماء من غير رؤية حسّية بالعين ، قال تعالى : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم ” صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ” فرتب وجوب الصوم والفطر على رؤية الهلال بالعين ، لا على العلم بوجود الهلال فلكياً دون رؤية بصرية ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل ” صوموا لوجود الهلال أو ثبوته ” حتى يعم الوجود كلاً من الوجودين الفلكي والبصري ، بل قال : ” صوموا لرؤيته ” والرؤية أخص من الوجود ، فقد يوجد الهلال فلكياً ولكن لا يُرى لأسباب كثيرة ، فلا يجب الصوم ، أضف إلى هذا أن الشق الأخير من الحديث يدل دلالة قاطعة على أن وجود الهلال ليس هو العلة ، وإنما العلة هي تحقق الرؤية الحسية الملموسة ، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم ” فإن غم عليكم ” أو حال بينكم وبينه سحاب ” كما فى بعض الروايات ، يفيد بأنه عند وجود الهلال وراء الغيم أو غيره يجب عدم الصوم ، وإكمال الشهر ثلاثين يوماً ، مما يقطع بأن العلة ليست هي مجرد وجود الهلال ، وإنما هي أخص من ذلك ، ألا وهى : تحقق الرؤية البصرية ، وبهذا ألغى الشارع الحكيم اعتبار الوجود العلمي للهلال علة للصوم أو الفطر ، وأكد على أن الوجود الحسي البصري هو العلة ، وليس ذلك لأن قوة درجة الحساب الفلكي فى الإثبات أقل من درجة الشهادة على الرؤية ، أو لعدم صحة مقدمات ونظريات علم الفلك ولكن لأن رحمة الله بعباده اقتضت أن يعلق أسباب عبادتهم وعللها بأمور حسية ملموسة لكل المكلفين ، دفعاً للحرج والمشقة على الناس ، وأن تكون علل الأحكام وأسبابها ثابتة وحسية وعامة يسهل إدراكها لجميع المكلفين دون مشقة ، وألا ترتبط هذه العبادات بأمور عقلية علمية معنوية لا يدركها كل الناس ، ولا كل من يريد أن يلتمسها حتى يتحقق عموم العلة مع عموم التكليف ، ويسر إدراكها مع يسر أدائه . وقد أجمع الفقهاء على الالتزام بالعلة الشرعية للصوم وهى (الرؤية البصرية للهلال) ، وأجمعوا على رفض الأخذ بالحساب الفلكي ، سواء فى ذلك حالة الصحو أم حالة الغيم إلا من شذ من المتأخرين وأحدث سبباً لم يشرعه الله ، ولا عبرة بهذا الشذوذ مع انعقاد الإجماع الفقهي قبله والإجماع العلمي أيضاً : فقد جرى العمل فى كافة العصور الإسلامية الزاهرة ، حيث تقدم المسلمون فى علم الفلك ، و أنشأوا المراصد الفلكية ، ومع ذلك منعوه من الدخول فى مجال العلل الشرعية للأحكام ، بل لا يكاد يُعرف قاض – منذ عرف الإسلام القضاء إلى اليوم – قضى بالحساب الفلكي ولا زال القضاة يستشرفون الهلال بأنفسهم ، أو ينتظرون الشهود العدول بالمحاكم حتى يجيئوا لهم ، والمحكم الشرعية العليا فى مصر لم تأخذ قط فى إثبات الرؤية بالحساب الفلكي منذ أنشئت إلى أن ألغيت ، وكذلك دار الإفتاء من بعدها ، حتى نبغ مفتي آخر الزمان وأحدث هذه البدعة ، ونبذ العلة الشرعية (الرؤية البصرية للهلال) وأحدث علة للصوم لم يشرعها الله وهى العلم الفلكي بوجود الهلال ، وشذ عن إجماع الأمة العلمي والعملي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا ، وأضفى على الحساب الفلكي الحجية اليقينية مع أنه مبنى على أمور ظنية وحسابية وجبرية ، وأجهزة فلكية ، وكلها ظنية تحتمل الخطأ والصواب ، وليس أدل على ذلك من تعارض تقاويم الفلكيين أنفسهم فى حساباتهم الفلكية ، والذي يبنى على الظن لا يقيم اليقين لقيام شبهة الخطأ .
والحالة هذه ؛ فنحن نلاحظ أنَّ الرؤية الشرعية للهلال تعتبر فتوى شرعية يقررها حاكم الشرع بالاعتماد على رؤيته أو رؤية الشهود العدول ، ولأن أكثر مراجعنا لا تسمح لهم ظروفهم الصحية بسبب تقادم العمر أن يعتمدوا على رؤيتهم الشخصية بالعين الراصدة لبزوغ الهلال ، الأمر الذي جعل مسالة تحديد الرؤية الشرعية للهلال معتمدة على شهادات الشهود، ولأن الشهود العدول مختلفون مذهبياً في هذه الأمّة الإسلامية ، باختلاف الأقطار والآفاق والمذاهب ، ولأنَّ الأمّة الإسلامية بحاجة إلى الدقة والموضوعية في تحديد الموعد الصحيح لظهور الشهر الإسلامي الهجري ، وما يتبعه من متطلبات التاريخ والتقويم السنوي في العبادات والمعاملات الإسلامية ، عليه ؛ نقترح أن يتبنى الوقفان السني والشيعي في جمهورية العراق (وهو شأنهم) مشروع تأسيس ( المركز العراقي الإسلامي لرؤية الهلال الشرعية ) يتكوّن من شخصيات شيعية وسنية متشاركة ، تأخذ على عاتقها وضع السياسة العامة للمركز، بالتنسيق بين هيئة علماء المسلمين في بغداد ممثلة لسنّة العراق والحوزة العلمية في النجف الأشرف ممثلة لشيعة العراق ، وذلك توخياً لحسم الاختلافات الغير مبررة لمشكلة تحديد أوان المناسبات الإسلامية ، وأهمها مسالة اليوم الأول لشهر رمضان واليوم الأول للعيدين المباركين (الفطر والأضحى) والسنة الهجرية (محرم الحرام) . وهذه في الواقع ؛ مشكلة مجتمعية غير محبذة في العراق ، سيّما ونحن هنا في العراق بأمس الحاجة إلى الوحدة الإسلامية ، فهل تستمر ظاهرة الهلالين في العراق .. الهلال السني والهلال الشيعي .. العيد السني والعيد الشيعي ، أم سيتفاهم علماء ومراجع الأمة الإسلامية في العراق على حلِّ هذا الإشكال المزمن ؟!!
أم سيبقون على انتظار عامل المصادفة في توافق مناسباتهم الدينية ؟!!!
نحن المسلمين جميعاً نتوجه إلى الله تعالى في صلواتنا الخمس بقلبٍ واحدٍ إلى قبلةٍ توحِّدُنا ، فلماذا لا نتوجه بعين واحدةٍ إلى هلال ٍ يوحِّدُنا ؟!!