في هذه المرحلة التي تزداد فيها ظواهر الضعف والفساد والتردي في وطني العراق ، يشتد الجدل بين الأوساط الفكرية والسياسية الوطنية حول أسباب هذه الظواهر وأفضل الطرق لمعالجتها والخروج من هذه الأوضاع المتردية . كما أننا نلاحظ في الوقت نفسه أن الحركات الدينية ناشطة بشكل بارز يثير الانتباه والتساؤل عن العوامل المؤدية لهذا النشاط ، ومن هنا نستطيع أن نفهم معنى الاهتمام بالموضوعات الفكرية والسياسية المتصلة بالتراث والمعاصرة ، أو المتعلقة بالعروبة والإسلام أو بالقومية والعلمانية والدين ، ولماذا أخذت حيزاً كبيراً من الأبحاث والمناقشات بين رجال الفكر والسياسة.
يدور اليوم جدل واسع بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية والدينية العراقية، حزبية ومستقلة ، حول قضية العلمانية بصدد الوصول إلى الصيغ الأنسب لمعالجة حاضر مستقلبنا ومستقبل حاضرنا من مواجهات سياسية وحضارية.
فنحن العراقيين في حاجة ماسة إلى وقفة شجاعة نحدد فيها الموقف من العلمانية تحديداً دقيقاً يخرج بنا من هذه الفوضى الفكرية التي نعانيها بسبب اختلاف وجهات النظر في أمر هذه العلمانية . فهناك من يرفضها رفضاً باتاً من حيث أنها من وجهة نظره كفر وإلحاد ، وهناك من يقبلها على علاّتها من حيث أنها ضرورة من ضرورات الحياة السياسية في هذا العصر الذي نعيش فيه ، وهناك من يرى أنها ليست من مشكلات حياتنا الدينية والسياسية حتى نهتم بها ونفكر فيها ، وهناك من يرى إمكانية التوفيق بينها والإسلام ، وأنه لاتناقض بينهما.
كل هذه الآراء مطروحة في الساحة العراقية الآن ، وكلها يسبب البلبلة والفوضى الفكرية ، ويسبب تبعاً لذلك الخصومات الدينية والسياسية . ولعل أهمها ما طرح مؤخراً في أكثر من مقال وأكثر من مطبوع يؤشر إلى سجال فكري– سياسي – ديني بين من يتبنى مفاهيم التيار الإسلامي ومن يتبنى أُطروحات التيار الوطني والقومي العراقي . ويجري ذلك تحت مسميات مختلفة لكل من التيارين . فقد يكون إعلان التناقض واستحالة اللقاء أو مجرد التفاعل تحت شعارات عدة محصورة بين إسلامية ووطنية قومية ، وقد يكون الطرح بهدف السعي لتحقيق المعايشة أو الطموح إلى إيجاد صيغة للتلاقي على أساس من تنازلات مشتركة فيما لايمس الأصول أو الجوهر لدى أي من الطرفين ، والاعتراف المتبادل بالأصول لدى كل منهما أو الاعتماد على فعل قوانين للتطور يرى البعض أن وعيها وأعمالها يؤدي إلى التلاحم في وحدة تركيبية أكثر رقياً وأكثر تعبيراً عن نوع من الضرورة التاريخية المنبثقة من خصوصية تاريخنا ، بل أكثر من ذلك يرى البعض أن التيار الإسلامي هو امتداد للمشروع الوطني القومي.
ولعلنا نتفق على الانطلاق من حسن النوايا ، وأيضاً على عدم كفاية حسن النوايا سواء بالنسبة للذين ينطلقون من التناقض واستحالة اللقاء أو من يسعون إلى التعايش والتلاقي أو من وصلوا إلى أحدهما هو امتداد تاريخي للآخر.
إن اهتمامي بهذا الموضوع وتتبعي له منذ زمن غير قصير وبما أنه ينطوي على أهمية ملحوظة في هذه المرحلة بالذات ، ومع علمي بما فيه من قضايا شائكة ودقيقة ، فقد أقدمت على الخوض فيه والأمل يحدوني على التوفيق وتحقيق ما أمكن من الفائدة المرجوة ، ولاسيما أنني انطلقت من القناعة بأن الفائدة التي نتوخاها من أي بحث مرتبطة بمدى الالتزام بالموضوعية والروح العلمية ، وبالطرح البعيد عن الأحكام المسبقة . ولكن هذا لايعني أن لايكون للكاتب رأي ووجهة نظر ، ذلك لأنه إن لم يفعل وآثر الابتعاد لأي سبب أو عذر عن أسلوب النقد والتحليل والحوار وتقديم الرأي ، يصبح ما بذله من جهد لايتعدى النقل والتبويب والعرض المجرد لآراء الآخرين ، وهذا مايضعف من قيمة البحث وجدواه.
وهنا لابد من التنويه بأنني مسؤول وحدي عما ورد فيه ، وأنني انطلقت في بحثه من موقع المتابعة والمراقبة والقراءة لأغلب برامج وأُطروحات الحركات والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية ، ومن الثقة بأن الصعوبة المحيطة بموضوعاته الدقيقة كائنة ماكانت من الشدة ، لاتبرر تجاهلها أو الهروب منها.
محددات المفهوم
إن تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات التي نستخدمها في أي بحث أو حوار ، أمر ضروري ومهم لاستبعاد الكثير من عوامل الاختلاف ومسبباته والناجمة عادة عن الفهم المتباين لها ، وعن اختلاف مضامينها في أذهان المتحاورين.
ومن هنا ، فإن تحديد المعنى أو المعاني والمفاهيم المتصلة بالعلمانية ، يوضح الأسس والضوابط التي لابد منها لهذا البحث ، ويمنع الشطط أو الخروج عن مجرى الحوار العلمي المثمر . ذلك لأن ثمة فرقاً كبيراً بين أن أتحدث عن العلمانية وفي ذهني أنها لاتعني فصل الدين عن الدولة فحسب وإنما تعني الإلحاد أيضاً ، فهي إذن مرفوضة ومحاربة من أي رجل من رجال الدين المهتمين بالسياسة ، في حين أنها لو فهمت بمعنى منع رجال الدين المتعصبين من فرض سيطرتهم على الدولة والمجتمع وفق اجتهاداتهم التي يعتبرونها من صميم الدين ، وأنها فوق ذلك لاتعني الإلحاد بل تضمن حرية العبادة والتدين لأي مواطن ، وأنها مجرد صيغة تنظيمية تستبعد عوامل النزاع والمشاحنة وتمنع انتشاره إلى الدولة والمجتمع باسم الدين.
نقول:- لو فهمت العلمانية كذلك لكان النقاش حولها مفيداً ومؤدياً إلى نتيجة مجدية.
للعلمانية ، كما هو معلوم ، دلالات وتعريفات عديدة ومتباينة ، والقواميس تتناول دينياً المعنى القديم – غير الكهنة – ولكن العلمانية فلسفياً تشير إلى جماعة المعترضين على سلطة رئيس الكنيسة ولكنها اليوم تعني التحديث.
وشحة المراجع مسؤولة عن هذا الغموض ، فحول تسمية علمانية في التعريف الديني والسياسي والفلسفي اشتباكات وتداخلات ، وقد تغير تعريف العلمانية في عصر الاشتراكيات والرأسماليات ، وفي المواطنية الحديثة ، ومع الحركات المتزمتة والمتعصبة اختلطت العلمانية بالإلحاد واللادينية . واقترحت الرياسات الدينية المسيحية مؤخراً إضافة – علمانية مؤمنة – لفك الاشتباك . وعلى الرغم من ذلك ، يبقى الاستفهام عندنا وارد حول:- ما العلمانية ؟
العَلْمانية ، بفتح العين وتسكين اللام ، من العلم أي العالم أو الكون . وتعني الفصل بين السياسة والدين . وهذا لايعني أن السياسة تعادي الدين أو أن الحاكم ملحد أو أن الدولة العلمانية ملحدة.
والعلمانية ، تعني دنيوياً غير ديني ، ويقابلها بالإنكليزية Secular ، وبالفرنسية Secularisé أو Laïque . وهي كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية نسبة إلى العَلْم ، بمعنى العالم ، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي ، وهذه تفرقة مسيحية لاوجود لها في الإسلام ، وأساسها وجود سلطة روحية هي سلطة الكنيسة ، وسلطة مدنية هي سلطة الولاة والأمراء . والعلمانيون يحكّمون بوجه عام العقل ويراعون المصلحة العامة دون تقيد بنصوص أو طقوس دينية . وكانوا في الغالب مبعث التطور والتجديد في المجتمعات الغربية ، ولذا كانوا في خلاف مع الكنيسة ورجال الدين.
وفي تعريف آخر ، العلمانية حياد الدولة تجاه الدين ، كل دين . فالعلمانية ليست عقيدة ايجابية أو فلسفية تعتمدها الدولة وتبشر بها وتعلمها وتثقف بها في وجه المعتقدات الدينية.
والعلمانية ، تنسب على غير قياس إلى العالم أو العالمية Secularism ، وهي نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الأيمان الديني والعبادة الدينية . هي اعتقاد بأن الدين والشؤون الإكليركية – اللاهوتية والكنسية – والرهبنة لاينبغي أن تدخل في أعمال الدولة وبالأخص في التعليم العام.
ويعرفها بعضهم بقوله:- هي النظام الذي يضع حاجزاً فاصلاً بين القطاعين ، الروح والزمن ، وفق تعريف الفقه المسيحي ، والمعاملات والعبادات حسب الفقه الإسلامي . وأي نظام لايحترم هذا الفصل سواء ترك القطاع الزمني يطغى على القطاع الروحي ، أو القطاع الروحي على القطاع الزمني ، لايمكن أن يسمى علمانياً.
ويتحدث بعضهم عن العلمانية بمعنى العلمنة ، قائلاً:- على من يدعو إلى العلمنة أن يكون علمانياً . أو ، أن الصفة العلمية مكملة للصفة العلمانية وأساس لها ، إذ لايمكن أن نعلمن المجتمع والدولة إذا كانا بعيدين عن المجالات العلمية.
العلمانية ، ترجمة للكلمة اللاتينية Secular ، ومعناها في اللغات الأوربية لاديني . ومعنى هذا أن العلمانية أو العلمنة كما يطلقون عليها أخيراً ، هي الفكرة القائلة بأنه من الممكن دراسة الإنسان والمجتمع كما تدرس الأشياء على أساس تطبيق وسائل الدرس والملاحظة التي تمارسها العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الاجتماعية.
ويتوسع الآخر فيقول:- العلمانية هي الاسم الديني للهيومانيتيهHumanite’/Hmanity ، أي الفلسفة الإنسانية في أوربا ، وتميز انتصارها بفصل الدين عن الدولة وبظهور الدولة القومية وبإحلال القانون الوضعي ، وبانحسار الحكم بالحق الإلهي ، وانتشار الحكم بالحق الطبيعي ، وهو ماميز التقدم من الثيوقراطية إلى الديمقراطية ، وبمناهضة الكهنوت ، وبهجران الرهبان للأديرة ، وبالتحول من حياة التأمل إلى حياة العمل ، وبذبول العلوم اللاهوتية ، وازدهار العلوم الوضيعة.
ولعلنا نخلص مما تقدم إلى تعريف عام للعلمانية على الشكل التالي:- هي جملة من التدابير النظامية والقانونية جاءت وليدة الصراع الطويل والشديد بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوربا ، واستهدفت فك الاشتباك بينهما ، واعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة ، بما يضمن حياة هذه تجاه الدين ، أي دين ، ويضمن حرية الرأي الفكري والعقيدة الدينية ويمنع رجال الدين عن أعطاء آرائهم واجتهاداتهم صفة مقدسة باسم الدين ، ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة.
غير أن هذا المفهوم للعلمانية لم يبق في هذه الحدود المبسطة بل أصبحت له مع مرور الزمن عدة مفاهيم متباينة ، وذلك حسب طبيعة الصراع وحدّته ، وهي تتراوح بين السلبية والايجابية ، أي بين اعتبارها ملحدة ومعادية للدين ، وبين اعتبارها غير متعارضة معه بل تحميه من عبث السياسة والسياسيين المتسترين باسم الدين.
وتأسيساً على هذه التفرقة ، فإن العلمانية يمكن تحديدها بأنها مفهوم يرى أن الدولة والمجتمع يعبران عن علاقات اجتماعية وليست علاقات دينية . بمعنى آخر ، أن العلمانية لاتلغي الدين وليس في مواجهته أو تسعى لفصل الدين عن الدولة . ولكن تخرج السياسة من إطار الممارسة الدينية ، كذلك تخرج الأخيرة من الإطار السياسي.
النشأة التطور التاريخي
كانت النشأة الأولى للديانة المسيحية في أرض فلسطين ، وكانت هذه الأرض خاضعة للدولة الرومانية شأنها في ذلك شأن الكثير من البلدان . والدعوة المسيحية دعوة إلى المحبة والسلام من حيث الأصل ، لكن ذلك لم يكن هو الشأن مع دولة الرومان . فقد كانت العلاقة بين الرواد الأوائل للمسيحية ودولة الرومان علاقة عداوة وبغضاء ، ويرجع السبب في ذلك إلى:-
1- إن الرواد الأوائل للمسيحية كانوا ينظرون إلى الدولة الرومانية على أنها دولة وثنية من حيث أن منزلة الإمبراطور فيها تعلو فوق منزلة الإنسان . وتكاد تصل إلى المنزلة التي يعبد فيها الناس الإمبراطور من دون الله.
2- إن الدولة الرومانية كانت تنظر إلى هؤلاء الرواد الأوائل على أنهم من الخارجين على سلطان الدولة وسلطة الإمبراطور . ومن هنا ، واجهتهم بالعنف والإبادة . وظلت العلاقة بين هؤلاء الرواد والدولة علاقة عداوة وبغضاء إلى أن كان القرن الرابع الميلادي . ففي أول هذا القرن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وأعلن ذلك في الناس ، ولعب هذا الإعلان دوراً حاسماً في هذه العلاقة . فقد أخذ الناس ينظرون إلى المسيحية على أنها ديانة سماوية وليست خروجاً على سلطان الدولة . كما توقفت الدولة عن اضطهاد أتباع هذه الديانة الجديدة . ووضعت الكنيسة من يومئذ في حماية الإمبراطور ، وأعلن الرواد الأوائل يومذاك أن الله قد خلق الإمبراطور من أجل حماية الكنيسة .
أصبحت الكنيسة من ذلك الحين مؤسسة من مؤسسات الدولة وخضعت السلطة الدينية منذ ذلك التاريخ للسلطة السياسية – أي الدولة . لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً وبخاصة بعد أن دخل الناس أفواجاً في الدين الجديد للإمبراطور . وكثر بذلك عددهم كثرة هائلة ، وشعرت الكنيسة بأنها بذلك قد أصبحت قوة قادرة تنازع الإمبراطور الروماني السلطة والسلطان.
والصراع بين السلطتين الدينية والسياسية الذي قام بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية قد مضى على الوجه التالي:-
في نهاية القرن الرابع الميلادي كان الذين يعتنقون المسيحية من المواطنين الرومان كثرة كاثرة ، وأخذت هذه الكثرة تمارس حياتها على أساس من القيم الدينية لهذه العقيدة ، ومن معاييرها السلوكية ومثلها العليا ، ورأت الكنيسة الكاثوليكية التي تتبعها هذه الكثرة الكاثرة أنها قد قويت بذلك واشتد ساعدها من حيث أن هذه الكثرة هي القوة القادرة التي تستطيع حماية الكنيسة والذود عنها والضرب على كل يد يمكن أن تمتد إليها بسوء . وقدرت الكنيسة الكاثوليكية أنها تستطيع أن تستغني بهذه الكثرة الكاثرة عن سلطان الدولة وسلطان الإمبراطور ، ومن هنا راحت تفكر في إعادة النظر في تلك العلاقة التي قامت بينها والدولة منذ اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية.
لقد كانت الكنيسة يومذاك ضعيفة وعاجزة عن أن تحمي نفسها . ومن هنا قبلت أن تكون في حماية الإمبراطور وخاضعة لسلطان الدولة . كما قبلت أيضاً أن يكون من سلطة الإمبراطور تعيين رجال الدين من الأساقفة والبابوات . ولكن بعد أن ملكت القوة بكثرة الأتباع الذين يتعارضون معها في السراء والضراء ، والذين يمكنها أن تستغني بهم عن سلطة الإمبراطور وسلطان الدولة ، فإن الوضع يجب أن يتغير ، يجب أن تصبح الكنيسة حرة مستقلة ، وأن تدير شؤونها بنفسها ، وبعيدة عن سلطة الإمبراطور وسلطان الدولة . وقاد الدعوة إلى الخروج من هذا الوضع المذل للكنيسة وإحلال وضع جديد يرفع من شأن الكنيسة قديسون عظماء من الذين تولوا أمر الكنيسة الكاثوليكية ابتداء من أواخر القرن الرابع الميلادي.
وحقق هؤلاء القديسون هدفهم حيث فضلوا الكنيسة عن الدولة وحققوا أيضاً من بعده هدفاً آخر أعظم منه هو جعلهم الكنيسة السلطة العليا التي يجب أن تتبعها الدولة، وأصبحت الدولة بذلك هي التابعة والكنيسة هي المتبوعة.
ولم يقف الحوار بين الكنيسة والدولة عند هذا الحد وإنما مضى في سبيله إلى أن كانت العلمانية التي تم بمقتضاها الفصل بين السلطتين حيث خرجت الدولة من تحت سلطان الكنيسة وأصبحت الدولة مستقلة عن سلطة الكنيسة . فقد تحقق الفصل بين السلطتين بفضل العلمانية ، ومضت كل سلطة في سبيلها حرة مستقلة من غير أن يكون للسلطة الأخرى سبيل عليها . وكان ذلك بفضل العلمانية التي تعني ألاّ يكون للسلطة الدينية سلطان ، أي سلطان ، على السلطة السياسية.
وتاريخ الحوار بين السلطتين الدينية والسياسية أو بين الكنيسة والدولة يمكن تقسيمه إلى أربع مراحل متميزة لكل مرحلة منها طابعها الخاص بها والمميز لها . ويبدأ هذا التاريخ باعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية وينتهي بسيطرة العلمانية.
المرحلة الأولى – وتبدأ باعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية أوائل القرن الرابع الميلادي وتنتهي أواخر نفس القرن ، أي أنها لم تستكمل من العمر قرناً كاملاً . وتتميز هذه المرحلة بخضوع الكنيسة للدولة ، أي بخضوع السلطة الدينية للسلطة السياسية من حيث أن الكنيسة قد أصبحت مؤسسة من مؤسسات الدولة وخاضعة لسلطاتها ، ومن حيث أن الإمبراطور كان يدير شؤون الكنيسة كما يدير أي مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة.
وفي هذه المرحلة سعت الكنيسة من جانبها نحو مجاملة الإمبراطور ، فذهبت إلى أن الوضع الذي يقف فيه الإمبراطور من حيث استناده إلى القوى الأرضية ليس وضعاً سليماً من حيث أن سلطة القوى الأرضية سلطة زمنية موقوتة وأنها سوف تنتهي يوم الدينونة وهو قريب . ومن هنا ذهبت إلى أن العناية الإلهية قد أوجدت الإمبراطورية من أجل الكنيسة وأن الإمبراطور هو نائب الله على الأرض من أجل دعم الكنيسة.
المرحلة الثانية – تبدأ أواخر القرن الرابع الميلادي وتستمر حتى منتصف القرن الثامن تقريباً . وفي هذه المرحلة ظهر القديسون العظماء الذين حرروا الكنيسة من سلطان الدولة ، كالقديس امبروزو ، والقديس أوغسطين ، والبابا جلازيوس ، والبابا جريجوري الأول.
فالقديس امبروزو أسقف الكنيسة الكاثوليكية أشعل النار في قضية العلاقة القديمة ، ودعا إلى إعادة النظر فيها لبترها والتخلص منها . ودعا إلى أن تكون الكنيسة منفصلة عن الدولة ومستقلة عنها . وأعلن أن الإمبراطور ليس إلاّ مجرد إنسان ، أي أنه ليس نائباً عن الله في الأرض . وقال:- إن على الإمبراطور أن يصغي إلى ممثل المسيح لأن المسيح هو الذي يحمي إمبراطوريته . أما القديس أوغسطين ، فقد انتهى في كتابه (مدينة الله) إلى أن الدولة ليست إلاّ عصابة من القراصنة . بينما صاغ البابا جلازيوس في أواخر القرن الخامس الميلادي العلاقة بين الكنيسة والدولة في نظريته التي تعتبر أساساً فكرياً للحوار بين الكنيسة والدولة . وقد صاغها على أساس أن هناك نظامان للسلطة في العالم ، نظام كبار الكهنة وهم أصحاب السلطة المقدسة ، ونظام الأباطرة والملوك ، وهم أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة الإمبراطورية والملكية.
وقال في ذلك:- إن سلطة كبار الكهنة – أي الكنيسة – سلطة تشريعية وسلطة الدولة سلطة تنفيذية . وأن السلطة التشريعية تسمو دائماً فوق السلطة التنفيذية.
أما البابا جريجوري الأول ، فقد ذهب إلى المقولة التالية:- لما كان البابا مسؤولاً أمام الرب كزعيم للكنيسة المسيحية وجب الا تكون سلطته عقيدة كي يتسنى له القيام بأعباء العمل المقدس الموكول إليه.
لقد أثمرت جهود هؤلاء القديسين وأتت أكلها في منتصف القرن الثامن الميلادي تقريباً . وكان ذلك بفضل الأحداث التي وقعت والتي انتهت بسيطرة الكنيسة على الدولة.
المرحلة الثالثة – تبدأ بحادثة هامة غيرت مجرى الحوار بين الكنيسة والدولة ، ودفعت بالكنيسة إلى أن تكون هي المسيطرة وليست الدولة . ففي منتصف القرن الثامن لجأ بن الثالث إلى البابوية كي تساعده في الحصول على تاج مملكة الفرنجة ، فساعدته الكنيسة وارتقى العرش بفضل هذه المساعدة . ارتقاه على أساس من القانون الكنسي حيث أقيم له احتفال ديني رمزي باركه فيه البابا ومسحه بالزيت المقدس . ومن هذا التاريخ أو من هذا الحدث صيغت فكرة السيادة البابوية . وذهب رجال الكنيسة منذ ذلك التاريخ إلى أن الملوك الذين يحكمون أوربا ليسوا إلا مجموعة من الزعماء الذين أرسلتهم العناية الإلهية من أجل تحقيق عمل الرب . وفي هذه المرحلة التاريخية أعلن البابا جريجوري السابع ، أن سلطة الكنيسة هي السلطة الوحيدة والسلطة العليا في العالم ، حيث قال:- إن السلطة الشرعية الوحيدة في العالم هي سلطة القساوسة وبخاصة أسقف روما باعتباره نائب المسيح على الأرض . وحدث في أيامه أن إمبراطور ألمانيا وكان أقوى حاكم في أوربا في ذلك التاريخ ، مضى على أن من حقه تعيين رجال الدين ، فطلب إليه جريجوري السابع أن يتوقف عن ذلك ، وهدد بخلعه أن لم يمتثل للأمر . وفي هذا الحادث انتصرت الكنيسة وتدهورت الملكيات وفقدت زعامتها تقريباً في أوربا . وأصبحت الكنيسة أواخر القرن الحادي عشر صاحبة الكلمة والسلطة العليا ، والويل كل الويل لمن يخالف أوامرها.
المرحلة الرابعة – وهي المرحلة التي أخذت بالعلمانية ، أي بفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية ، وإخراج الدولة عن تبعيتها للكنيسة . والأساس الفكري هنا جاء مع حركة النهضة وحركة نمو الفكر في أوربا . ومن المسلّم به عند الأوربيين أنفسهم، أن الفكر الإسلامي قد لعب دوراً هاماً في نشأة النهضة الأوربية ، وكذلك له أثره البارز في حركة الإصلاح الديني في أوربا وفي نشأة البروتستانتية.
ولسنا هنا بصدد تتبع ذلك عند حديثنا عن العلمانية . ولكننا سوف نقف عند بعض الأفكار الإسلامية التي أخذها طلبة العلم في أوربا عن الجامعات الإسلامية في الأندلس ، ونرى فيها الأساس الفكري للعلمانية . وأول هذه الأفكار الأساسية ، أن الإسلام لم يعرف أبداً مقولة أن رئيس الدولة – إمبراطوراً أو ملكاً أو خليفة – يكون نائباً عن الله في الأرض . إن الخليفة واحد من الناس يختاروه خليفة لهم ويبايعونه على ذلك . ومن هنا لايكون أبداً نائباً عن الله في الأرض . وتأتي هذه الأفكار الأساسية ، أن الإسلام لايعرف السلطة الدينية التي تعلو فوق السلطة السياسية والتي يكون لها حق التشريع وحق التحليل والتحريم وحق مباركة الملوك ومسحهم بالزيت المقدس . وثالث هذه الأفكار أن الإسلام لايعرف إنساناً معصوماً عن الخطأ ، ويعرف أن الأنبياء فقط هم الذين يكونون معصومين ، ولكن فقط فيما يبلغونه عن ربهم.
إنه على أساس من مثل هذه الأفكار عرف طلاب العلم من الأوربيين الدارسين في الجامعات الإسلامية ، أن رسول الله يكون إنساناً من البشر وليس إنساناً يجمع بين الناسوت واللاهوت . ومن هنا برزت فكرة ابن الإنسان على السيد المسيح عليه السلام . كما عرفوا أن البابا ليس معصوماً مادامت العصمة حق الأنبياء فيما يبلغونه عن الله ليس غير . وعرفوا أن ليس هناك سلطة دينية فضلاً عن أن تكون لهذه السلطة منزلة تعلو فوق كل منزلة.
وجاء التقدم العلمي والقوانين العلمية التي كشفت لتضيف جديداً إلى الأفكار الإسلامية ولتدعو إلى أن الحياة لايصح أن تمارس إلاّ على أساس من القوانين العلمية. وحدث التحول عن السلطة الدينية في ممارسة الأعمال السياسية والتنفيذية يوم أن أصبح الذين يمارسون أعمال الدولة من الذين تخرجوا في الجامعات وعرفوا كل الحقائق السابقة وبخاصة القوانين العلمية وانفصلت الدولة عن السلطة الدينية وخرجت عن أن تكون تابعة لها.
وعليه ، تكون العلمانية حركة فصل السلطات السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية وليست فصل الدين عن الدولة . ولاتمنع حركة الفصل هذه من أن تكون السلطتان تعملان جنباً إلى جنب في الحياة . إن الوحدة منهما لن تحل محل الأخرى أو تلغيها وإنما تعمل حرة مستقلة من غير أن تتأثر بالأخرى أو تؤثر فيها.
ماهية العلمانية
يجب أن نميز دائماً بين مفهوم العلمانية من حيث هو صراع بين السلطتين تفصل فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية ويرفض فيه أن تكون السلطة الدينية هي التي لها الهيمنة والسلطان على السلطة السياسية وبين أن تكون العلمانية هي فصل الدين عن الدولة.
إن المفهوم الأخير ، مفهوم خاطئ ، ويجب أن نعدل عنه حتى لانظل نخلط بين الصواب والخطأ.
العلمانية ، من حيث هي نظام للحكم لايمكن أن يكون فيها كفر أو إلحاد وإنما فيها نسخ واجتهاد بشري باجتهاد بشري آخر تبعاً للمصلحة . لكن قد يذهب المرء إلى القول:- بأن العلمانية قد تؤدي إلى الكفر والإلحاد لا في نظام الحكم وإنما في وضع قوانين تخالف النصوص . وهنا يجب أن نحدد الميادين التي يسمح فيها للدولة بوضع القوانين ، هل هي ميادين الاعتقادات والعبادات ، أي الدين ، أم هي ميادين أخرى قد تتغير الأحكام فيها بتغير الأزمنة والأمكنة تبعاً للمصلحة العامة.
إن المعتقدات الدينية من شؤون الغيب التي لايعلمها إلاّ الله ، ومن هنا كان الأصل فيها وليس الاجتهاد . والعبادات حق الله على عباده ، حقه الذي فرضه هو وحدد أبعاده من حيث الزمان والمكان والكيفية التي تؤدي فيها العبادة ، ومن هنا كان الأصل في العبادات أيضاً النص . والأمر الذي يكون الأصل فيه النص لادخل للبشر فيه ولادخل للحكومات أيضاً من حيث أن النص يكون من عند الله ويحمله النبي (ص) إلى الناس ويبينه لهم بياناً قولياً أو بياناً عملياً . إن المعاملات وحدها هي التي يكون الأصل النص أحياناً والاجتهاد أحياناً . ومن هنا أذن الله للبشر في الاجتهاد فيما نص فيه.
وهناك فرق آخر بين الاعتقادات والعبادات من جانب والمعاملات من جانب آخر . فرق يتعلق بالمسؤولية من حيث أنها في الاعتقادات والعبادات مسؤولية فردية، والمسؤولية في المعاملات تكون فردية وجماعية أو اجتماعية ، هي فردية وتكون أمام الله حين يكون الأصل فيها النص أيضاً أمام المجتمع من حيث أنها علاقة في التعامل بين الناس بعضهم وبعض ، وأن الأضرار فيها تتعلق بالناس في أغلب الأحوال.
ومهمة الحكومات تتعلق بالمعاملات ، ومن حق البشر أن يضعوا قوانين التعامل فيما بينهم وبخاصة فيما لانص فيه . إن الحكومات إنما تتحمل المسؤولية حين تكون هذه المسؤولية جماعية ، تتحملها من حيث وضعها للقوانين والنظم التي يمارس الناس الحياة على أساس منها ويعاقبون حين يخالفونها . ولاتتحمل الحكومات أو الدولة أية مسؤولية فردية . إن الفرد وحده هو الذي يتحمل هذه – “لاتزر وازرة وزر أخرى” – ولعله من هنا ذهب الإسلام إلى أن الفرد لايكلف إلاّ حين يكون عاقلاً بالغاً رشيداً أهلاً لتحمل المسؤولية.
والقران الكريم ، كان يكلف النبي (ص) ، إلى أنه ليس من شأنه هداية الناس – “ليس عليك هداهم” – وإنما الذي عليه أن يبلغ الناس الوحي الذي يبين لهم الهدى من الضلالة ، والحق من الباطل ، والخير من الشر ، ثم يتركهم وشأنهم ، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها . والذي كان يقوم به النبي (ص) من تربية دينية هو الذي يجب أن تقوم به الأسرة وعلماء الدين .
إن مهمة الحكومة أو الدولة هنا ليست أكثر من تيسير السبل على الناس حتى يؤدوا واجباتهم الدينية لكن ليس من حقها أن تضع القوانين لإكراههم على شيء . “لا إكراه في الدين” و “ليس عليك هداهم” . إن الدولة إنما تضع قوانين المعاملات فيما لانص فيه ويكون الأصل في ذلك هو الاجتهاد في وضع القانون بشرط أن يكون القانون موضوعاً للمحصلة العامة التي يتحقق فيها الخير لكل الناس أو لمعظمهم على أقل تقدير.
إنني أرى أنه لاتعارض بين العلمانية والإسلام . فالإسلام لايعرف سلطة دينية كما هو الحال في المسيحية تكون مهمتها وضع التشريعات وإنما ترك ذلك للقادرين عليه في كل مجال من مجالات الحياة . والذين يضعون التشريعات هم الذين يسميهم القرآن الكريم بأولي الأمر ، أي أصحاب الاختصاص في كل مجال من مجالات الحياة . وأولي الأمر في السياسة هم الذين يجتهدون في وضع نظم الحكم ويحددون العلاقة بين الحاكمين والمحكومين لحساب المصلحة العامة ، وهنا أيضاً لاتناقض بين الإسلام والعلمانية.
إن الخلاف الذي يمكن أن يقوم بين الإسلام والعلمانية إنما يكون حول مانص من المعاملات ، وهذا ينظر فيه على الوجه التالي:-
1- يوضع التشريع الديني في صلب القانون على شكل مواد قانونية ، كما هو الوضع بالنسبة للأحوال الشخصية . وهذا الأسلوب معمول به من حيث أن كل دولة من الدول إنما تلاحظ أعرافها وعاداتها وتقاليدها وكل ما هو من قبيل القيم الثقافية الأصيلة عند وضعها للقوانين.
2- العمل بمقتضى القواعد الأصولية التي تتعلق بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان . والأصوليون إنما يبدأون أولاً بعملية التوفيق بين النص والمصلحة ، فإذا عجزوا عن ذلك قدموا المصلحة . ومن يقرأ ماكتبه بعض الفقهاء ، يعرف كيف يمكن التوفيق وكيف يمكن تحقيق المصلحة ولو بتعطيل النص على أساس أن الله سبحانه وتعالى قد راعى مصلحة عباده عند وضعه تشريعاته في باب المعاملات . فالمصلحة هي المستهدفة من وضع التشريعات عند الله وعند الناس.
إنني أُقر بحقيقة لاشك فيها عندي ، وهي أنه لاتناقض بين الإسلام والعلمانية مادامت العلمانية فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية وليست فصل الدين عن الدولة كما يتوهم . وتقرير حقيقة أخرى ، وهي أن العلمانية ليست أبداً من قبيل الكفر والإلحاد من حيث أنها لاتناقض نصاً دينياً ولا أصلاً من أصول الدين ، يجب أن نخرج من هذه الفوضى الفكرية بالمضي قدماً في ممارسة الحياة على أساس من العلمانية.
لاسياسة في الدين ولادين في السياسة
إن مفهوم العلمانية الذي ظهر كنتيجة للصراع على السلطة بين الكنيسة ورجال الدين من جهة وبين الملوك والحكام الزمنيين من جهة ثانية ، هو الذي يعبر عن جوهر العلمانية وماترمي إليه ، والمتمثل في فك الاشتباك والتداخل بين هاتين السلطتين المتنازعتين ، ومن ثم منع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة والمجتمع لفرض آرائهم ووجهات نظرهم بحجة أنها تمثل الدين والتعاليم الإلهية المقدسة ، على أن تكون الدولة محايدة تجاه جميع الأديان والمذاهب ، وأن تضمن كذلك لكل مواطن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من دون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو العقيدة ، وقد يصل ضمان حرية الاعتقاد إلى الحد الذي يمكن المتعصب للدين أو ضده ، من التعبير عن رأيه شريطة ألاّ يكون في ذلك مايمس حرية الآخرين وآداب المجتمع ، وما لايتعارض مع وظيفة الدولة والنظام العام . وهكذا فالدولة عندما تكون علمانية محايدة فإن نظامها يفصل بين الدين والدولة ليكون لكل منهما دوره وحريته ، من دون أن تكون الدولة معادية للدين أو منحازة لأي مذهب يسمح لقادته بأن يفرضوا سلطتهم بحجة أنهم يمثلون إرادة الله ، وتصبح ممارسة الدين والإيمان عملاً حراً إرادياً طوعياً صافياً أصيلاً لأنه نابع من وجدان الشخص وقناعته وليس من مسايرة أو إكراه القوانين والضغوط الخارجية.
وبهذا الجانب كتب بعضهم قائلاً:- على الدولة ألاّ تخص أي دين باعتراف خاص به أو بعطف خاص أو بمساعدة امتيازية ، فعلى كل ديانة أن تبرز إلى المجتمع بقواها الذاتية بدون عون الدولة التي إذا ساعدت إحداها تكون قد أفسدت مبدأ المساواة بينها . ومما كتب أيضاً:- ليس للدولة العلمانية أن تفضل أحداً على أحد بسبب موقفه الديني ، فالمؤمن وغير المؤمن في مرتبة اعتبارية سوية . وهنالك شعار شائع ومعروف وهو:- لاسياسة في الدين ولادين في السياسة ، ويفسر بما يلي:- العلمانية لاتلغي الدين أو الممارسة الدينية ، بل تخرج السياسة والتنظيم الاجتماعي من حيز الممارسة الدينية ، كما تخرج الممارسة الدينية من الحيز الاجتماعي والسياسي كي تعيدها إلى إطارها الوحيد في الحيز الشخصي . والعلمانية ليست نقيض التعصب الديني ، فالتعصب الديني عندما يقتصر على الإيمان وعلى العلاقة بين الفرد وربه فإنه حق للفرد . أما عندما يتحول إلى قاعدة للتنظيم الاجتماعي والممارسة السياسية فإنه يصبح وسيلة قمع استبدادية غير عقلانية ، ويكون بالضرورة أساساً لانقسام المجتمع حسب حدود يرسمها الإيمان تتخذ شكلاً طائفياً.
وبالاستناد إلى هذه المفاهيم ، فإن العلمانية تضمن حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية بدافع التطبيق لمبادئ الديمقراطية وليس بدافع الإيمان أو عدم الإيمان بدين معين . فإن الصلة بين العلمانية والديمقراطية هي من القوة بحيث نستطيع القول أن الأولى وليدة الثانية أو أنها ركن من أركانها وجزء أصيل منها . فهي توفر أجواء الحرية الفكرية ، ومنها حرية الاعتقاد ، فإنها تكون بذلك قد أرست قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية ، طالما أن هذه تعني فيما تعنيه ضمان الحرية والعدالة والمساواة لجميع الموطنين من دون أي نوع من أنواع التمييز . وهذا يعني أن تطبيق العلمانية يعزز الديمقراطية ، وأن العكس أيضاً صحيح.
ومما تجدر الإشارة إليه ، أن الدولة الديمقراطية التي هي ضد العقيدة الشمولية التي تزعم معرفة كل شيء ووجود الحلول الناجعة لها ، وضد أن تفرض على المواطنين مذهباً بعينه ، لأن هذه المذاهب الطائفية ، ذات مفاهيم واجتهادات متباينة ويصعب على الدولة عندئذ أن تفرض أياً منها من دون أن تصادر أو تحد من حريات الطوائف الأخرى.
فلاديمقراطية مع وجود الطائفية التي يكون انتماء الفرد فيها إلى دولته من خلال طائفته . والديمقراطية مساواة بين أفراد المجتمع وليست بين طوائف ، لأن هذه تصبح ذات كيان سياسي واجتماعي وحقوقي وروحي إلى حد بعيد ، ويصبح تعايش الطوائف أمراً مشكوكاً باستمراره ، لأن أي احتكاك أو تنافس حاد يؤدي إلى الصراع والاقتتال الطائفي.
ولهذا فإن العلمانية جاءت كعلاج لداء الطائفية ومنع أذاها . فهي إذ تلغي الطائفية ، كوسيط بين الفرد والدولة ، فإنها أساساً ضرورياً للديمقراطية وتوحيد المجتمع في إطار عقلاني لايمكن أن تحققه في ظل الانقسام الطائفي.
علمانية الغرب .. دينية الشرق
ـ هل العلمانية وافد فكري نستطيع أن تتصدى له بتطوير مقوماتنا الفكرية والثقافية وإيجاد معادل موضوعي بين أوضاعنا الحالية المعاصرة ، وبين ديننا الإسلامي وشريعته أم ماذا ؟ وهل نحن في حاجة إلى العلمانية ؟
إن القول ، بأن العلمانية ناتج لظروف تاريخية مغايرة لتاريخنا والمرتبطة بالعصور الوسطى الأوربية ، وأنها بالفعل حاجة موضوعية لرفض القهر الديني الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية ، وبالتالي لايعبر عن واقعنا سواء في الماضي أو الحاضر بشيء . هذا القول في الحقيقة يغفل بل ويعمى عن قصر حقيقة العلمانية ، فهي ليست فحسب ضد سيطرة المؤسسة الدينية على مقدرات الناس من سلطة الاضطهاد الديني بالحرمان أو إعطاء صكوك الغفران أو أعمال محاكم التفتيش حول حرية المعتقدات كما هو الوضع التقليدي في أوربا إبان العصور الوسطى.
ولكن للعلمانية وجهاً آخر ، فهي ضد سيطرة المؤسسة الحاكمة أيضاً على رجال الدين ، أي أنها ضد الاستخدام السياسي للدين من قبل المؤسسة الحاكمة أو من قبل المؤسسة الدينية أو من رجال الدين . هذا الجانب الآخر من العلمانية هو مازخر به تاريخنا الطويل ، فإذا كان من حق الخليفة أن يعين قاضي القضاة ، وهو المنصب الديني المنوط به عملية الإفتاء والتحليل والتحريم بالرجوع للنص القرآني والسنة . فمن حق الخليفة أيضاً عزل ونفي بل وفي أحيان أخرى قتل قاضي القضاة . بل إن التجربة المريرة فيما عدا استثناءات نادرة للغاية تقول أن رجال الدين كانوا على مر العصور أداة من أدوات تبرير سلوك الحاكم وأصبحت مهمتهم البحث والتنقيب لإيجاد مسوغ ديني وتأويل النص لإخراج الفتوى اللازمة للحاكم في صراعه السياسي إزاء الإطراف الأخرى.
كذلك ، كان الحاكم طرفاً في الصراع الديني ، ولعل نماذج الاضطهاد الذي تعرض له رجال الدين رغم بسالة وشجاعة الكثير منهم . وبدأ بقضية خلق القران أو قدمه ، واضطهاد الرشيد ومن بعده ابنه المأمون ، واستشهاد الإمام أحمد بن حنبل على إثر مخالفته للرأي الرسمي ، واضطهاد الحكام السنيوون للشيعة واضطهاد الحكام الشيعة لمذهب أهل السنة.
إن المسألة اليوم ، من له سلطة تفسير النص والتحليل والتحريم ، وإذ ما تعارضت طائفتان فمن له سلطة تكفير الآخر ، والذي يسود اليوم ليس بين المسلمين وغيرهم بل بين الفصائل الإسلامية ذاتها من التكفير المتبادل.
إن القول بالتشريع الديني المباشر والخالص هو الحكم الديني عبر التشريع ، ولانستطيع أن نجزم بأي شكل من الأشكال في ضوء صراع المصالح والرؤى أن يحدث اتفاق على تشريع موحد حتى إذا ماكان سلطة التشريع غير خاضعين لسلطة ما أو مصلحة لهم ومنزهين عن الهوى.
ولعل مايهتم اليوم من تسخير قضية الشريعة الإسلامية لخدمة حكومات وأنظمة ترى بالعين المجردة عمالتها للإمبريالية الأمريكية وتعاونها الوثيق مع الصهيونية ، وتقف ضد شعوبها بالحديد والنار رافعة راية الإسلام والشريعة الإسلامية.
إن الدعوى ، العلمانية لاتناقض مع وجود قوانين تستهدف المصلحة العامة للشعب والتي لايمكن أن تتعارض مع أية شريعة دينية ترجى بالضرورة خير البشر . إن تعريف العلمانية بأنها اللادينية كذب له هدف في التجهيل حتى ترتبط العلمانية وكأنها دعوى للإلحاد ، وكذلك الدعوى بأن العلمانية نتيجة ظروف تاريخية غربية ونحن بعيدون عن تلك الظروف محاولة لتسطيح الوعي والهرب إزاء مواجهة فكرية جادة.
قريبا من الخلاف بعيدا عن الاتفاق
كثيراً ماتطرح العلمانية باعتبارها سمة لصيقة بالمبدأ القومي ، وتطرح بهذه الصورة من بعض دعاة التيار القومي بما يفيد التبني وتطرح من قبل التيار الإسلامي بما يفيد الرفض والإدانة للطرف الآخر . وفي كل الأحوال فإن العلمانية تطرح بمعان مختلفة ، بل وقد تكون متناقضة ، سواء في حالات الرفض أو القبول.
يعنى البعض بالعلمانية – وفق سياق موضوعنا هذا حصراً – فصل الدين عن الدولة . وهذا الفصل يقصد به البعض معاداة الدولة للدين ، في حين يقصد به البعض الآخر عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها أو عدم الانحياز لأصحاب دين من الأديان ، حتى ولو شكلوا أغلبية المواطنين . في حين يعنى آخرون بالعلمانية أن ليس للدولة سلطة دينية على المواطنين ولاتستمد مشروعيتها من سلطة دينية . وكل معنى من تلك المعاني يصل بمتبنيه إلى نتائج دينيه وفلسفية وسياسية مختلفة عن المعاني الأخرى . وللأسف إن البعض يستخدم أكثر من معنى للوصول إلى نتائج مسبقة. وهكذا نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة ويستمر مايسمى – حوار الطرشان – فلانستطيع أن نحدد أبعاد الخلاف ولا أن نصل إلى نقاط الاتفاق سعياً وراء التلاقي.
عندما تستخدم العلمانية بمعنى معاداة الدولة للدين فإن القضية في هذه الحالة لاتمس الدولة فقط ولكنها تمس أيضاً المجتمع . إذ يتعين على الدولة – وهذه سمتها – أن تدعو مواطنيها للتخلي عن أديانهم بأي وسيلة تراها بما في ذلك استخدام العنف . وعلى كل صاحب دين أن يدافع عن دينه ويستخدم من الوسائل ما يكفل له حماية دينه ونفسه ومؤسساته الدينية . والتناقض في هذه الحالة لايحل إلاّ بالقضاء على أحد الطرفين مادياً أو معنوياً . فعلمانية الدولة بهذا المعنى تعني السعي لفرض الإلحاد على المجتمع.
وإذا كانت هناك بعض البلاد التي تدين دولها بمبادئ أو فلسفات ترفض الدين وتسعى تلك الدول بالتالي لنشر هذا الموقف بين مواطنيها بأسلوب أو آخر ، فإنه من الواضح أن ذلك يرجع إلى المبادئ التي تقوم عليها الدولة وليس براجع إلى العلمانية. وهذا لاينفي أن تكون تلك الدول علمانية ولكن ذلك لايعني أن كل دولة علمانية ينطبق عليها هذا الوضع . لذلك أعتقد أنه يتعين على كل من يستخدم مصطلح العلمانية بمعنى معاداة الدولة للدين أو السعي لنشر الإلحاد أن ينظر إلى تاريخ وحاضر الدول التي نشأ فيها هذا المفهوم ليستطيع أن يميز المقصود بالعلمانية بدلاً من الافتراض المسبق بالتطابق بين العلمانية والإلحاد . ورفض العلمانية على هذا الأساس في حين قد يتعين رفضها على أساس آخر.
وعندما نطرح العلمانية بمعني فصل الدين عن الدولة ، ويقصد بذلك عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وعدم الانحياز لأصحاب دين من الأديان بأي صورة من الصور بحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، وبذلك تتحقق المساواة بصرف النظر عن الانتماء الديني . فإن العلمانية في هذه الحالة أقرب لأن تكون مفهوماً سياسياً . ويفخر دعاة هذا الفهم بأنه الضمان الأكيد للمساواة ، ولتلاحم المجتمع حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الأديان المختلفة . وهذا هو المعنى الذي يشكل مشكلة أمام التيار الإسلامي المعاصر والذي لم يصل الاجتهاد فيه في حدود علمي إلى الحل الذي يضمن تلك المساواة.
ويرى أحد أنصار التيار الإسلامي عندنا في العراق ، أن اختيار التيار القومي للمنهج العلماني قد أوثق الرباط بين مختلف الأديان في امتنا . وهو يعتبر ذلك إنجازاً إيجابياً. ولعله من الواضح أن المقصود لديه بالعلمانية هو فصل الدين عن الدولة وليس الدعوة إلى الإلحاد . إلاّ أنه يرى أن تبني العلمانية من قبل التيار القومي قد تسبب عنه فتقاً آخر بين العلمانيين والتيار الإسلامي . وهو لم يحدد ما إذا كانت العلمانية بهذا المعنى هي أحد مكونات المبدأ القومي الذي يفقد معناه إذا تم الفصل بينهما . إذ قد يكون علينا التمييز بين الدعوة للوطنية القومية وبين الدعوة للعلمانية ، كما كان علينا أن نميز بين الدعوة للعلمانية والدعوة للإلحاد.
أما المعنى الأخير للعلمانية والذي يقصده البعض عند استخدام هذا المصطلح ، فهو رفض أية سلطة دينية للدولة على مواطنيها أو أنها – الدولة – تستمد مشروعيتها من سلطة دينية أو إلهية أو أن تكون السلطة العليا في المجتمع للمؤسسة الدينية . وهذه هي المعاني التاريخية لمصطلح العلمانية الذي نشأ في غرب أوربا لمواجهة دعوى الكنيسة الكاثوليكية بأنها صاحبة السلطة العليا . وبالتالي فعلى الجميع ملوكاً ورعايا أن يكونوا خاضعين لمشيئتها ، وأن يسيروا على نظام الحياة الذي تفرضه عليهم بصفتها هذه . أو ادعاء الملوك أنفسهم في فترات أخرى أنهم يملكون ويحكمون باسم الله ، وهو ما يعبر عنه الحق الإلهي للملوك . وهدف العلمانية في هذه الحالة هو فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية ، وأن تكون السلطة الروحية للكنيسة في حدود المسائل الدينية وألاّ يكون للملوك أي سلطة روحية على رعاياهم رغم أن السلطة العليا في الدولة لهم.
بينما الحاكم الإسلامي سواء سمي خليفة أو ملك أو ماشابه لايتمتع بأي سلطات روحية على المسلمين وإنما عليه فقط مراعاة عدم الخروج على الشرع ، فليس لأي كان سلطة روحية على المسلم . والحاكم المسلم يحكم باسم من بايعه . ونظام الخلافة نظام سياسي دنيوي منذ اللحظات الأولى لقيامه ليس له صلاحيات دينية أو سلطات روحيه ، بعكس ماتعرض له الغرب الأوربي ، ومن ثم فإن شكل الدولة الجديدة التي أفرزها التطور التاريخي في مجتمعنا لم يكن له علاقة لابالعلمانية ولابالثيوقراطية الذي كان كل منهما تراثاً سياسياً أوربياً خالصاً . إذن ، العلمانية بهذا المعنى ، باعتبارها نقيض للثيوقراطية ، لامعنى لها في الإسلام ديناً أو تراثاً.
إذا كان التياران الإسلامي والوطني القومي لايستطيعان الاتفاق على معنى محدد لمفهوم العلمانية فلاأقل من يحدد كل كاتب مايقصده بالعلمانية حتى لاتختلط الأوراق وحتى لايكون رفضه دعوة مقنعة لسلطة ثيوقراطية ليس لها وجود في الإسلام . وحتى لايستخدم هذا المصطلح لرفض كل تطور تحت شعار الدفاع عن الإسلام ، والدعوة لمراعاة عدم تعارض الدساتير والقوانين مع أحكام القرآن والسنة أمر مختلف تماماً عن قضية العلمانية بمعناها التاريخي . والمشكلة التي نواجهها هي في الحقيقة نتيجة الخلط في المفاهيم وبحسن نية في أغلب الأحوال.
إن صياغة شعارات تفيد التناقض بين الدين والوطن أو بين الانتماء إلى الإسلام والانتماء إلى تشكيل اجتماعي ، هو طرح في تصوري يعبر عن خلط بين المفاهيم ، فشعور الإنسان بالانتماء إلى وطن لايتعارض مع انتمائه إلى دين سواء كان هذا الدين هو الإسلام أو غيره من الأديان السماوية . وانتماء الإنسان أيضاً إلى أمة لايتعارض أو يتناقض مع انتمائه إلى أي من هذه الأديان . فالأمة بالمعنى المعاصر أحد أشكال الاجتماع البشري ، إذا أخذنا المصطلح في أبسط معانيه المتفق عليها ، ودون الدخول في الاختلافات النظرية التفصيلية.
قد يشكل الدين محور العلاقة بين الإنسان وربه في شكل معتقدات وشعائر ، وقد يمتد ليشمل المعاملات بين البشر كلها أو بعضها سواء في عموميتها أو في تفاصيلها أو في تفاصيل البعض منها . وفي كافة الأحوال فالدين لاينفي المجتمع والولاء له ، ولا الوطن والولاء له . وقد يشكل الدين في بعض الحالات النظام الذي يسير أو يتعين أو يسير المجتمع على هديه.
أما الدعوة الوطنية أو القومية ، فهي تحدد إطار الجماعة السياسية ، وقد يشمل هذا الإطار جزء من أمة أو أمة واحدة أو أكثر من أمة كما نشهد في الواقع والتاريخ الحديث . ولاتشترط الدعوة الوطنية أو القومية وحدة الدين بين جميع أفراد المجتمع كما لاتشترط نظاماً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً معيناً للمجتمع ، فالمبدأ القومي لايعني في جوهره سوى انطباق الحدود السياسية على الحدود الثقافية ، وأن يكون الحكام من نفس أبناء المجتمع.
والتاريخ الإسلامي يوضح لنا أن الدولة الإسلامية مرت بفترات كانت الدولة تشمل مجتمع جميع أفراده من المسلمين عندما كانت ضمن إطار الجزيرة العربية . ثم أصبحت تضم كل المجتمعات والأوطان التي دخل أغلب أفرادها في دين الإسلام ، وفي فترات من التاريخ الإسلامي كان هناك أكثر من دولة مواطنوها في أغلبهم من المسلمين.
ولم تكن الأمة بالمعنى المعاصر هي الإطار المتعارف عليه للجماعة السياسية في عصرنا هذا . ومع بروز الأمة كشكل أساسي للجماعة السياسية على مستوى العالم ، فإنني لاأرى تناقضاً بين الإسلام ديناً وتراثاً وتاريخاً ، وبين أن تكون الأمة هي أساس الجماعة السياسية.
والقضية الحقيقية التي يتعين أن تطرح ليست التناقض بين الانتماء إلى الإسلام وبين الانتماء إلى الأمة أو الوطن ، ولكنها طبيعة النظام الذي يسير عليه المجتمع والقيم الأساسية التي تقود حركته.
قد يرى البعض أنه يجب أن تكون الشريعة الإسلامية هي منبع القيم الحاكمة وأساس المعاملات في المجتمع ، وقد يصل البعض إلى اعتماد مذهب أو تفسير معين، أعتقد أن هذا حق لهم من حيث المبدأ . كما أنه من حق الآخرين طرح تفسيرات أخرى أو تصورات أخرى للنظام والقيم التي يتعين أن تسود المجتمع . وكل ذلك لايتعارض مع أن يكون الوطن وأن تكون الأمة هي الإطار السياسي للجماعة.
إن ارتباط الإنسان بوطنه هو ارتباط مركب لايتوقف عند مصالحه المادية في بقعة معينة من الأرض . إنه أكثر عمقاً وشمولاً من ذلك . فهو ارتباط مع جماعة من الناس تجمعه وإياهم لغتهم وطريقة تفكيرهم وثقافتهم وحضارتهم وتاريخهم . إنه ارتباط وانتماء إلى انتصاراتهم وانكساراتهم إلى مفاخرهم ومثالبهم.
ولعنا نجد في شعور الرسول (ص) عندما هاجر من مكة إلى يثرب ، وترك وطنه وفيه أهله وعشيرته وذكريات حياته كلها ، ومواطنيه سواء المسلمين منهم أو الكفار مايجعلنا نعي أن الشعور بالانتماء إلى الوطن لايتعارض مع الإسلام حتى ولو لم يكن كل أبناء الوطن من المسلمين أو أهل الكتاب.
لذلك ، فإنني أعتقد أن تلك الطروحات والشعارات إنما تعبر عن خلط بين المفاهيم . فهي تحمل في طياتها تناقضاً منطقياً وتاريخياً . فالإطار السياسي للجماعة هو ما تطرحه مفاهيم الوطن والأمة والقومية يشكل مستوى يختلف عن مستوى المفاهيم المتعلقة بالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.
والشعارات التي نحن بصددها لاتؤدي إلاّ إلى البلبلة الفكرية والسياسية بل وتهدد وحدة الجماعة السياسية القائمة على المواطنة والتي فشلت محاولات الاستعمار في النيل منها منذ نهايات القرن التاسع عشر والتي نجحت محاولات أعداء مجتمعاتنا العربية في ضربها في بعض أجزاء وطنها العربي مؤخراً ، ومازالت تسعى للمزيد ، والأمل ألاّ نفتح بأيدينا الباب دون وعي لتحطيم وحدتنا الوطنية تحت شعارات ظاهرها الغيرة على الإسلام.
أما محاولات البعض للبحث عن صيغة للتلاقي بين تيار الإسلام السياسي وبين تيار الوطنية القومية . فإنه يجب علينا أن نفرق بين الدعوة للوطنية القومية والدعوة للعلمانية . وقد سبق القول بأن الدعوة للوطنية القومية من حيث المبدأ لاعلاقة لها بنظام الحياة في المجتمع القومي . فالحركات القومية في التاريخ الحديث لايجمعها إلاّ السعي لتحقيق الدولة القومية ، أما فيما عدا ذلك فهي تختلف أشد الاختلاف.
وليس اختلافها في الأساس تعبير عن أهواء دعاة الوطنية القومية وإنما هو تعبير عن اختلاف المرحلة التاريخية واختلاف التاريخ الحضاري والثقافي للأمم . كما إنه أيضاً تعبير عن الصراعات داخل الأمة ، فالقوى الاجتماعية التي تكون في طليعة حركة الوطنية القومية لابد أن تصبغ حركتها بمصالحها وقيمها وتصورها الخاص للمجتمع ككل ، وكذلك التحديات الخارجية لابد أن يكون لها أثرها في فكر ومواقف الحركات القومية ، فلا نستطيع أن نقول أن الحركات القومية كانت أو يتعين أن تكون يسارية أو رأسمالية أو إسلامية ، ديمقراطية أو فاشية أو عدوانية توسعية ، علمانية أو ثيوقراطية . فقد ظهرت كل هذه الأوصاف ملتصقة بالحركات القومية عبر التاريخ . وبالتالي يجب ألاّ نعتبر أي منها مقوم من مقومات مبدأ الوطنية القومية.
علينا أن نميز بين المبدأ القومي وبين النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأساس الفلسفي والأخلاقي والقيمي لكل حركة قومية ، والعلمانية على وجه التخصيص . كما لاينطبق عليها أنها أحد مقومات المبدأ القومي ، فإنه لاينطبق عليها كذلك أنها إحدى قضايا الصراع في مجتمعنا إذا أخذت بمعناها التاريخي الحقيقي.
إن وصف أي أفكار جديدة أو حركات إصلاحية بأنها علمانية دون تحديد المعنى المقصود للمصطلح ، إنما يتعين أن يؤخذ على من يقول مثل هذا القول وليس على من يدعو إلى الإصلاح والتطوير أو يقوم به والذي يُحمل في مثل هذه الحالات بمواقف ليست له . ولقد انتشرت هذه البدعة في الماضي ثم عادت للظهور الآن سواء بين من يدينون العلمانية أو من يتبنونها . والطرفين لايقل أحدهما عن الآخر ضلالة وخطورة . فهناك من يتخذ من محاربة العلمانية ستاراً للدعوة إلى دولة ثيوقراطية ، وهي دعوة لم تظهر في منطقتنا إلاّ مع بروز دور الحركة الصهيونية التي تدعو لدولة ديينة . وآخرون يحاولون التشكيك في أي إصلاح على أساس أنه يعبر عن أفكار علمانية ، والعلمانية عندهم ضد الدين . وغيرهم ينسبون أي إصلاح للعلمانية وهي عندهم أيضاً ضد الدين ويصلون من ذلك إلى أن الدين هو سبب تخلفنا ، وجميع هذه الطروحات مفتعلة إما تعبر عن عدم وضوح في الرؤية أو عن أهداف غير معلنة.
إن القول بأن الشريعة الإسلامية من الموضوعات الحاسمة في اللقاء أو الاختراق بين التيار الإسلامي وتيار الوطنية القومية ، وأنها أساساً ركيناً لدى التيار الإسلامي بحيث ينتفي إذا انتفت ، وأنها مما يتعين اعتباره من المكونات الفكرية والتاريخية لدى تيار الوطنية القومية.
قول قد يكون صحيحاً ، ولكنه ليس دقيقاً بما فيه الكفاية . فالشريعة لدى التيار الإسلامي ليست أساساً ركيناً ، ولكنها الأساس الركين والقول بأنه يتعين اعتبار الشريعة الإسلامية من المكونات الفكرية والتاريخية لدى تيار الوطنية الديمقراطية يوحي بأنه مطلب يتعين إقراره . في حين أنه لايوجد أي تيار من التيارات الداعية للوطنية القومية والعاملة في الساحة العراقية ينكر أن الإسلام من المكونات الفكرية والتاريخية للمجتمع العراقي . وبداهة ليس هناك من يستطيع أن ينكر التاريخ ويتصور أن يحمله الآخرين على محمل الجد . فليس هذا هو موضع الخلاف بين التيار الإسلامي والتيار الوطني القومي.
وأعتقد أن هناك مساحات من اللقاء بين التيارين ، فليس هناك مايمنع إسلامياً من الإقرار بأهداف التيار الوطني القومي والسعي لتحقيقها . أما الإقرار بأن الشريعة الإسلامية هي النظام الذي يتعين أن يهيمن على الشريعة أو اعتبار الشريعة الإسلامية من المكونات الفكرية والتاريخية للمجتمع العراقي . فهذه قضية مازالت في حاجة إلى الدراسة الهادئة المستفيضة . ولعل ما يتعين على التيار الإسلامي السياسي أن يقدمه مبدئياً هو تصور للحلول التي يراها للمشكلات التي تواجه مجتمعنا وليس مجرد مقولات عامة قابلة لأكثر من تفسير كما نرى في مجتمعات مختلفة يقول حكامها أنهم يحكمون باسم الإسلام.
اخيرا…
عندما ننطلق من معالجتنا لأية قضية من تحديد الأهداف الأساسية التي نرمي إليها ، ومن حقائق واضحة ومعروفة ، وليس من تصورات ذاتية أو طروحات نظرية وفقهية تتسع لشتى ضروب الاجتهاد والتفسير ، يصبح من السهل أن نصل إلى نتائج مقبولة ومعقولة ، وتأسيساً على ذلك يمكننا القول بصورة عامة ، مادامت القومية في هذا العصر حقيقة راهنة تقوم عليها الدول المعاصرة في شتى أنحاء العالم ، وأنها وجدت بحكم ظروف وعوامل تاريخية عديدة معقدة ، وكانت عاملاً فعالاً في تجاوز الخلافات الطائفية والإقليمية والقبلية ، وتحقيق الوحدة السياسية لأبناء البلد الواحد . ومادامت الديمقراطية قد وجدت كحل لمشكلة الاستبداد والتسلط ومصادرة حقوق الإنسان وحرياته ، وأنها حصيلة نضال طويل ومرير خاضته الشعوب ، حتى وصلت إلى ماهي عليه في هذا العصر ، فلابد أن نأخذ هذه الحقائق بعين الأهمية والاعتبار عند أي تقويم أو إصدار الأحكام المتصلة بها.
لئن كانت العلمانية في بدايتها نقداً من رجال الفكر لتعصب الكنيسة ورجال الدين ولوقوفهم في وجه التجديد والتطور ، وكانت نوعاً من التذمر يبديه رجال الحكم الزمنيون ضد الهيمنة الدينية على الدولة ورعاياها ، فإن المسألة لم تقف عند حدود النقد والتذمر ، بل تحولت إلى صراع دامٍ ومرير امتد مئات السنين ، وانتهى بانتصار الدولة ودعاة التحرر والتجديد على رجال الدين المتعصبين المعارضين لمسايرة التقدم والتطور ، وكانت العلمانية هي الصيغة التطبيقية لهذا الانتصار.
أما بالنسبة للإسلام فإن لم يكن فيه كهنوت وطبقة من رجال الدين ذات تنظيمات قوية وكيان متماسك يمارس السلطة ويفرض الهيمنة كما كان الأمر في أوربا ، فإن هذا لايعني أن رجال الدين بفئاتهم المتعددة وفرقهم المتباعدة وطوائفهم المختلفة ، لم يمارسوا النقد والضغط والتدخل في شؤون الدولة ، عندما كانوا يرون فيها انحرافاً عن تعاليم الإسلام . غير أن مظاهر الصراع كانت تبرز بأشكال وصور أقل حدة وعنفاً مما كانت عليه في أوربا ، ولكن الصراع في هذه الأيام يأخذ طابعاً جديداً بين الدولة الحديثة القائمة على المذاهب السياسية المعاصرة ، وبين تيارات دينية تنطلق من ضرورة الاعتماد على الدين والشريعة الإسلامية ، مما يجعل الصراع القائم بين الجانبين مرشحاً للقسوة والعنف والتصعيد.
إن التيارات الدينية في الوطن العربي ، لم تصل بعد إلى السلطة ، وبالتالي فإن شعاراتها التي تطرحها لم تخضع للاختبار والتجربة من خلال الحكم والممارسة العلمية للمنادين بها ، كما أعطيت لدعاة القومية والاشتراكية .. مما يحمل الكثيرين من المواطنين على الأمل بأن يكون حظهم من النجاح أفضل من سواهم ، غير أن حكم رجال الدين في بعض البلدان يقدم من الدلائل والوقائع العلمية مايخيب الآمال بأسرع مما كان متوقعاً.
إن رجال الدين المتعصبون يتصورون أن بالإمكان أن يعودوا إلى نظام الخلافة الإسلامية ، وهي العهود التي يكثرون من التغني بها وإيرادها كنماذج صالحة، فإننا نعتقد بأنهم يسقطون تصوراتهم وأمانيهم عليها ، ذلك لأنه ليس من المنطق ولامن الواقعية في شيء أن تعود الخلافة ، ولها وسائلها وصيغها المعروفة في تطبيق أحكام الشريعة وإدارة مؤسسات الدولة … ولكنهم إذا قصدوا من اعتبارهم لها الأنموذج الصالح للإقتداء بها ، من حيث الالتزام بروح التعاليم الإسلامية الرامية لتحقيق العدل والمساواة والإخاء ، فإننا لانجد مايبرر معارضتهم للأنظمة المعاصرة والهادفة إلى هذه المبادئ نفسها.
لابد أخيراً أن ندرك أن عجلة التاريخ لن ترجع إلى الخلف ، وأن مسار التقدم لن يتوقف ، ومن العبث وتبديد الجهد ، أن نصرَّ على تطبيق ما لاينسجم مع منطق العلم وحاجات العصر ومقتضيات التطور والتجديد . والإسلام إذا فُهم على حقيقته وجوهره لن يكون مناقضاً للعلم والتطور ، فهما يسيران في خطين متوازيين متكاملين.
إنّا نتمنى على رجال الدين المتنورين والمتفهمين لما يجري في هذا العصر ، أن يبادروا هم قبل غيرهم ، إلى مجابهة تلك التيارات المتعصبة ، وأن يعملوا على وضع حد لها حتى لاتشكل عامل إثارة واستفزاز لرجال الفكر والعلم ، ولمسار التطور والتاريخ ، ولكي لاتدفع بالأمور في اتجاه العلمانية المتطرفة كما حدث في أوربا ، وتضع الإسلام وبغير حق في مواجهة العلم ، وليس هذا في مصلحة الإسلام في شيء . وكلما فُهم الإسلام على أنه مع العلم والعقل والتطور والتجديد ، تنتفي الحاجة إلى العلمانية ، وكلما ظهر من يفهم عكس ذلك ، فإن الحاجة الى العلمانية شكلاً ومضموناً تصبح قائمة وستفرض نفسها ، ويغدو من العبث الوقوف في وجهها.
المراجع
اعتمدنا في بعض فقرات بحثنا على مؤلفات ودراسات كل من:-
1- أنور الجندي – سقوط العلمانية ، ط1 ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1973.
2- جوزيف مغيزل- العروبة والعلمانية ، دط ، دار النهار ، بيروت ، 1980.
3- شبلي العيسمي – العلمانية والدولة الدينية ، ط1 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1986 .
4- صابر نايل – ملاحظات منهجية في مسألة العلمانية ، مجلة اليقظة العربية (القاهرة) ، عدد 7 ، سنة 2 (تموز/1986) .
5- محمد أحمد خلف الله أ-نحن والعلمانية،مجلة اليقظة العربية (القاهرة)، عدد 1، سنة 2 (كانون الثاني/1986).
ب- المسيحية والعلمانية،مجلة اليقظة العربية (القاهرة)، عدد 3 ، سنة 2 (آذار/1986) .
6- ناصيف نصار – نحو مجتمع جديد ، ط3 ، دار الطليعة ، بيروت ، 1977.
7- لجنة من الأساتذة – معجم العلوم الاجتماعية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، دط ، القاهرة ، 1975.
[email protected]