23 نوفمبر، 2024 10:15 ص
Search
Close this search box.

دراما التلفزيونْ في قَبضَةِ المُعْلِنْ

دراما التلفزيونْ في قَبضَةِ المُعْلِنْ

الانتاج العربي
الانتاج الدرامي في المنطقة العربية شهد نموا ً واضحا ً خلال الاعوام العشرة الاخيرة مقارنة بما كان عليه قبل ظهورالبث الفضائي في منتصف تسعينات القرن الماضي، فقد لعب ظهورالقنوات الفضائية الخاصة الدور ألأكبروالأهم في تسريع عجلة الانتاج وتطوره فنيا ً،خاصة في مصر وسوريا. ليصبح التنافس شديدا ًبينهما،بهدف:السيطرة على سوق التوزيع. وحصيلة ذلك أنْ تمكّن الانتاج السوري من مُزاحمة الانتاج المصري إلى حد كبير،وبات منافسا ً شديدا ًله،من حيث الكم والنوع والتسويق،بل وضعه في موقف حرج،وصارالطلب عليه كبيراًمن قِبل المحطات الفضائية والمُعلنين،بعد أن كان حكرا ًعلى الانتاج المصري منذ أن ظهرالبث التلفزيون في مطلع ستينات القرن الماضي .
وسط هذا التسارع في الانتاج وتطوره لابد لنا أن نتسائل عن حجم وأهمية الانتاج العراقي في خضم هذا التنافس،دون أن ننسى حقيقة تاريخية ثابتة في أن :العراق هو اول بلد عربي دخله البث التلفزيوني عام 1956 !
لكن هل أرتقى نتاجه الدرامي الى مستوى هذه الاهمية التاريخية ؟
بلاشك أي متابع سيصل الى نتيجة ليست لصالح الانتاج الدرامي العراقي فيما لو تمت مقارنته مع دول عربية اخرى مثل لبنان والكويت والسعودية من غيرأن نضع مصروسوريا في الحسبان لأن المقارنة ستكون غير منصفة بلاشك،ويمكن ان نورد هنا بعض الحقائق التي من خلالها نستطيع التوصل الى صورة واضحة إلى مانشير إليه،على سبيل المثال : في سوريا مثلا يوجد اكثر من 200 شركة انتاج درامي تعمل على انتاج المسلسلات والافلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية وافلام الرسوم المتحركة.
بينما عدد شركات الانتاج في العراق لايتعدى اصابع اليد،هذا اضافة الى افتقاد العديد منها الى المعايير الأدارية والفنية،بالشكل الذي يجعلنا نتردد كثيرا قبل أن نطلق عليها تسمية شركة. . أيضا،هذه الشركات لاترتبط مهنيا ً في اتحاد ينظم عملها ويجعلها تتحرك بقوة في سوق الانتاج والتوزيع الذي يشهد تنافسا شديدا وسط تكتلات كبيرة.
إن قضية الانتاج باتت معقدة وعلى مستوى عال ٍ من التنظيم والادارة وهي مرتبطة بشكل عضوي مع طبيعة الفعاليات الاقتصادية القائمة، ولن يتمكن أي نشاط فردي بالسيطرة عليها من غير أن يكون هنالك تنظيمات مهنية تتولى عملية التخطيط والتحرك في سوق الانتاج والمنافسة .

سلطة المال
عميقة هي المتغيرات التي حصلت في عالم الانتاج وقد لعبت دوراً حاسما في تحديد الاطارالذي يتحرك فيه سوق الانتاج الدرامي،في مقدمتها يأتي :المُعلِنون من اصحاب الشركات ورجال الاعمال والمستثمرين والتجار)،إذ بات هؤلاء يلعبون دورا أساسيا ً في النشاط الاقتصادي وأصبحوا قوة رئيسة تتحكم بشكل كامل في الانتاج التلفزيوني الدرامي والبرامجي، بعد أن صارت الاعلانات التي تروّج لمنتجاتهم ومشاريعهم ــ والتي يحرصون على عرضها في المسلسلات ــ هي التي تحدد ماسيتم انتاجه من نصوص ونجوم سيشاركون في العمل،مقابل مايتم دفعه من مبالغ كبيرة جدا ًيتم دفعها للشركات المنتجة والمحطات الفضائية.. فقدوصل سعر الساعة التلفزيونة من هذه المسلسلات يتراوح مابين 15 الف دولار إلى 45 الف دولار،أي أنَّ ثمنَ مُسلسل ٍبثلاثين حلقة يصل إلى أكثر من 000  /900 الف دولار!ووصلت اجورالممثلين من النجوم في الساعة التلفزيونية الواحدة الى 000/ 5 ألاف دولار،ومجموع مايتقاضاه أي نجم يصل إلى 000/150 الف دولار في مسلسل واحد بثلاثين حلقة !
أزاء هذه الارقام العالية لم تعد لدى إدارات المحطات الفضائية ــ الحكومية منها وغير الحكوميةــ  القدرة على الصمود والمنافسة أمام المُعلنين،وهذا مافرض على شركات الانتاج أن تفكرالف مرة قبل الشروع في الموافقة على إنتاج اي نص درامي،وأن تدرس جيدا ً فرص الاستثمارالاعلاني التي سيأتي بها،والتي من خلالها سيتم تغطية تكاليف الانتاج وتحقيق الارباح العالية،وهي بذلك تريد أن تطمئن على إستمرارعجلة الانتاج ونموها،إضافة الى ماسيتبع ذلك من تفكير دائم في تحديث ادوات الانتاج التقنية. وقد يكون هذا الأمر من أهم النتائج التي افضى اليها سوق التنافس ،وألقى على شركات الانتاج  مسؤولية مضافة دعاها لأن تضع في اولويات اهتماماتها استخدام احدث التقنيات في التنفيذ،وخاصة كامرات التصوير، بعد أن شهد العالم تطورا ًمذهلا في هذا الاطار التقني وانعكس ذلك بشكل واضح على طبيعة الصورة وجودتها الى الحد الذي باتت صورة الانتاج الدرامي التلفزيوني في تنافس شديد مع الانتاج السينمائي،بل لم يعد هنالك من فرق بينهما من حيث جودة الصورة.
وسط هذه التحولات والتطورات التي شهدها الانتاج الدرامي العربي نجد أن الانتاج العراقي مازال يعتمد في آليات عمله وتفكيره على انظمة تقليديةٍ رثّة ٍتجاوزها الزمن،وتقنيات غيرمواكبة لما هو حاصل في العالم .
كل ماأوردناه هي عوامل مهمة تقف سببا في تخلف الانتاج العراقي لايمكن التقليل من أهميتها تحت أي تبريرقد يتعكز عليه العاملون في الانتاج ومازالوا يكررونه على اسماعنا في كل مناسبة يتم الحديث فيها عن ازمة الدراما العراقية،ومن تلك التبريرات مثلا :- “أن الانتاج العراقي يواجه محاربة غيرمعلنة من قبل الشركات والدول العربية”. وبتقديرنا المتواضع هذه الحجة ضعيفة،بل هي محاولة بائسة منهم للهروب من المشكلة،وإلقاء مسؤوليتها على الأخرين .
مفهوم السلعة 
من هنا يمكننا القول بأن الانتاج الدرامي بات سلعة بالمفهوم الاقتصادي الدقيق للكلمة،ويخضع تسويقها لقوانين العرض والطلب،التي يقف خلفها ويتحكم بها رجال أعمال ومستثمرين وتجارعقارات ورجال صناعة ،وبذلك لم تعد الاعمال الدرامية من حيث أسباب قيامها وانتاجها مشاريع جمالية خالصة يحقق من خلالها الفنانون أحلامهم بالمدن الفاضلة،ويوصلون عبرها خطابهم الانساني لتحقيق العدالة الاجتماعية.أنما هي مشاريع إقتصادية بأمتياز،تُرصَد لها ميزانيات مالية ضخمة،تكفي لأشباع ألاف الجياع والمحرومين في عالمنا العربي،الهدف من انتاجها:- تحقيق أرباح عالية تضاف الى ارصدة الشركات ورجال الاعمال،الذين أدركوا بعد ظهورالبث الفضائي،أهمية الاستثمار في هذا القطاع الحيوي الذي يحقق صلة مباشرة ومؤثرة مع المستهلك .
هذه المنظومة الاستثمارية التي باتت تتحكم في الانتاج الدرامي العربي، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي ــ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وبقية المنظومة الاشتراكية التي كانت تتبعه في العديد من دول العالم ومنها منطقتنا العربية ــ تمَّ استعارتها بطريقة مستنسخة من نمط الانتاج الاميركي الرأسمالي،الذي شهد تطورات هائلة في آليات عمله منذ بداية تأسيس شركات الانتاج السينمائي في مطلع القرن العشرين مُعتمدا ًعلى منظور فلسفي(براغماتي )يتعامل مع أي عمل فني على أنه: سلعة إقتصادية استهلاكية تخضع في وجودها واهميتها وقيمتها لشروط السوق.
الوجه الآخر للصورة
بنفس الوقت،الصورة ليست بهذه القتامة إذا ماأخذنا بنظرالاعتبارالعلاقة الجدليةالتي ارتبط بها الفن الدرامي مع عجلة السوق الاقتصادية،ومانتج عنها من تطور ٍفي اساليب العمل والتفكير لدى الفنانين،في المقدمة منهم الكتاب والمخرجون والمصورون ومدراء التصوير وبقية الحرفيين،فالاجور العالية التي باتوا يتقاضونها دفعتهم الى تطوير افكارهم ومعالجاتهم الفنية،وانعكس ذلك على المستوى الفني الذي تقدم فيه الاعمال الدرامية العربية،فوجدنا كتاب الدراما ينطلقون نحو مناطق وموضوعات جديدة ومثيرة لم يكن مسموحا الاقتراب منها،كما تم تقديمها بمعالجات فنية إبتعدت كثيراعن الأطرالمستهلكة والتقليدية في الرؤية والتنفيذ،سواء على مستوى الاخراج أوإدارة التصويروالاضاءة وبقية عناصر التكامل الفني في الصورة الدرامية،خاصة بعد انخراط العديد من المخرجين السينمائيين المُمَيزين في اخراج الاعمال الدرامية التلفزيونية،وهذا مارفع من مستوى معالجاتها الفنية، لتقترب بذلك من نمط الانتاج السينمائي الذي عادة مايتمركزسياقه العام على بناء وتأثيث اللقطة الواحدة،وبالاعتماد على كامرة واحدة،وليس بناء المشهد كاملا وبأكثرمن كامرة . بهذا الصدد يمكن الأشارة إلى الكثير من المسلسلات كنموذج لما نقول، منهاعلى سبيل المثال لا ألحصر:الولادة من الخاصرة،طرف ثالث،رقم سري،اخوة التراب،الحارة، نابليون والمحروسة ،الاجتياح،هدوء نسبي، التغريبة الفلسطينية،وغيرذلك من الاعمال .
 ونتيجة لما أشرنا إليه :إزدادت مساحة الاهتمام والتلقي للأنتاج الدرامي الى حد كبير،وباتت تتكدس في ادراج شركات الانتاج عشرات النصوص الدرامية،منتظرة دورها في التنفيذ،ومن ثم ألدخول في حلبة سباق تنافسي شديد على كسب الاعلانات التجارية التي ستعرض اثناء فترة بثها، خاصة في شهر رمضان ،فقد أصبح هذا الشهر نقطة انطلاق سنوية لسباق محموم بين المحطات الفضائية تحرص جميعها قبل حلوله بشهرين على عرض مقتطفات إعلانية (برموشن ) مأخوذة من الاعمال الدرامية التي سيتم عرضها خلال شهرالصوم بقصد جذب المُعلنين وكسب أكبرعدد من الاعلانات التي سيتم عرضها خلال فترة بث المسلسل.
يضاف إلى ذلك عامل آخر مهم ساهم في تحريك عجلة الانتاج وتطوره : فبعد أن دخل على خط المنافسة والمساهمة في هذا الاستثمار،المال القادم من دول الخليج العربي بكل ثقله وامكاناته،باتت شركات الانتاج اكثر طموحا في خططها ومشاريعها الفنية،لتصل ميزانيات بعض الاعمال الدرامية ارقاما كبيرة جدا ً،إلى اكثر من 100مليون دولار.
خلاصة القول
إذا أردنا تطوير الانتاج الدرامي العراقي ينبغي أن نأخذ بنظرالاعتبار كل التطورات التي حصلت في نمط الانتاج العربي،وعدم تجاهلها والقفزمن فوقها،فالمسألة لم تعد مجرد أحلام وامنيات فنية يسعى لتحقيقها الفنانون وبقية فريق العمل، بقدر ما تتطلب المعالجة : توفير الارضية المطمئنة لأصحاب رؤوس الاموال،من تجار ورجال أعمال، لكي يستثمروا أموالهم في مشاريع فنية، تعود عليهم بالربح،وبذلك نضمن دوران عجلة الانتاج ،وتأسيس شركات انتاج ستكون هي بالتالي القاعدة الاساسية لنهوض الانتاج .
أخيرا نقول: ينبغي على العاملين في الدراما العراقية،التخلي نهائيا ًعن التفكيرالعاجزوالقائم على:-انتظار الدعم والمساعدة الدائمة من الدولة . .لأنَّ معظم التجارب الناجحة في الانتاج الدرامي ــ في معظم دول العالم ــ ،لم تضع في حساباتها ألأعتماد على ماستقدمه الدولة من دعم لها،بقدر ما كان نجاحها مرتبطا بشكل اساسي على قدراتها وامكاناتها في تحقيق فرص العمل والنجاح .  

أحدث المقالات

أحدث المقالات