ترجمة – وليد خالد أحمد
نص – رفائيل باتاي
■ من هو العربي ؟
من بين الحلقات المركزية المتعاقبة – العرب والشرق الأوسط والإسلام – تؤثر الحلقتان الأولى والثالثة بشكل بارز في شعور ووعي الشخص العربي . وبالطبع، فأن العرب مدركون لتأثير الحلقة الوسطى أيضاً . في الحقيقة ، يواجه المرء في الكتابات السياسية العربية الحديثة ، تعبير ((الشرق الأوسط)) ، وقد جرى تبنّي هذا المصطلح وترجمته من اللغات الأوربية ، وبشكل أساسي من اللغتين الإنكليزية والفرنسية ، والذي أنتشر أستخدامه خلال سنوات الحرب العالمية الثانية . ولعدم وجود مصطلح عربي أصلي له ، يشك المرء في أن مفهوم المنطقة ، كمكان لشكل حضاري معين ، موجود في ذهن الشخص العربي.
لقد استخدم مصطلح ((العرب)) في الأزمان التي سبقت ظهور الأسلام للدلالة على الناس الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية والصحراء السورية . ويبدو إن هذا المصطلح موجود أيضاً في المخطوطات الآشورية.
في سنة (854) قبل الميلاد ، التحق القائد العربي (جندبو) مع قوافله المؤلفة من ألف جمل ، بـ (بير – أيديري) في منطقة (أريبي) في دمشق (والذي لم يكن سوى بن حداد التوراتي الثاني) للمشاركة في القتال ضد شيلمنصر الثالث في معركة (كاكار) . وفي هذا الظهور التاريخي الأول للعرب ، كان وجودهم مقروناً بوجود الإبل – من الواضح إنهم كانوا بدواً يرعون الإبل في الصحراء – وخلال القرون الـ(28) التالية ، لم ينفك التلازم بين العرب والصحراء .
إن التشبيه ((كالعربي الموجود في الصحراء)) ، استخدم من قبل (أرميا) (سفر التكوين 7:43) في حوالي سنة (600) قبل الميلاد للدلالة على حقيقة معروفة ومؤكدة. وقبل ذلك الوقت بفترة تتجاوز الـ(مائة سنة)، أشار أسحق (سفر التكوين 20:13) إلى الشخص العربي الذي هاجم خيمته . وهذا يستلزم ضمناً ، وجود استيطان صحراوي بدوي . إن التلازم في المفهوم بين الشخص العربي والبدوي ، كان وسيبقى متقارباً ، حيث غالباً ما يستخدم المؤلف والكاتب العربي كلمة ((عربي)) ليعني بها في الحقيقة ((بدوي)) . وهذا فعلاً هو ما استخدمه ((ابن خلدون)) ، المؤرخ المشهور قبل أربعة عشر قرناً ، وهو ما يشير البدو به لأنفسهم لحد الوقت الحاضر.
إن ظهور الأسلام بواسطة النبي محمد (ص) (570-632) واعتناق الأسلام من قبل العرب وانتشاره في شبه الجزيرة العربية خلال حياته ، كان مؤشراً لبداية التوسع العربي بمقياس كبير خارج الجزيرة العربية والصحراء السورية . واعتباراً من هذا الوقت فصاعداً ، أتخذ مصطلح ((العربي)) معنى ثانٍ: إنه أصبح يشير إلى كل الشعوب ، الذين ، بعد أن تم تحويلهم إلى الأسلام ، تنازلوا عن لغة أجدادهم وتبنّوا بدلها اللغة العربية . وفي نفس الوقت ، فَقَد الفاتحون العرب للبلدان الجديدة ، شخصيتهم القبلية الأصلية واستقروا في تلك البلاد وأصبحوا من مستوطني المدينة . ولقد اختلف مصير اللغة العربية في هذه الأقطار الجديدة من مكان لآخر ، ولكن على العموم ، يمكن القول بأن التمييز الأبتدائي بين الفاتحين العرب والسكان المحليين ، في عدة أقطار ، قد تلاشى تدريجياً . وضمن فترة قصيرة نسبياً ، أصبح السكان العرب هم العنصر الوحيد والمهيمن في منطقة شاسعة في شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا.
لقد حاول مفكرون عديدون ، عرب وغربيون ، للأجابة على السؤال الآتي: من هو العربي ؟ وتتضمن الأجابات عادة ، واحداً أو أكثر من المقاييس الآتية:
العرب هم أولئك الذين يتكلمون اللغة العربية ، ويتأثرون بالثقافة العربية ويعيشون في قطر عربي ويعتقدون (يؤمنون) بتعاليم محمد (ص) ويعتزون بذكرى الأمبراطورية العربية ، وهم أعضاء في أي قطر من الأقطار العربية . إن قليلاً من التأمل أو التفكير ، سيكون كافياً لبيان أن المعيار اللغوي فقط ، من بين هذه المعايير جميعاً ، هو المعيار الصحيح المناسب لجميع العرب ، وليس لأي شخص آخر تقريباً عدا العرب . إن الأشخاص اللذين لغتهم الأم هي العربية ، قد تجري تنشئتهم على ثقافة ليست عربية (مثلاً ، الثقافة الفرنسية في شمال أفريقيا) ومع ذلك فأنهم يعتبرون أنفسهم عرباً ، ويعتبرهم الآخرون كذلك . وقد يعيشون في قطر غير عربي – كالعديد من العرب الذين يسكنون في فرنسا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وفي أماكن أخرى – ومع ذلك فلايزالون عرباً . وقد لايعتقدون بالأسلام – مئات الآلاف من العرب المسيحيين لايعتقدون بالأسلام – ومع ذلك فأنهم عرب بدرجة قوية في مشاعرهم وتوجههم القومي مثل أيّ مسلم عربي . وهناك الكثير من العرب الذين لايعتزون بشكل خاص في ذكرى الأمبراطورية العربية لأنهم شيوعيون أو لأي من الأسباب العديدة الأخرى . وأخيراً ، هناك العديد من العرب الذين هاجروا إلى أقطار أخرى وحصلوا على جنسية جديدة هناك وأصبحوا من منتسبي أمم أخرى ، دون أن يفقدوا ، بسبب ذلك ، هويتهم العربية . وبطريقة مشابهة ، يمكن الإشارة إلى وجود أشخاص وجماعات تتوفر فيهم كل أو معظم الشروط العديدة ومع ذلك فهم ليسوا بعرب ، مثلاً الأقباط المسيحيين في مصر أو اليهود في أي قطر عربي . ولهذا السبب ، وللحصول على تعريف أفضل ، فأننا نميل إلى الأخذ بالتعريف المقترح من قبل ((جبرا إبراهيم جبرا)) الناقد والقاص والشاعر الفلسطيني والذي يقول بأن العربي هو ((أي شخص يتكلم اللغة العربية بأعتبارها لغته وبالتالي يشعر بشعور عربي)).
وعلى أية حال ، فأن العرب لايعتبرون أنفسهم أمماً وشعوباً منفصلة ومتعددة ، يحيون في كيانات سياسية منفصلة ، وهذا الاعتبار هام بالنسبة لقصورهم الذاتي . ومن وجهة النظر العربية ، التي تعزّزت على الأقل لفترة جيل واحد من قبل القادة العرب كافة يؤلف العرب أمة واحدة ، هي (الأمة العربية) ، وأن تقسيم الوطن العربي إلى أقطار متفرقة عديدة هو ظرف وقتي ، يجب التغلب عليه حتماً إن عاجلاً أو آجلاً . وبالنسبة لهذا الرأي النظري أو المثالي ، يعتبر العرب جميعاً أخوة وأبناء لقوم واحد أو أمة واحدة.
وكما في الأسلام ، فأن جميع المتعلمين العرب أو شبه المتعلمين ، يعرفون بأن الأمة العربية تضمّ ، إضافة إلى العرب ، أمماً غير عربية عديدة . وبالطبع ، يعتبر العرب أنفسهم ، العنصر الرئيسي للأمم المسلمة ، وذلك لكونهم مؤسسي الأسلام وناشريه في العالم . ومن وجهة النظر العربية التقليدية ، ينقسم العالم إلى قسمين: القسم الداخلي الذي يؤلف ((دار الأسلام أو بيت الأسلام)) ، والقسم الخارجي الذي يؤلف ((دار الحرب أو بيت الحرب)) . في اللغة العربية ، يكون التضاد بين (البيتين) أكثر وضوحاً ووقعاً مما هو عليه في الترجمة الأنكليزية لأسميهما ، لأن مصطلح ((الأسلام)) في اللغة العربية يحمل دائماً الدلالة الضمنية للكلمة التي اشتق منها وهي: ((سلام)) . لذلك ، بالنسبة للعربي ، فأن معنى الـ(البيتين) يحمل معه ضمناً التضاد بين السلام الداخلي والحرب الخارجية ، تماماً مثلما كان الرومان القدماء يفرضون ((سلامهم الروماني)) على البلدان ((المسالمة)) ويفصلونها بأحجار من الكلس كحدود فاصلة عن الأراضي التي وراءها والتي يسيطر عليها البربريون غير الملتزمين بتطبيق القانون . وبتأثير الهيمنة (السيادة) الغربية وتغلغل التأثيرات الغربية التي لايمكن مقاومتها أصبح مفهوم ((بيت الحرب)) في القرن العشرين مهملاً لايؤخذ به حتى في نظر العرب التقليديين وحتى في نظر رفاقهم في بلدهم من ذوي الثقافة الغربية . ولكن إذا كان ((بيت الحرب)) لاوجود له في الوقت الحاضر ، فأن التمييز بين المسلم والملحد يبقى موجوداً وبشكل حاد . وفي الحقيقة ، وكما لاحظ المستعرب (ليكفورد كيرز) بأنه نتيجة للتورط مع الغرب ((إلى ما يشبه صيغة الأزدراء – (الاستهانة) التي كانت مستخدمة في العصور الوسطى تجاه الملحدين ، والتي أنتشرت حديثاً وبشكل مكثف مثيرة الحسد المسبب للقلق والدفاع عن كبرياء النفس)) . وبأختصار ، من وجهة النظر العربية ، يبدو أن العالم يشبه الفاكهة التي تتألف من ثلاثة أقسام: في وسطها النواة (اللب) ، وهو الجزء الأكثر قيمة: وهذا هو الوطن العربي . ويحيط بالنواة ثمرة الفاكهة ، العالم الأسلامي ، والذي يغلّف منطقة اللب العربي كالستر الحمايوي . وفي الخارج ، يوجد الجلد وهو العالم غير المسلم ، والذي وجوده يبين حكمة الله في الوجود.
والنقطة الأخيرة ، بغض النظر عن الفرق التاريخي بين الوطن العربي والعالم الأسلامي ، فأن العرب غالباً ما يميلون إلى تعريف العروبة بالأسلام وإلى تعريف الأسلام بالعروبة . ويمكن ملاحظة هذا الميل ، ليس فقط بين العرب غير المتعلمين الذين لايتوقع منهم أن يعرفوا الكثير عن وجود المسلمين غير العرب ، ولكن أيضاً بين الطبقة المثقفة العربية . إن كتابات أحد المفكرين العرب المعاصرين البارزين (محمد كرد علي 1876-1953) ، يمكن أن تذكر كنموذج لغياب مثل هذا التمييز. فهذا المفكر السوري البارز ، الذي بقي لعدة سنوات رئيساً لمجمع اللغة العربية في دمشق ، ألّف من بين أعمال أخرى ، كتاباً بعنوان ((الأسلام والحضارة العربية)) والذي نشر في جزئين في القاهرة في سنتي 1934 و 1936. ويتوقع القارئ أن كتاباً بهذا العنوان ، يمكن أن يفرّق بين العرب والمسلمين ، بين الحلقتين الأضيق والأوسع، بين الجزء والكل . وعلى أية حال ، فهذه ليست القضية . ففي الوقت الذي كان فيه كرد علي يبذل جهوداً للتفريق بين ((العربي)) و((البدوي)) فأنه كان متهماً بالاستخدام الذي لايميز بين ((العربي)) و((المسلم)) في عموم الكتاب . وهذه صفة مميزة للدراسات العرقية والتي يواجهها الطلاب العرب الذين يدرسون التاريخ العربي. إن الأسلام أساساً ، هو دين العرب ويبقى بالنسبة لهم معرّفاً بالعرب إلى الحد الذي يصبح فيه من غير الممكن أن يميزوا بين الأثنين ، بالرغم من حقيقة كونهم يعرفون جيداً ، بالطبع ، أن الأسلام قد أحدث تطورات هامة إضافية بالنسبة للعرب.
■ ما المقصود بـ العقل العربي ؟
بعد معالجة مصطلح ((العربي)) ، يجب علينا أن نوضح ماذا نعني بكلمة ((عقل)) أو ((العقل العربي)) . في الحقيقة ، قد يوجه سؤال بصيغة عامة هي ما المقصود بـ ((عقل)) – أي عدد كبير من السكان بشكل أجمالي كالأمة مثلاً ؟ هل أنه أمر مشروع قانوناً على الأطلاق التكلم عن عقل مجموعة أنسانية ؟ أليس العقل هو الجزء الأكثر خصوصية للفرد ، ولذلك فهو قد يكون أصيلاً أو غير أصيل بالنسبة له؟
ابتداءً ، يجب القبول بأن أية عبارة عن عقل السكان ، هي بالضرورة عبارة مجردة . وبصورة ملموسة، لا يوجد إلاّ عقول فردية أو نفوس أو شخصيات أو خصائص ذاتية مميزة للأفراد . ويبقى مع ذلك ، في نفس مجال البحث ، أجسام بشرية فردية ، وقد اعتدنا أيضاً على التكلم عن ((الجسم الإنساني)) وأن يقال لنا عن الأكتشافات الجديدة للخواص غير المعروفة سابقاً لـ((الجسم الأنساني)).
إن الحقائق المجردة التي نسعى لاثباتها عن الجسم أو العقل ، يمكن التوصل إليها بطرق التعميم . فعندما نقول أن الدليل الرأسي (نسبة أقصى عرض للرأس إلى أقصى طول له مضروبة في مائة) للبدو العرب يتراوح بين 72 إلى 75 ، فأننا نلجأ إلى اختزال شفوي للتفسير الكامل والذي قد يكون كالآتي: استناداً إلى القياسات المأخوذة بالنسبة إلى عرض وطول الرؤوس لألف بدوي عربي مثلاً ، يبدو ممكناً التعميم والتأكيد على أن الدليل الرأسي للبدو والعرب يتراوح عموماً بين 72-75.
واستناداً إلى هذا التعميم ، يمكن تباعاً ، وضع الحقيقة التي مفادها أن ((البدو العرب)) (المصطلح نفسه بالطبع هو فكرة تجريدية) هم أناس ذوي رؤوس مستطيلة أو طولية الشكل . وبالمثل ، فأن الفرد عندما يتجرأ ويضع حقيقة عن خصائص عقلية معينة لأية مجموعة بشرية ، فأنه حتماً يقوم بتعميم تلك الحقيقة فضلاً عن قيامه بالتجريد . في كتابات الباحثين النفسانيين الإجتماعيين والأنثروبولوجيين الموجهين (علماء الأجناس) من النادر أن تواجه القارئ تعابير مثل ((عقل المجموعة)) و((العقل العرقي)) وما شابه ذلك . أنهم ، بدلاً من ذلك ، يفضلون استخدام ((الشخصية)) أو ((الصفة)) ويناقشون في دراساتهم ، العناصر العامة الممكن أدراكها في الشخصيات (أو الصفات) للأفراد الذين هم جزء من الوسط الاجتماعي الثقافي.
لقد قام العالم الأنثروبولوجي (رالف لنتون) والعالم النفساني (أبرام كاردنير) بأحدى المحاولات المبكرة لمعالجة معضلة الفرد وخلفيته الأجتماعية الثقافية . أن مفهوم ((أنواع الشخصية الأساسية)) كما جرى تطويره من قبل هذين المفكرين ، يستند على الافتراضات (المسلمات) الآتية:
1- أن الممارسات المبكرة التي يقوم بها الفرد ، تؤثر بشكل دائم وثابت على شخصيته وبشكل خاص على تطوير أجهزة جسمه الأفرازية.
2- تميل نفس الممارسات أو التجارب إلى أنتاج ترتيبات مشابهة على شخصية الأفراد الذين يخضعون لتلك الممارسات.
3- أن الأساليب التي يستخدمها أعضاء أي مجتمع في مجال تنشئة الأطفال والعناية بهم ، يمكن محاكاتها ثقافياً وقد تكون نتائجها متشابهة ، ضمن العائلة الواحدة ، بالرغم من عدم كونها متطابقة بالنسبة للعوائل المختلفة ضمن المجتمع.
4- تختلف أساليب المحاكاة النموذجية ثقافياً لتربية الأطفال والعناية بهم من مجتمع إلى آخر.
إذا كانت هذه المسلمات صحيحة ، ويبدو أنها مسندة بوافر من الأدلة ، فيتبع ذلك:
1- أن أعضاء أي مجتمع معين ، سيكون لديهم عناصر جديدة من التجربة المشتركة.
2- وكنتيجة لذلك ، فسيكون لديهم عناصر مشتركة عديدة في الشخصية .
3- لكون التجربة المبكرة للأشخاص تختلف من مجتمع لآخر ، فأن نماذج الشخصية للمجتمعات المختلفة سوف تختلف أيضاً.
أن نوع ((الشخصية الأساسية)) لأي مجتمع ، هو ذلك الترتيب للشخصية والذي يشترك معه مجموع أعضاء المجتمع كنتيجة للتجارب المبكرة الموجودة لديهم بصورة مشتركة . أنها لاتتطابق مع الشخصية الكلية للفرد ، ولكنها تتطابق مع أجهزة جسمه الأفرازية أو ، بتعابير مختلفة ، أجهزة تقدير القيمة التي هي أساسية بالنسبة لترتيب الشخصية الفردية . لذلك فأن نفس نوع الشخصية الأساسية قد ينعكس في عدة وضعيات مختلفة للشخصية التامة.
وبالرغم من الأحتراس الذي رافق صياغة العبارة المتقدمة ، فبعد سنوات قليلة من نشرها ، وجدت مجموعة أخرى أنثروبولوجية – نفسية ((كلكهورن وموري)) ، أنه من الضروري التحذير بأن: ((المجموعة لاتستطيع الحصول على صفة مشتركة تماماً مثلما هي لاتستطيع الحصول على زوج واحد من الأرجل)) . أن ما يمكن أن يكون مشتركاً بالنسبة إلى المجموعة ، هو ميزة معينة أو مجموعة من مزايا معينة والتي يشير إليها الباحثون النفسانيون الاجتماعيون والأنثروبولوجيون عندما يتكلمون عن الصفة القومية أو الشخصية النموذجية . وبالمناسبة ، فأن المصطلح ((نموذج)) مستعار من علم الأحصاء (حيث يشير إلى القيمة أو العدد الذي يحدث تكراراً على الأكثر في سلسلة معينة) . وهو يبين الشخصية الموصوفة هكذا (أي وفق النموذج) هي الشخصية المتميزة بشكل أحصائي في المجموعة المدروسة ، وليس بالضرورة أن تكون شخصية الأغلبية.
أن الأساس بالنسبة للدراسات الخاصة بالشخصية النموذجية أو الصفة القومية، هو مراقبة الأشخاص الذين يتربون في بيئة مشتركة والذين يظهرون عاملاً مشتركاً قوياً في شخصيتهم بغض النظر عن الفروق الفردية بينهم . أن أية بيئة أجتماعية ثقافية ، تؤثر في الأشخاص الذين يترعرعون ضمنها بالآثار الخاصة بها: بقيمها ونماذج تصرفها والعديد من الأفعال وردود الفعل المقبولة والمؤيدة ، فضلاً عن الحاجات والأهداف المحددة ثقافياً. وخلال فترة الطفولة ، يضفي الشاب في مجتمعه بصورة تدريجية صفة ذاتية على القواعد (الحاجات أو الضرورات) المعنوية لبيئته الأجتماعية المغروسة فيه من والديه ومربيه ومعلميه ورجال الدين والأشخاص الآخرين في موضع السلطة . وفي عمر مبكر ، ولأجل أن يأخذ هذا الغرس مكانه من خلال القنوات الخاصة به ، يستخدم الأغراء للحصول على المكافآت بالنسبة ((للأعمال الجيدة)) المطابقة للسلوك والعقاب أو التهديد بأستخدام العقاب بالنسبة ((للأعمال الرديئة)) غير المطابقة للسلوك . وبعد عدد من السنين ، يصبح نظام المكافآت والعقوبات قادراً ، بدرجة كافية ، على أضفاء صفة ذاتية (أي دمجها في النفس) لتطوير ((الأنا العليا الفرويدية)) ، والتي تستلم زمام القدرة وتستمر على العمل الذي أبتدأ من مصادر خارجية . وبهذه الطريقة ، سوف يصبح الشخص الذي يزود بالثقافة ويكيف وفقاً للحاجات الأجتماعية ، الممثل الصحيح لبيئته الثقافية والأجتماعية ، وعضواً في تلك المجموعة المتفوقة عددياً ، والذي يؤلف الشخصية النموذجية . لذلك فأنني أتجرأ وأعرف الصفة القومية بأنها : المجموع الكلي للحوافز والميزات والمعتقدات والقيم المشتركة من قبل الجميع (الأغلبية) في شعب قومي. ولكون شخصية الأغلبية في شعب معين ، يمكن أن تعتبر شخصية نموذجية ، فيظهر أن الصفة القومية يمكن مساواتها بالشخصية النموذجية.
وفي نفس الوقت ، يمكن الأتفاق مع أولئك الذين يصرون على التمييز بين الصفة القومية والشخصية النموذجية ، والأفتراض بأن المصطلح الأول ينبغي أن يستخدم كمفهوم أكثر عمومية ، بينما ينبغي تطبيق المصطلح الثاني على مجموعات أكثر تحديداً وبنطاق ضيق . وفي أي شعب ، وخاصة في المجتمعات الصناعية المعاصرة ذات المستوى العالي والتنوع الواسع للقطاعات المكونة لها ، قد توجد عدة تراكيب للشخصية النموذجية. وهذا يعني أن الصفة القومية تتألف من المجموع الكلي لتركيب الشخصية النموذجية الموجودة في الشعب القومي.
فالمعضلة أذن ، تصل إلى مسألة التجانس الثقافي . وفي أي شعب يتألف من مجموعات ثقافية متميزة أو مجموعات عرقية . أن كل هذه المجموعات ، يمكن أن تكون هدفاً لدراسة شخصيتها النموذجية التي يمكن أن تتحقق بواسطة التجربة والاختبار.
وعندما نأخذ مثالاً من أطراف الوطن العربي ، نجد بدون شك ، نموذجين مختلفين من نماذج الشخصية: النموذج الأول هو العربي في الشمال ، والنموذج الثاني هو الزنجي جنوب جمهورية السودان.
في الحقيقة ، أن الفرق بين الشخصيتين النموذجيتين واضح وجلي ، إلى درجة أن الباحث يكون في موقف صعب أذا ما حاول أن يصنف الشخصيتين تحت عنوان واحد للصفة القومية السودانية.
ومن الناحية الأخرى ، إذا كان الشعب القومي موضوع البحث متجانساً بدرجة مناسبة بقدر ما يتعلق الأمر بالتركيب العرقي ، سنجد أن الشخصيات النموذجية لعينات من مجموعتين أو أكثر ستكون متشابهة بدرجة تكفي لضمان الأستقراء من هذه العينات للتوصل إلى صفة الشعب القومية أخيراً . وكتقدير تجريبي تمهيدي في هذا المجال ، يمكن للمرء أن يبين أن العرب المسلمين ، الذين يؤلفون الغالبية العظمى المهيمنة من السكان في العالم العربي ، هم بالتأكيد أقرب إلى هذا النوع المتجانس من الترتيب الثقافي والشخصية ، بدلاً من التفرق المشار أليه في الفقرة المتقدمة.
أن مفهوم الصفة القومية – مع التحديدات والمؤهلات المبينة – كأداة للتحري العلمي وكأسلوب لوصف الناتج الأجتماعي – الثقافي الكبير ، يتعزز بحقيقة أن فكرة الصفة القومية موجودة ، ولو بشكل غامض ، في شعور المجموعات القومية نفسها . وبأنتشار القومية في كل أجزاء العالم ، أكتسب الناس في كل مكان عادة التفكير بأنفسهم كأعضاء من أمة ومشاركين في صفات قومية معينة . وحتى المجموعات الأقلية ، أظهرت بوضوح ، ميلاً متنامياً لأبراز أنفسهم كمجموعات قومية ، مكونة أمة منفصلة ضمن كيان سياسي أكبر ، وهو الكيان الذي يعيشون فيه.
وبالنسبة للعرب ، فأن أفضل العقول ، فضلاً عن الناس البسطاء الموجودين بينهم ، كانوا ومازالوا ، مراقبين ماهرين للمحافظة على صفتهم القومية الشاملة . وعندما يقرأ المرء كتاب (المقدمة) أي (مقدمة إلى التاريخ) لـ (أبن خلدون) والذي كان بدون شك النابغة المؤرخ الأكبر في زمانه ، فضلاً عن كونه أكبر نابغة أنتجته العرب على الأطلاق – يتأثر المرء مرة وأخرى بملاحظاته عن صفة العربي ، والتي تضيف صورة حقيقية إلى الصفة القومية للعربي منظورة من موقع ذي أفضلية لمؤرخ يستطيع أن ينظر إلى الخلف بثاقب فكره عبر سبعة قرون من التاريخ العربي.
أن مقتطفات موجزة قليلة ، كافية لبيان الرأي الخلدوني عن بعض ملامح الصفة القومية للعربي . ولكن يجب على المرء أولاً أن يضع نصب عينيه دائماً بأنه لما أراد أبن خلدون أن يستخدم أسم ((العرب)) فأنه كان يشير أساساً إلى البدو أو العربي البدوي ، وأنه لم يكن كلياً ” متحرراً ” من الميل العام للمفكرين في التحري عن مثالب مواطنيهم وأظهار عيوبهم بدلاً من مدحهم وأطرائهم.
تحت عنوان ((العرب يتمكنون من السيطرة فقط على الأرض المسطحة)) ، يوضح أبن خلدون ، ((وهذا بسبب طبيعتهم الهمجية [العرب] وهم أناس ينهبون ويحدثون الأضرار … وأخيراً حضارتهم [أي حضارة أولئك العرب الفاتحين] أنطمست …)) . وفي الفصل التالي ، والذي عنوانه ((الأماكن التي خضعت للعرب ، دمرت بسرعة)) ، يوضح أبن خلدون (( أن سبب ذلك [العرب] أمة متوحشة ومعتادة تماماً على ممارسة الهمجية وعلى الأشياء التي تسببها . لقد أصبحت الوحشية صفتهم وطبيعتهم . أنهم يتمتعون بها لأنها تعني التحرر من السلطة وعدم الخضوع للقيادة . ومثل هذا الترتيب الطبيعي ، هو النفي والتناقض بالنسبة للمدينة)) . وربما أن الشيء الأكثر جدارة بالملاحظة ، هو النظرة الثاقبة لأبن خلدون في سيكولوجية المغلوبين على أمرهم والتي استند فيها على ملاحظاته للشعوب التي استولى عليها العرب ، والتي تصح أن تبقى ملحوظات فاعلة بالنسبة للعرب أنفسهم بعد استسلامهم للهيمنة الأستعمارية الأوربية . وكان عنوان الفصل الذي عالج فيه أبن خلدون هذا الموضوع هو: ((المقهورون يريدون دائما أن يقلدوا المنتصر في علاماته المميزة ولباسه واحتلاله وظروفه وعاداته الأخرى)) . وبعد ذلك ، يضيف أبن خلدون ملامح أخرى عديدة لصورته المرسومة عن الصفة القومية العربية . ويقول: ((أن العربي يتمكن من الحصول على السلطة بأستخدام بعض مظاهر التلون الديني مثل النبوءة أو القداسة أو بعض الأحداث الدينية الكبيرة بشكل عام . والسبب في ذلك هو همجيتهم ، وأن العرب هم أقل الأمم تقبلاً لأخضاع أنفسهم إلى بعضهم البعض وذلك لأنهم غير مهذبين ومتكبرين وطموحين ومتلهفين إلى القيادة)) .
وفي الوقت الذي تشير فيه ملاحظات ابن خلدون أساساً إلى ((العرب البدو)) ، فأن تلميذه (تقي الدين احمد المقريزي 1364-1442) ، الأكثر تفوقاً بين المؤرخين المماليك ، وهو مصري ، يناقض ببعض التفاصيل، صفة مواطنيه . ويقول : ((أن الشخصية المصرية تتصف بالتقلب والتردد والتراخي والجبن والقنوط والجشع ونفاذ الصبر وأزدراء الدراسة والخوف والغيرة (الحسد) والأفتراء والكذب والاستعداد لأتهام الآخرين أمام الحاكم وأدانتهم ؛ وبأختصار ، أن أساس صفتهم ، يتألف من أكثر المثالب والأخطاء جدارة بالازدراء والناتجة عن دناءة وخسة النفس . ليس المصريون جميعهم بهذه الصفات ، ولكن المرء يلاقي هذه العيوب موجودة بين معظمهم)).
وبعد بضعة صفحات ، يعود (المقريزي) إلى الموضوع ويضيف بعض الصفات إلى الوصف الذي لايتميز بالمداهنة للشخصية المصرية ويقول:((أن الشيء الذي يهيمن في شخصية المصريين ، هو حب اللهو والميل إلى الاستمتاع وحب الأمور التافهة (المزاح أو السخرية أو العبث أو تضييع الوقت والمال) والاعتقاد بالأشياء المستحيلة والضعف في الحلول وأتخاذ القرار . أنهم يميلون بشدة إلى المكر والخداع ؛ أنهم منذ ولادتهم متفوقون فيها وماهرون جداً في استخدامها ، لأنه يوجد في شخصيتهم أستعداد للمداهنة والتملق ، يجعلهم سادة فيها أكثر من جميع الشعوب الذين عاشوا قبلهم أو سوف يعيشون بعدهم)).
وفي مكان ثالث ، يكرر (المقريزي) بعض النقاط التي بينها في المقتطفات المتقدمة أعلاه ، ويضيف بأن المصريين يتميزون بـ((غياب الرؤية أو التأمل)) ويسجل أيضاً بأن ((شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون ، قال لي: ((أن المصريين يعملون دون تخطيط ، كما أنهم لايقدمون أبداً كشفاً بحسابهم)) . وتجاه هذه القائمة الطويلة من الصفات السلبية ، لايجد المقريزي سوى صفتين أيجابيتين في الشخصية المصرية: أنهم لايغارون من زوجاتهم ، وأن أولئك الذين يعيشون منهم في المدن المطلة على البحر ، يتميزون بكونهم ذي طبيعة نبيلة هادئة ، والتي يعزيها إلى تأثير الرطوبة.
أن التعميمات الاستقرائية العربية في العصور الوسطى حول شخصية الشعب، مثل التعميمات المفروضة من قبل ابن خلدون والمقريزي ، تستند على الملاحظة الشخصية أو العبارات الصادرة عن سلطات مختصة . وعلى أية حال ، فأنها تمثل محاولات لوصف صفة المجموعة وذلك بتعداد الصفات التي يمكن أدراكها الواحدة بعد الأخرى . ويقابل هذه الأفكار ، الحكمة الشعبية العربية التي يعبر عنها بالأمثال والأقوال العديدة ، والتي تتناول عادة صفة خاصة واحدة وتعتبرها من خصائص العرب عموماً ، أو من خصائص قسم معين من الشعب العربي ، وتقدمه في عبارة بأسلوب تأكيدي ملفت للنظر . ويكفي أن نذكر أمثلة قليلة من هذا النوع من الوصف الشعبي للخصائص العربية . أن أحد الأمثال الذي نستشهد به ، موجود حالياً في نصوص مختلفة في العديد من الأقطار العربية ، وهو: ( أنا وأخوتي ضد أبن عمي ، وأنا وأولاد عمي ضد الغريب)) أو ((ضد العالم)) . ويعتبر هذا المثل ، تعليق جاد على السمات العربية الدالة على التماسك العائلي والولاء الطبقي . ومثل آخر سائد في سوريا ولبنان يشير إلى كبرياء العربي: ((حتى أذا شاهدت دودة الجوع تخرج من فمي ، فلن أحط من قدر نفسي)) أي لا أطلب المعونة من أحد. ومثل آخر يعكس كره العربي للسلطة: ((لاشيء يذل أو يخزي الأنسان كالخضوع إلى سلطة شخص آخر)) . أن أهمية الأحترام الذاتي وحفظ الوجه فضلاً عن الاستقلالية ، يجري التأكيد عليها مرة وأخرى في الأمثال العربية: ((مر أمام عدوك وأنت جائع ، ولاتمر أمامه وأنت عرياناً)) . ((أعمل أيام الأحد والعطلات ، ولاتكن بحاجة إلى أخيك الغني)). ((من الأفضل أن تموت بشرف بدلاً من العيش بذل)) . ((كن قنوعاً بقطعة من الكرفس البري ، ولكن لاتذل نفسك ، آه ياروحي!)) . ((أحلق ببلطة ، ولكن لاتكن مجبراً للأستعانة بشخص آخر)).
ويوجد الآلاف من هذه الأمثال في الوطن العربي ، والتي هي أما أن تعلق على سمة عربية معينة وتدعو إلى القيام بفعل معين أو رفض الامتثال لفعل آخر . وتعطي هذه الأمثال ، نظرة شعبية فاتنة عن السمة العربية وتضع نظام القيمة العربية كما يطبق على السلوك الشخصي.
أن وجود شيء بمثابة ((العقل)) للكيان القوي ، أكتشف من قبل مفكر عربي واحد على الأقل في نفس الوقت تقريباً الذي راج فيه هذا المفهوم في الغرب ، وربما قبل ذلك الوقت . وكان ذلك المفكر العربي هو ((طه حسين)) الذي كان يدعي ((على الأرجح ، المفكر – الأديب الرائد ، عميد الأدب العربي) . ولقد بحث طه حسين في هذا المفهوم في كتابه الموسوم ((مستقبل الثقافة في مصر)) المطبوع في القاهرة سنة 1938.
في هذا الكتاب ، يطرح طه حسين ، السؤال الآتي: هل أن العقل المصري -أنه هنا يستخدم المصطلح العربي عقل- شرقي أم غربي بدلالة تكوين مفهومه والإدراك الحسي والقدرة على الفهم واستخدام ملكة التمييز لأصدار الأحكام ؟ وكان جواب طه حسين ، أنه غربي لأنه كان في الماضي جزءٌ من العقل في حوض البحر الأبيض المتوسط ، ولذلك فهو ينتسب إلى العقل الأوربي.
وبالرغم من كافة المظاهر السابقة ، وحتى في العصر الحديث ، فأن مصر اتخذت أوربا نموذجاً لها في جوانب الحياة المادية كافة ، كما أن حياتها المادية بالذات هي أوربية بشكل مجرد . وجميع الدلائل تشير إلى أن مصر تتطور نحو الألتحام التام مع أوربا.
وكان طه حسين مولعاً باستخدام مصطلح آخر ، يوازي بدرجة قريبة من المصطلح الانكليزي للشخصية القومية . أنه يتكلم عن ((شخصية مصر)) ويؤكد على أنها قادرة على الاحتفاظ بهويتها الكاملة بالرغم من الهيمنة والضغوط التي تمارسها ضدها الأمم القوية العديدة . لقد تكونت شخصية مصر بواسطة موقعها الجغرافي غير القابل للتغيير فضلاً عن عوامل أخرى ظلت ثابتة . وأذا كانت هذه هي الحالة ، فينبغي على مصر أن لاتخف من تأثير الثقافة الغربية وأن لاتقلق على تعرض شخصيتها أو هويتها القومية إلى الخطر.
قد يتوقع المرء أن شعباً حساساً بهذه الدرجة بالنسبة لسمات شخصيته القومية يكون مدركاً للفروق الموجودة بين قطر عربي واحد وآخر ، كما هو الحال بين عناصر الشعب الواحد المختلفة في نفس القطر . وفي الحقيقة ، هذه هي الحالة السائدة . وأن المعروف جيداً ، هو النمط البدوي الذي يعتبر الفلاح ، أو الزارع العربي ، عبداً للأرض . وساكن المدينة يرى في الفلاح ، نمطاً خاصاً ومختلفاً ؛ أنه أبكم وتابع وحيوان للحمل وقابل للتعلم. وهو كذلك كسلان وجدير بالازدراء ومتملق وغبي وشرير ؛ أو ، وفقاً لوجهة النظر الخبرية ، هادئ ولطيف وقنوع بما لديه وسعيد ومقر بالجميل وعامل مجد ومخلص وأن الفلاح نفسه ، عارف بأن الصبر هو أحد سمات الشخصية الذي يجعل حياته محتملة ويمجدها في أمثال عديدة: ((الصبر يهدم الجبال)) ، ((لاشيء يفقد مع الصبر)) ، ((الصبر جميل)) ، ((الأنسان الصبور يحصل على الحرية)) ، ((الله مع الصابرين)) . ونادراً ما عبر عن رأيه بالنسبة إلى البدوي والساكن في المدينة لأنه يخشى من الأول وغالباً ما يكون معتمداً على الثاني (بأعتباره سيد أرضه) . ومع ذلك ، فهناك مثل يسخر من البدوي: ((كل شيء عبث بالنسبة للبدوي)).
كما لا تعتبر ، ملاحظة الفروق في الشخصية القومية بين قطر عربي واحد وآخر ، تطوير جديد في الوطن العربي . وفي الحقيقة ، علق المراقبون العرب الأذكياء على هذه الفروق منذ عدة قرون قبل أن يصاغ مفهوم الشخصية القومية في الغرب . وقد نسب المقريزي مثالاً كلاسيكياً إلى (كعب الأحبار) ، أحد أصحاب النبي محمد (ص) . وقد صيغ المثال على شكل حكاية نادرة ، ولكن مضمونها واضح جلي: ونقل عن كعب ، أن الله عندما خلق جميع الأشياء ، أعطى لكل منها صاحب أو مرافق . ((أنني ذاهب إلى سوريا)) قال العقل أو الصواب، ((أنني سوف أذهب معك)) قال العصيان . وقالت الوفرة أو الغزارة ((أنني ذاهبة إلى مصر)) ؛ ((سوف أصحبك)) قال الأذعان . وقالت الفاقة أو الندرة ((أنني ذاهبة إلى الصحراء)) فقالت الصحة ((سوف أذهب معك)).
وبنقل هذا الحوار مرحلة أخرى ، يستمر المقريزي بقوله: ((عندما خلق الله العالم ، فأنه خلق أيضاً عشرة أنواع من سمات الشخصية: الأيمان والشرف والشجاعة والعصيان والكبرياء والرياء (النفاق) والغنى والفقر والتواضع والبؤس . قال الأيمان ((سوف أذهب إلى اليمن)) ؛ فقال الشرف ((سوف أرافقك)) وقالت الشجاعة ((سوف أذهب إلى سوريا)) ؛ فقال العصيان ((أنني سوف أذهب معك)) . وقال الكبرياء ((انني سوف أذهب إلى العراق)) ؛ فقال الرياء (النفاق) ((انني سوف أذهب معك)) ، وقال الفقر ((سوف أذهب إلى داخل الصحراء)) ؛ فقال البؤس (الشقاء) ((أنني سوف أذهب معك)).
وكما يمكن أن يظهر من مقتبسات المقريزي هذه ، فأن العرب المتعلمين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ، كانوا مدركين بشكل جيد ، ليس فقط بالنسبة لوجود السمة القومية العربية ، ولكن أيضاً بالنسبة إلى فروق السمة القومية بين الشعوب العربية الساكنين في أقطار مختلفة . وإلى حد الوقت الحاضر ، فأن فروق السمة القومية بين الشعوب العربية ، تسبب أحدى الصعوبات الرئيسية بالنسبة لأي شخص يحاول أن يصور العقل العربي . أنه يبدو عدم وجود شيء يعني ((العربي)) بشكل مجرد . فالعربي كان ومايزال منذ عهد المقريزي على الأقل ، يخصص تبعاً لأسم القطر الذي ينتسب إليه ، فمثلاً عربي عراقي وعربي سوري ، وماشابه ذلك . وقد أدت الإختلافات في الشخصية بدورها إلى خلق نزعات وميول محلية في أقسام عديدة من الوطن العربي والتي غالباً ما تتضارب مع المثل الأكبر والشامل للوحدة العربية الشاملة.
لذلك ، فأن أحدى المعضلات الرئيسية في التعامل مع العقل العربي أو السمة القومية العربية ، هي أن العرب قد أستوطنوا منذ أكثر من ألف سنة ، في منطقة جغرافية أكبر من أية مجموعة عرقية بالمقارنة ، وأن هذا العامل التاريخي – الجغرافي يميل إلى التعبير عن نفسه في فكرتين رئيسيتين في العقلية العربية: فكرة الوحدة العربية الشاملة ، والتي هي قضية طموح ؛ والقومية العربية المحلية المستقلة، والتي هي قضية أهتمام ذاتي واقعي. وبقدر تعلق الأمر بالشخصية العربية النموذجية يتمكن المرء أن يفترض نفس التفاعل بين سمات الشخصية العربية الشاملة العامة وبين سمات الشخصية العربية المحلية الخاصة كما تحدث في المجال الثقافي.
■ دور الدين في تشكيل الشخصية العربية
أن أفضل أسلوب لبحث العنصر المكون للشخصية العربية ، هو بمقارنة دور الدين لدى العرب ولدى الغربيين . حيث تتضح الوظيفة القياسية للدين في المجال الذي ينظم به السلوك اليومي من خلال تطبيق الوصايا الأيجابية والسلبية التي يجب مراعاتها جميعاً.
في الغرب ، وعلى الأقل منذ ظهور الثورة الصناعية ، تقلصت هذه الوظيفة بدرجة معتبرة . فالعقيدة والطقوس الدينية في الغرب ، حتى بالنسبة لأولئك الذين يتبعون المدارك الدينية بدقة شديدة ، لاتتناول إلاّ جانباً واحداً في الحياة ، وهذا الجانب منفصل عن النشاطات والمهن الدنيوية التي تمارس يومياً . لذلك ، فأن الدين أصبح منفصلاً عن الأهداف الدنيوية بشكل أساسي ، ومنفصل كذلك عن القيم التي تؤلف معظم زخم الثقافة الغربية الحديثة . وفضلاً عن ذلك ، فأن معظم الناس ، وخاصة في مراكز العواصم الكبيرة ، لايشعرون بشعور ديني ، أو على الأكثر ، فأنهم فاترون تعوزهم الحماسة ، في موقفهم تجاه الدين ، وأن الدين لاينظم حياتهم . فضلاً عن أن الدين في الغرب ، خسر وظيفته الأساسية بدرجة كبيرة.
ومن الناحية الأخرى -في الوطن العربي وقبل أن تؤثر فيه المفاهيم الغربية- تغلغل الأسلام في حياتهم التي أصبحت جميعها تحت رعايته . ولم يؤلف الدين جانباً واحداً من الحياة ، وأنما كان المحور الذي شعَّ منه الأيمان إلى كل مكان . كل العادات والتقاليد كانت دينية ، وقد شملت الأوامر والنواهي الدينية كل الفعالية والتفكير والشعور.
وما هو أكثر أهمية ، أن جميع الناس في الوطن العربي كانوا متدينين بإحساس مزدوج: بالاعتقاد التام بالتقاليد ، وإطاعة قواعد الطقوس الدينية والتي بها يطوق الدين حياتهم . لقد كان الدين – ولا يزال باقياً بالنسبة للغالبية التقليدية في الأقطار العربية كافة – القوة القياسية في الحياة.
وأما في الغرب ، فأن الدين فقد وظيفته بدرجة كبيرة كقوة داخلية متواصلة . وأن التعبير الأكثر جلاءً لفقدان القوة هذه ، هو أن معظم هؤلاء الناس ، لم يعودوا يؤمنون بأن الله يحمي الأنسان . وبالرغم من الجهود المتواصلة للمبشرين الجريئين لأقناع الأنسان الغربي بأن ((المسيح هو المنقذ)) ، فأن معظم الغربيين لايشعرون بالحاجة إلى الأنقاذ ، بالرغم من شعورهم بعدم الاطمئنان.
ويتكلم (توينبي) عن ((الفراغ الروحي الذي توسع في قلوبنا الغربية بسبب التأثير الفعال المتعفن للأعتقاد الديني والذي أستمر لما يقرب قرنين ونصف القرن من الزمن)) . أن مايتمكن الأسلام أن يضيفه في مقابل ذلك ، يمكن ملاحظته من تعليق (ربيكا ويست) ، حيث أشارت في معرض كلامها عن الشاب المسيحي الذي عمل كدليل لها في يوغسلافيا إلى أنه: كان الصبي المسيحي في أسوا حالة من الفقر ، ولم تبدو عليه القدرة على مواصلة البقاء لأنه كان يفتقر إلى الثروة الروحية التي يمكن ملاحظتها لدى المسلم الفقير جداً . في الوطن العربي ، وفي الشرق الأوسط كله ، لجميع الأديان قوة روحية متواصلة مثل هذه القوة ، وتشترك مع الأسلام في كونها قادرة على أيجاد الأطمئنان النفسي في قول الصدق وأتباع الطريق الحق المستقيم وأستخدام المفتاح الكامل الذي يؤدي إلى باب ((الآخرى الكبرى)) . وكل هذه الممارسات الدينية تفصح عن: الشعور بأن ما يقوم به المرء هو الصحيح ، لأنه يطبق وصايا ديانته ، وأن ذلك المرء سيكون محمياً من داخل نفسه من الأذى الشديد ، لأن الله الذي يثق به المرء يراقب كل فرد وفي النهاية يضع حداً للجزاء العادل في (الآخرة) . وهذا الأيمان الراسخ ، يعطي للمؤمنين الحقيقيين من كل دين وعقيدة وطائفة ، شعوراً بالأمن فوق العادة ، والقدرة على المحافظة على هدوئهم ووقارهم وأرتباطهم ، بدون أن يجردهم من القدرة على البحث والتمتع بالملذات التي يمكن الحصول عليها في هذا العالم الدنيوي .
وبقدر مايتعلق الأمر بالعنصر الديني الخارق للطبيعة ، فأن كلاً من الديانتين المسيحية والأسلامية ، ترسم صورة للألوهية . كلاهما يتفقان بأمكانية وصف الله بنفس الطريقة: أنه سرمدي (أبدي) وخالق الكون والبشر وقدرته شاملة ، وأنه تام الوجود (أي موجود في كل مكان) ، وأن معرفته غير محدودة ، وأنه كريم ورحيم . ويختلفان في أن الأسلام ، كاليهودية ، يصر على أن الله لايُرى ولذلك فأن تمثيل الله على هيئة صورة أو تمثال يعتبر أثم وبالتالي فهو محرم . وأن المسيحية ، وبصورة خاصة الكاثوليكية ، تشجع التمثيل الفني لله . وهناك فرق مهم آخر ، هو أنه على الأقل بالنسبة إلى وجهة النظر المسلمة ، أن المسيحية ليست توحيدية بشكل تام أو دقيق وذلك لأنها تؤمن بوجود ثلاثة أشخاص يشتركون في الألوهية ، بينما يصر الأسلام على الوحدانية التامة والمطلقة لله وحده . وبالنسبة للمسلم ، يرى أن المفهوم المسيحي لله الذي أصبح بشراً وعندما كان بشراً تعذب ومات ، ينبع من الوثنية الصريحة كما يفعل التبجيل والتقديس الكاثوليكي بالنسبة لتماثيل السيد المسيح ومريم والقديسين . وتحت هذا الغطاء الذي يخفي العقيدة الرسمية ، توجد أعتقادات شعبية قديمة تتمسك بها الفئات التي لاتعرف إلاّ القليل عن المعتقدات اللاهوتية الخاصة بدياناتها . ولم يبق في الغرب من هذه المظاهر الدينية الشعبية إلاّ القليل . وكذلك فأن الأعتقاد بالشيطان ، الذي هو أيضاً جزء من العقائد الرسمية لكل من الأسلام والمسيحية ، لم يبق موجوداً على المستوى الشعبي ؛ ولكن لأجل الأطلاع على الاعتقاد الحي بالشياطين والأرواح والعين الشريرة والقوى الخارقة الأخرى للطبيعة والعبادة الحقيقة للقديسين المحليين ، على المرء أن يذهب إلى حوض البحر المتوسط، وهي المنطقة الأنتقالية بين الغرب والوطن العربي.
وفي الوطن العربي نفسه ، تضع الديانة الشعبية تأكيداً على الشياطين . فهناك أعتقاد بوجود عدد كبير من الشياطين والأرواح والجن والعفاريت والعين الشريرة وماشابه ذلك ، فضلاً عن الأعتقاد بالعديد من القديسين وأقامة طقوس العبادة لهم وخاصة عند قبورهم المقدسة حيث يظهرون قواهم الخارقة هناك . وبالنسبة للخصائص المتضاربة للتفكير والشعور الديني في هذا المستوى ، فأن المؤمنين غير ملتفتين إلى أي تضارب بين أعتقادهم بالله الرب الوحيد ، وهذا العدد الغفير من هؤلاء القديسين الذين يعتبرون فوق البشر حسب ما يؤهلهم عالمهم غير المرئي . وهناك تشابه ملحوظ بين المسيحية والأسلام على وجه الحصر ، حيث أن كليهما يتميز بالغيرة الدينية والتعصب الديني والأيمان الراسخ بأن عقائد أيمانه أو بالأحرى المذهب الذي ينتمي إليه الفرد ، هو الصحيح والفعال ، وأن باقي جميع الأعتقادات خاطئة.
وفي الوقت الذي بدأت فيه المسيحية بتكييف مواقفها لهذه الموضوعات ، فأنها كانت في الماضي تعتبر أن من واجب الكنيسة فرض معتقدها على الكافرين بها بالقوة عند الضرورة . وكان لهذا الأجراء نظير أسلامي في عقيدة ((فرض دين محمد بالسيف)) تلك العقيدة التي فرضت على جميع المسلمين أن ينشروا الأسلام بالقوة والسلاح . وعندما تلتقي مثل هاتين العقيدتين ، كما حدث ذلك عدة مرات في القرون الوسطى ، فأن كثيراً من المناوشات تتبع ذلك ، وترتكب كثير من المجازر بأسم ((السيد المسيح)) و((الله الرحيم)) ، وفعلاً كانت مذابح هائلة العدد.
لقد ولت أيام الحروب الدينية بين المسيحيين والمسلمين (بالرغم من أنها لم تكن بين المسلمين والهندوس). وتكافح المسيحية للتوصل إلى أيجاد حل وسط بين المركزية الدينية القديمة والمثالية الجديدة العلمانية. ولحد الآن ، لم يصل الأسلام لئن يكون وجهاً لوجه مع هذه المعضلة . أن القضايا التي يتمسك بها الأسلام ، هي بالأحرى مشابهة لتلك القضايا التي عالجتها الديانات الغربية قبل قرن إلى قرن ونصف: معالجة المعضلات الناجمة عن تعديل القانون الديني المهجور (الشريعة) بالنسبة للظروف المتغيرة للحياة العصرية بشكل أساسي.
أن كلاً من المسيحية والأسلام (وكذلك اليهودية ، الرأس الأساسي لهما) ، تظهر الأنسان بغاية متوازنة . وترى أن الهدف النهائي للحياة البشرية ، يتألف من أمرين: تحقيق الأعتبار الأخلاقي والعيش عيشة هنيئة في هذا العالم (الدنيوي) ، وتحقيق العبودية في العالم الآخر (الآخرة) . وقد تم التعبير عن هذا الغرض المزدوج في القول العربي الشعبي المأثور ((أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ؛ وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)) . وتتمثل الفكرة المتكررة يومياً في الصلوات التي يؤديها المؤمنون من كلا الديانتين إلى الله (أضافة إلى الديانة اليهودية) ، في الألتماس من الله لتأمين ((القوت أو الرزق اليومي)) ، أي المال الضروري الذي يحتاجه الأنسان لأن يستمر في العيش بهذا العالم (الحياة الدنيا) . ومما يلفت النظر ، أن النعم والبركات التي يسعى المرء للحصول عليها بعد الحياة ، في العالم المقبل (الآخرة) ، يعبر عنها أيضاً بمصطلحات مادية في كل من الديانتين المسيحية والأسلام.
في المسيحية ، وبغموض نوعاً ما ، يوصف الوجود الروحي للعدالة في الجنة السماوية بأنه سعادة ولذة دائمية ، مشتقة من الأشعاع الألهي في عالم متألق ، بينما في الأسلام يوصف ذلك الوجود بدرجة أكثر قوة بكونه يشمل التمتع بالجنان ذات الظلال الوارفة والمياه الغزيرة التي تؤمن كل شيء للمتقين ، وبضمن ذلك حوريات الجنة الجميلات والعذارى ذوات العيون السوداء واللواتي يبقين شابات إلى الأبد.
والخلاصة أن الفروق الرئيسية بين الأسلام والمسيحية ، تكمن في الفرق بين الوظائف المعيارية والنفسية؛في نظرتهما للظواهر الخارقة للطبيعة وفي خصوصيتهما وتكييفهما المستند إلى الغائية (أي أن كل شيء في الطبيعة مقصود منه تحقيق غاية معينة) ، فأن الديانتين هما أكثر تشابهاً والتقاء من الاختلاف . وهذا يعني أن الفرق الدقيق ليس عقائدياً ولكن وظيفياً ، وأن ما يخافه المسلم من التأثر بالثقافة الغربية هو ليس أن تلك الثقافة تجعل المتدينين يتركون الأسلام لكونهم يفضلون المسيحية ، ولكن لكون تلك الثقافة تؤدي إلى التقليل من أهمية وظيفة الأسلام إلى مستوى واطئ ، مما يمكن المسيحية من أن تلعب دورها الذي تلعبه الآن في العالم الغربي.
■ أثر مفهوم القضاء والقدر في العقل العربي
أن ((الفراغ الروحي)) في الغرب الحديث ، الذي أنحسر إلى الوراء بسبب ((الأضمحلال المتزايد للحياة الدينية)) والذي تأسف عليه (توينبي) ، حلت محله فكرة الأعتماد على النفس والدافع لفهم العالم . وليس من باب الصدفة ، أن يتضاءل دور الدين أمام الرغبة الملحة الكبيرة لأستكشاف العالم بطريقة منظمة ومنهجية ، والتي هي من الخصائص الأصلية للغرب الحديث.
ومهما كانت عيوب المعالجة العلمية ، فأنها تدل ضمناً على أعتقاد راسخ في أمكانية الأنسان على فهم وتحسين الأشياء الموجودة حوله وضمنه ، وأنها تعبر عن الأعتقاد بأن واجبه الأخلاقي تركيز جهوده للقيام بذلك . وأن ذلك في النهاية ، هو الأساس الفكري والأخلاقي ، والأساس الروحي للثقافة الغربية الحديثة.
وأنه لمن الممتع في هذا الربط ، ملاحظة الكيفية التي ينظر بها المؤلف العربي المسلم إلى العلاقات المتباينة بين الدين والعلم في العالم الغربي الحديث . وقد كرس (أبو الحسن علي الندوي) عدة صفحات لهذا الموضوع في كتابه الموسوم ((ماذا خسر العالم من خلال أنحطاط المسلمين ؟)) . ويقر (الندوي) بأنه لم يحصل التفوق على أوربا في أختراعاتها وأكتشافاتها ، وأنه ليس هناك بأس من الأخذ بالتقدم التقني الحاصل لديها.
وأن الخطأ بالنسبة لأوربا هو أنها تخلط الوسائل بالغايات وذلك بسبب عدم تمسكها بالتعاليم الدينية . وقد أدى ذلك إلى نمو القوة والعلم على الدوام في أوربا ، بينما ظل علم الأخلاق والدين في تدهور مستمر.
((وهذا هو السبب الذي يجعل التقدم في أوربا ، لايؤدي بها إلى شيء سوى الأنتحار . ولكون الحضارة الأوربية متعفنة في جذورها ، فلايمكن أن تثمر فاكهة صحية . ولقد جاء دورها المهيمن بناء على ما ترتب من جراء أنحدار الأسلام)) . وليس هناك حاجة إلى التعليق على النظرة الخاطئة التي ترى التقدم التقني الغربي لاشيء سوى الزيادة في الاستعداد الآلى ، وأن الغرب من الناحية الأخرى جاهل وغير مدرك للقواعد التصورية والأيديولوجية.
وخلافاً لما هو الحال في الغرب ، فأن الوطن العربي لايزال يرى الكون سائراً في المسار المقدر له والمقرر بأرداة الله ، الذي لايقود العالم كله فحسب ، وأنما يحدد كذلك قدر كل أنسان بصورة منفردة . وأن كلمة (الأسلام) بالذات تشير إلى أن الواجب المهيمن المفروض على الأنسان هو اطاعة الله ؛ وهو مشتق من الفعل (أسلم) والذي يعني ((خضوع المرء وتسليم النفس كلياً والأنقياد الذاتي)) . ولذلك فأن ((الأسلام)) يعني أساساً ((الخضوع إلى إرادة الله)).
أن اعتقاد المسلم بالجبرية ، أعتقاد قديم ، قدم الأسلام نفسه على أقل تقدير وأنه قد وجد في القرآن لترسيخه بشكل ثابت . بالنسبة للقرآن ، ليس فقط أن الأشياء جميعها قد خلقت من قبل الله (إنّا كل شيء خلقناه بقدر – الآية 49 من سورة القمر) ، ولكن الله أيضاً (الذي خلق فسوّى – والذي قدر فهدى – الآيتين 2-3 من سورة الأعلى) وأن (كل صغير وكبير مستطر – الآية 53 من سورة القمر) . ولو أن الله قد يؤجل عقاب الشرير (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أُمة معدودة ليقولن مايحبسه . ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ماكانوا به يستهزؤن – الآية 8 من سورة هود) . لذلك فأن الله أمر محمداً بأن يعلن للمسلمين (قل لن يصيبنا إلاّ ماكتب الله لنا ، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون – الآية 51 من سورة التوبة) . وعندما يلتقي المسلمون بالكافرين في المعركة وينتصروا عليهم (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى ، وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً ، إن الله سميع عليم . ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين – الآيتين 17-18 من سورة الأنفال) . وحتى أن أرادة الأنسان خاضعة إلى أرادة الله وهو المسيطر عليها: أن الأرادة ((للسير مستقيماً)) لاتوجد في قلب الأنسان إلاّ بمشيئة الله (وماتشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين – الآية 29 من سورة التكوير) . وفضلاً عن ذلك (أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً ، فإن الله يظل من يشاء ويهدى من يشاء ، فلاتذهب نفسك عليهم حسرات ، إن الله عليم بما يصنعون – الآية 8 من سورة فاطر) . وفي الوقت الذي تكون فيه مثل هذه العقائد المبينة في هذه النصوص قد مهدت الطريق إلى ظهور مناقشات فلسفية وتحليل ومجادلات ضمن الأسلام ، فأن فحواها قد ترشح نازلاً إلى مستوى عامة الشعب بشكل تعميمات مبسطة . ومهما يكن الأنسان أو مهما يعمل أو يحدث له ، فأن ذلك يتم بأرداة الله بشكل مباشر.
أن مثل هذه النظرة المحددة لوجود الأنسان ، كانت موروثاً (يهودياً – مسيحياً) قديماً في الفترة التي عاش فيها محمد . وعلى أية حال ، فأن كلاّ من الديانتين اليهودية والمسيحية في الغرب ، قد تكيفت بدرجة معتبرة، سامحة لأرادة الأنسان أن تلعب دوراً أكثر حسماً . وليس هكذا هو الحال بالنسبة للأسلام ، حيث أن الأرادة المطلقة بالنسبة له ، لاتزال تعتبر أحدى مساهمات الله الفاعلة بأسلوب القانون الذي لايجوز الحيدان عنه . وفي الحقيقة ، أن بعض الطلبة يرون أن هناك توازياً بين عقيدة المسلم المستندة إلى أرادة الله وبين الأسلوب الذي كان يعمل بموجب الطغيان في منطقة الشرق: في كل منهما لايوجد مقياس موضوعي لما هو جيد ولما هو سيء. ((أن مايدعوه الله جيداً فهو جيد ، والفاعل مستقيم ؛ وبالمثل ، فأن مايدعوه الله شراً فهو شر ، وأن الفاعل مذنب)).
وبطريقة مشابهة ، وبشكل مطلق ، فأن الله يقرر شخصية كل فرد . وهذا هو الاعتقاد السائد بين القرويين والنساء البسطاء الآخرين في جميع أقسام العالم العربي إلى الوقت الحاضر . ولايمكن للفرد نفسه ولاللعوامل الخارجية أن تغير صفة الأنسان التي قررها الله ، والتي تبقى معه طوال حياته وتحدد له طريقة خاصة في الحياة . وتحدد الأحداث في حياة الشخص ، بنفس الطريقة تماماً منذ البداية . وأن الأنسان ليس له خياره ولكن: ((عليه أن ينفذ مجرى الحوادث المكتوبة له في كتاب الله بأدق التفاصيل . وحتى في الحياة اليومية ، لايتمكن الأنسان أن يفعل أي شيء لتسريع الأحداث أو التأثير عليها … أنه ليس مفيداً ، وحتى أنه ليس ممكناً محاولة القيام بأي عمل من أجل الحصول على فائدة)). وأن مثل هذه المحاولة لاتحمل معها إلاّ عقاباً بها . كل شيء لايحدث إلاّ وفي ما مقدر له: وليس أي شيء آخر. ((أن الأنسان لايتمكن أن يفعل أي شيء ، سواء لصالحه أم ضده . في الأشياء الصغيرة ، كما في الأشياء الكبيرة ، يكون الأنسان خاضعاً إلى القدر بشكل مطلق … وحتى أفعاله والطريقة التي يعمل بها ، تكون مقررة سلفاً . وأن التسلسل المنطقي لمثل هذا الرأي ، هو أن الأنسان لايملك أرادة حرة ، فضلاً عن انه ليس مسؤولاً شخصياً عن مبادئه الأخلاقية وأفعاله)).
وقبل حوالي (40) سنة ، عبر سكان القرية العربية (أرتاس) الواقعة بالقرب من (بيت لحم) عن نفس الرأي المذكور أعلاه . وقبل حوالي مائة سنة أو مايقارب ذلك ، قام (أدوارد وليم لين) بتثبيت ملحوظات مشابهة في القاهرة . فهو يقول ((يتوقع من المسلم أن ، يؤمن بأرداة الله المطلقة في كل حادثة ، سواء أكانت خيراً أم شراً)). وقد وجد (لين) أن الاعتقاد بالقدر يهيء الأنسان: ((لأن يُظهر في أوقات الشك المحزنة ، صبراً مثالياً . وبعد وقوع أية حادثة مفجعة ، يُظهر درجة من الرضوخ والجلد ، تسترعي الأنتباه ، وتقترب من حالة اللامبالاة ؛ وعموماً ، يكشف عن حزنه بالحسرات والتعجب فقط بقوله ((الله كريم)- وعلى العكس من ذلك ، فأن النساء ينفسن عن مشاعرهن المكبوتة للتعبير عن حزنهن بالبكاء والصراخ المتطرف … وأن نفس الاعتقاد بالقدر ، يجعل المسلم مؤمناً بالتسليم بالنسبة لأفعاله في المستقبل ، أو لأية حوادث أخرى قد تحدث . وهو لايتكلم عن أي شيء ينوي القيام به أو عن أي طرف أو حالة يتوقع أو يأمل حدوثها دون أن يضيف أليها عبارة ((أذا كانت تلك هي أرادة الله …)).
وفي مكان آخر ، يتحدث (لين) عن الصلاة الخاصة التي يؤديها المصريون في ليلة الخامس عشر من شهر شعبان ، حيث يفترض أن قدر كل أنسان بالنسبة للسنة المقبلة يثبت في تلك الليلة . ويقرأ المصلي في بعض صلواته: ((يالله أنت الرب الكريم … أن جعلتني في بيتك (المكان الذي نزل فيه الكتاب) شقياً أو سيء الحظ ، أو زهيداً في رزقي ، فأمح ياالله برحمتك ، بؤسي وسوء حظي وقلة رزقي ، وثبتني في بيتك وأجعلني سعيداً ومتهيئاً للأيمان بك ووجهني نحو الخير …)).
أن العرض التوضيحي الشامل للأعتقاد العربي بالقدر الألهي ومايتبع ذلك من الأعتماد على الله ، يتمثل بالدعاء والأبتهال بأسم الله في المناسبات التي يمكن أدراكها أو تصورها . وإلى الوقت الحاضر ، نجد أن العربي عندما يقوم بأي عمل أو يقول أي شيء أو يسمع أي شيء ، فأنه يبدأ مثل هذا العمل أو يستلم أي خبر بعبارات مثل ((بسم الله)) أو ((الله أكبر)) أو ((الحمد لله)) وأن كل مايشير إلى المستقبل ، وإلى ما يخطط المرء للقيام به أو يأمل أن يحدث ، يتضمن التعبير ((إن شاء الله)) ، وهذا ما يقابله في اللغة العامية الدارجة ((انشاالله)) . وأن التعجب الأكثر انتشاراً عند سماع أو رؤية شيء يثير الدهشة أو الأنفعال ، هو قول ((والله)) . وأن العبارة العربية البسيطة المقابلة للعبارة الأنكليزية ((((Thank you هي ((كثر خيرك)) في اللغة العامية السورية ، وهي الشكل المختصر للعبارة في اللغة الفصحي ((الله يكثر خيرك)). وبالطبع فأن كل رغبة خيرة يراد القيام بها ، تستوجب الأبتهال إلى الله: فعبارة ((الله – أسلمك)) باللغة الفصحى ، يقابلها بالعامية (( الله يسلمك)) وكثير غيرها . ويستشهد على وجود الله في عقل عامة الناس البسطاء ، بكثرة بالدلالات الزاخرة بالمعنى حيث غالباً ما يشار إلى الله وذلك بالقول مثلاً ((أن الله سيوفر لنا)) ، ((الله ينشر خيراته)) ، ((الله يرزق الغلال)) ، ((الله مع الصابرين))، ((الله يعطي كل فرد بقدر)) و ((يقيناً أننا من الله وإلى الله سوف نعود)) ، ((الله هناك)) ، ((اليوم لله وهو الذي يكفله)) ، ((العبد في التفكير والله في التقدير)) . ومن الناحية الأخرى ، يبتهل بأسم الله بنفس الأستعداد والأستجابة في حالة حدوث الخصومات والمشاجرات . وكلما كانت الخصومة أقوى ، كلما كان عدد الذين يطلب من الله أن يلعنهم أكبر . فينتقل المرء من عبارة ((ربي يلعنك)) إلى ((ربي يلعن أباك)) ثم (( ربي يلعن أجدادك !)) وأخيراً ((ربي يلعن دينك)) أو حتى ((ربي يلعن محمدك)). وحتى الذي يرفض أعطاء الصدقات إلى السائل ، فأنه يعبر عن ذلك ببعض المصطلحات مثل ((الله يعطيك!)).
وبالتأكيد ، ليس هناك شك في أن الله حاضر في عقل العربي في جميع الأوقات وأن أصغر حادثة أو فعالية يومية ، يعتقد العربي بأنها مقررة بقرار الله الشخصي.
■ قلة الأدراك / التبصر
أن سمة الشخصية التي لها علاقة وثيقة بالأيمان بالقضاء والقدر ، وهي قلة الأدراك (التبصر) ، وحتماً ، أن الأشخاص الذين يعتمدون على العناية الألهية ، ينبغي أن لايحتاطوا بأنفسهم للأمور وأن لايدخروا الأموال للمستقبل . وبالنسبة للعقل العربي المقيد بالتقاليد ، يعتبر القيام بالتخطيط للمدى البعيد ، أمراً خاطئاً لأن ذلك ، على مايبدو ، يتضمن أن المرء لايضع ثقته في العناية الألهية.
وفي الوقت الذي لايدرك فيه معظم العرب ، قلة تبصرهم في الأمور وأنهم يعزوها بدرجة كبيرة إلى اعتقادهم بالعناية الألهية ، فأنهم يظهرون هذه الصفة في مجالات عديدة من الحياة . ولقد كان قلة تبصر الفلاحين في الأمور المستقبلية ، عاملاً مساهماً في أفقارهم لقرون عديدة . وفي حالات لاتحصى ، كان الفلاح المسكين ، غير قادر على ممارسة السيطرة على عاداته في الأستهلاك والأحتفاظ بنسبة كافية من البذور لموسم الزراعة السنوي المقبل . ولذلك فعندما يحين وقت بذر البذور ، كان عليه أن يستلف البذور من مالك الأرض ومن جيرانه الموسرين . وبالطبع ، يجب أن يسدد الفلاح هذا القرض في موسم الحصاد وبفائدة باهظة ، وأن مايتركه للفلاح من غلال ، لايكفي حتى لأطعام عائلته خلال السنة الزراعية.
أن نفس قلة التبصر هذه ، جعلت من الممكن أدامة نظام (المشاعة) بين القرويين العرب في ساحل البحر الأبيض المتوسط لقرون عديدة . وكان هذا النظام يتألف من أن الملكية العامة للأرض تكون لجميع العوائل المستقرة في القرية الواحدة، ويجري التخصيص الدوري لقطع الأراضي سنوياً أو كل سنتين مرة واحدة وبواسطة القرعة . وقد أدى نظام (المشاعة) هذا إلى تدهور الأرض ، لأن الفلاح الذي له مجرد حق الأنتفاع بقطعة من الأرض لمدة سنة أو سنتين ، لايتشجع للقيام بأي جهد لتحسينها ، وبدلاً من ذلك ، فأنه يستثمر الأرض إلى أقصى قدرتها ويتركها مرهقة تماماً إلى الشخص التالي والذي يعمل نفس الشيء خلال فترة حيازته لها.
أن أي أجراء لبعد النظر ، يمكن أن يقنع القرويين على إلغاء هذا النظام وفرض الأفراز (أي التقسيم الدائمي للأرض) والذي قد يجعل كل مالك قادراً على تحسين أرضه وجعلها تنتج أغنى الغلال . وبدلاً من ذلك ، فأن الفلاحين انتظروا لحين قيام الحكومة العثمانية بأخذ زمام المبادرة وتقديم مايسمى ((بالتحسين)) وذلك في فترة الستينات من القرن التاسع عشر . ولكن حتى بعد تقدم نظام الأفراز البطيء جداً في سنة 1917 ، فأن حوالي
70% من أرض القرية كانت لاتزال خاضعة لنظام (المشاعة).
ويعبر عن قلة التبصر لدى العرب ، بالصرف المسرف وغير المتكافئ في الأعياد والأفراح كما يجري مثلاً في حفلات الختان والأعراس . ولاتعتبر المصروفات السخية في مثل هذه المناسبات تبذيراً حتى بالنسبة للذين يمارسون أختزان المال . وبالأحرى تستند هذه الحالة إلى القناعة المعتادة بالاكتفاء بالقليل المتيسر وبدون التفكير بالاحتفاظ بما يدخر لوقت الحاجة . ولقد لوحظت هذه الصفة منذ القرن الخامس عشر من قبل المؤرخ العربي الكبير (المقريزي) ،الذي ذكر بأن ((جانباً واحداً من الشخصية المصرية ، لايحمل نفسه على الأهتمام بالمستقبل . أنه لايدخر المؤن مثل سكان الأقطار الأخرى ؛ كل منهم يذهب إلى السوق يومياً ، في الصباح والمساء ، للبحث عن الزاد)) . وفي الوقت الذي يتكلم فيه (المقريزي) في هذا المقطع من كلامه عن المصريين ، فأن العرب من الأقطار الأخرى يشاركون المصريين في هذه الصفة بدرجة كبيرة . ((أن التاريخ والأدب زاخران بالقصص والحكايات عن الكرم المفرط والأسراف الجسيم)).
وتوجد حالياً أمثال عديدة في الوطن العربي ، تعبر عن القناعة بعدم جدوى قيام الأنسان بأعداد الخطط وبذل الجهود لتأمين أحتياجات المستقبل . فهناك مثل سوري – لبناني ، يذكر بصراحة أن: ((الأدخار إلى يوم الغد يعود إلى يوم الغد)) ، بينما هناك مثل آخر ينصح بـ ((لكل لحظة قرارها)) . وفي نفس الأتجاه أو الميل ، يقال في المملكة العربية السعودية ((الحذر لايغلب أرادة القدر)).
وأن وجهة النظر الأسلامية التقليدية ، تدعم بدورها قلة التبصر العربية حيث تعتبر الأموال الدنيوية خطرة لأنها تؤدي إلى الجشع ، ولأن الثروة تكون مصحوبة بالأغراء: ((أن الاستجابة والخضوع وذكر الله ، عوامل تجعل الفقر ذا مساعدة كبيرة تجاه أدراك العبودية لله … فالأنسان الغني مرتبط بهذا العالم بروابط أقوى بكثير من تلك التي تربط الفقير . وأن حصول المرء على نصيب له في هذا العالم ، شبيه بتأسيس تهديد لنصيبه في العالم الآخر.
وأن الفقر ، وخاصة عند تفضيله لأجل الحصول على الأطمئنان الذاتي ، يجعل ثقة الأنسان بالله تامة . وليس مطلوباً من الأنسان أن يقلق بالنسبة إلى تأمين رزقه . فالله الذي خلقه ، هو أيضاً سوف يؤمن له الرزق)).
وفي الوقت الذي يطمح فيه القليل من المسلمين إلى التخلي عن هذا العالم وهجره ، وأن أقل منهم قد حقق ذلك فعلاً ، فأن معظمهم قد أستوعب مايكفي من التعاليم الأسلامية للنظر إلى الحياة الأنسانية على أنها مكونة من قسمين: الحياة الدنيا أو الحياة في هذا العالم ، والحياة بعد الممات في الآخرة أو العالم الآخر . ولذلك ، فأن الثقة بالله تعني أن المرء يعتقد بأن الله يمنح النعم المادية في هذه الحياة ويجازي غير المحظوظين ، ولكن بأستحقاقهم للنعم ، بعد هذه الحياة . ولهذا فأن الأفراد الذين لايستطيعون الحصول على حياة جيدة في هذا العالم ، يجب أن ، يضعوا نصب أعينهم ، أن النعم الدنيوية هي في الحقيقة عبء لاقيمة له ، وأن الأحراز الحقيقي بالنسبة للأنسان هو التُقى (البر) وصفاء الروح والاعتماد على الله . وأن أسمى مايحصل عليه الأنسان هو الشيء الذي يعود عليه بالصفات الأخلاقية الحميدة ، بالرغم من أن الطريق لتحقيق ذلك ، يكون من خلال مراقبة الطقوس الدينية وخاصة تلك المصنفة تحت أعمدة الأيمان الخمسة: ((الاعتراف بوحدانية الله والصلاة والصوم وأعطاء الزكاة والحج)) . وبالنسبة للجماهير الغفيرة من الفقراء العرب ، حيث الكثير منهم يعيش في فقر غير معروف في عالمنا الغربي يعتبر الأسلام بمبادئه المعنوية والروحية ووعده الكبير في المجازاة في المستقبل ، مصدر قوة وقيمة نفسية عالية لاتثمن.
أن الحياة ، المحمية بالدين ، بكل صروفها وحرمانها تقيم من زاوية أوسع ومن منظور طويل المدى: أن الأقامة القصيرة على هذه الأرض ، تبدو كأنها النصف الأقل من الوجود الكلي برمته ، وأن أساسياته ونهاياته تقع في اللانهاية . وأن هذه النظرة الروحية ، تؤمن هدوءً ورباطة جأش وسلاماً للعقل وتحفظه حتى في مواجهة المصائب والتي غالباً ما تدهش المراقبين الغربيين . لكن الأيمان بالجبرية عنصر أساسي لايمكن الأستغناء عنه في كل ذلك.
وبقدر تعلق الأمر بالشخصية العربية ، فليس هناك شك في أن نفس الأعتقاد بالجبرية أو بالقدر والذي يشار أليه بكلمة ((القسمة)) أو ((نصيب)) أو كلمة ((بخت)) المأخوذة عن اللغة الفارسية أو بمجرد القول ((مكتوب)) يولد تأثيراً تكوينياً معتبراً . أنه يمنح العقل العربي الهدوء والأتزان في مواجهة المصائب والرضوخ المبرر لأي شيء قد يحدث ، وبالقناعة بمكانة وظروف الفرد والتي تجعل الشدائد والمخاطر والحرمان المحتواة في الأنسان العربي الأعتيادي أسهل في تحملها وتقبلها. ومن الناحية الأخرى فأنه يتخذ موقفاً سلبياً وعدم رغبة لبذل الجهود لتغيير أو تحسين الأشياء . وبشكل خاص يحاول منع بذل الجهود ذات المدى الطويل والتي تتطلب تخطيطاً متقدماً ، لأن أية فعالية مثل هذه الفعاليات ، قد تصبح قريبة بشكل خطر ، من التمرد ضد الله وأرادته كما تظهر في نظام وجود الأشياء.
أن هذا التوجيه المحكم ، يجعل العربي يميل إلى التنصل من المسؤولية لتحسين وضعه أو تأمين مستقبله، وكما أشارت إلى ذلك (سانيا هامدي): ((يعزى العربي ، العلل التي تصيب مجتمعه وأخطاءه أخفاقاته أما إلى القدر أو الشيطان أو الاستعمار . وحينما يلام على سلبيته أو فساده ، فأن الجواب لهذا الأتهام هو أنه مجبر على ذلك بسبب عامل لايتمكن من السيطرة عليه ولايستطيع أن يقوم بأي شيء تجاهه . وأن هذا الرفض لاتخاذ المسؤولية في المواقف التي تصادف العربي في حياته وبيئته ، تزيد من ضعفه وتشجع على أستسلامه ، كما لو أن القدر قد أمر بالعمل ضده وليس لأجله)).
وبالطبع ، فأن هذا الموقف يسبب صعوبات معتبرة عندما يتعلق الأمر بالتصنيع والتمدن (مواكبة روح العصر ومقتضياته) . ومع ذلك ، وتمشياً مع الرأي القائل بوجود شيء غير ملائم عند اتخاذ أجراء من قبل المرء خشية أن يكون عمل المرء ضد أرادة الله ، يجد المرء في الحياة اليومية جميع أنواع الجهود لتغيير موقف موجود فعلاً ومنع حدوث شيء يخشي المرء من حدوثه والقيام بأيجاد حوادث يرغب المرء في حدوثها ، والعمل بعدة طرق تبدو لنا أنها متضادة منطقياً مع الاعتقاد بالجبرية . وتبذل الجهود بأستمرار من أجل أقناع الناس لأظهار الشفقة والقيام بالأصلاح بين الناس وأكرام الذين يتعرضون إلى الأهانة وما شابه ذلك . كل هذا ، بالرغم من الاعتقاد المتكرر بأن كل عمل يقوم به الأنسان مقدر مسبقاً فعلاً ، وأنه قد كتب في كتاب الله بعد أربعين يوماً من خلق الفرد.
وليس مستغرباً ، أن تؤثر النظرية الجبرية المؤيدة عموماً ، في مستوى واحد من الشعور بينما يحدد السلوك اليومي في مستوى مختلف.
ومن الأمور ذات الاهتمام الخاص في هذا المجال ، هي الأعتقادات وممارسات السحر والشعوذة والمنتشرة غالباً بين القرويين في جميع الأقطار العربية. ويبدو للمراقب الخارجي ، أن قدرة الله تتحدد وتقلل بدرجة كبيرة بالاعتقاد بوجود أنواع متعددة من الكائنات البشرية والظواهر ذات القدرة الخارقة والتي تعرض الأنسان إلى الخطر بأستمرار والتي لاتعالج إلاّ باللجوء إلى السحر والشعوذة . وأن الوسائل والممارسات السحرية البسيطة معروفة بالنسبة لكل فرد.
وإذا ماأريد أجراء فعالية ذات تأثير أكثر ، فأن السحرة الأختصاصيين موجودون في القرية أو بالقرب منها ، ويمكن الحصول على خدماتهم بسهولة لقاء أجر . لذلك ، فعند الغفلة عن الجبرية أو عدم أدراكها ، يلتجأ القروي العربي إلى السحر لغرض تحقيق أمنية له ومعالجة العلل وأحداث الأذى والأنجذاب الروحي ومجابهة العين الشريرة وماشابه ذلك . وتحتل هذه الممارسات وأعتقادات العامة من الناس التي تستند عليها تلك الممارسات، مكانة أكثر أهمية في حياة التجمعات العربية، وخاصة تجمعات النساء ، بدلاً من ممارسة العقائد والطقوس الأسلامية الصحيحة المعترف بها . وفي حالات عديدة ، نجد أن هذه الممارسات هي من أصل قبل الأسلام . وفي الوقت الذي أحجم عنها الأسلام ، فأنه يتغاضى عنها بما يناسب أولئك الذين وضعوا ثقتهم بالله وحده . وأما بالنسبة إلى العامة البسطاء ، فأن هذه الأعتقادات وممارسات السحر الباقية بينهم ، هي في الحقيقة ، شهادة بليغة على أستمرارية الأستعداد البشري منذ العصر القديم للقيام بشكل فعال ، بأعمال من شأنها الأيفاء بالاحتياجات البشرية ، وأن هذا الاستعداد قديم كقدم الأنسانية نفسها.
أن التناقض الواضح بين هذه الممارسات والمبادئ الأسلامية الملزمة في الأعتقاد وفي الاعتماد على الله وحده ، لاتؤثر فيهم (أي في البسطاء من العامة) أكثر من تأثيرها في القرويين الكاثوليكيين في أيطاليا أو أسبانيا الذين يدركون التناقض الكبير بين أعمالهم ((الخرافية)) وعقائد كنائسهم . كلاهما يبدو مشوشاً بصورة متساوية أذا ما أمكن أظهار التناقضات الموجودة لديهم.
وتبقى الحقيقة قائمة ، أنه بموجب الأسلام التقليدي ، من النادر أن الجهود المبذولة لتحسين حالة الأنسان قد تجاوزت الفشل في العلاج . وعموماً ، فأن العقل العربي الذي سيطر عليه الأسلام ، لايزال يميل للحفاظ على أدامة الجذور السابقة بدلاً من الأبتكار والتحسين ، وإلى الاستمرار على ماكان موجوداً بدلاً من الأبداع . وبالرغم من وجود روح البحث والتحري الفردية في العصر الزاهر للثقافة العربية (أي في فترة القرون الوسطى) ، فأنها ضغطت تدريجياً ووصلت إلى حد الاختناق . وفي القرن الخامس عشر ، كان حب الأستطلاع الفكري العربي في نوم عميق ، وظل خاملاً إلى أن أوقظ ، بعد أربعة قرون ، بالطرق الغربي الملح على أبوابه.
المصدر:
Raphael Patai,
The Arab Mind,
Charles Scribner’s Sons,
New York 1973
[email protected]