في ايام المعارضة ، وحتى سقوط النظام ، وامتدادا” للفترة التي تلت سقوط النظام حتى كتاب الدستور العراقي واقراره في ٢٠٠٥ ، كانت الجدل واضحا” وحاضرا” لدى الاحزاب العراقية المعارضة ، حول طبيعة وشكل النظام السياسي العراقي الذي يستطيع ان يلائم ويجمع الفرقاء السياسيون تحت مسمياتهم وخلفياتهم المختلفة والتي كانت تشكل تحديا” كبيرا” لسبيين رئيسيين ، الاول هو طبيعة القوى السياسية المشكلة على اسس دينية مذهبية او قومية ، والثاني هو ” انعدام الثقة ” التي تشكل مأزقا” حقيقيا” في كيفية تشكيل نظام ديمقراطي يسع الاطراف المتخالفة تحت مظلته .
وبالرغم من اقامة المؤتمرات الخاصة بالمعارضة العراقية ( مؤتمر المعارضة في فيينا ١٩٩٢ ، ومؤتمر صلاح الدين في اربيل ١٩٩٢ ، ومؤتمر نيويورك ١٩٩٩ ، واخرها واكثرها اهمية مؤتمر لندن ٢٠٠٢ والذي ضم اغلب القوى السياسية التي شاركت بحكم العراق ما بعد ٢٠٠٣ بمختلف توجهاتها ، السنية منها والشيعية والكردية منها ، المستقلون والمتحزبون ، وبحضور دبلوماسي دولي ) كانت اغلب الحوارات والنقاشات حينها تتركز وتنصب حول طبيعة النظام بعد التغيير ، كمحاولة من قوى المعارضة لرسم نظام يتجاوز ازمة الخلاف الرئيسية والتي كانت الولايات المتحدة تضبط ايقاعها .
كان لأي مراقب ان يتنبأ للعراق بالتقسيم الى دويلات سنية وشيعية وكردية نظرا” للافكار والطروحات في حعبة احزاب المعارضة وطبائعها الفكرية والاجتماعية ، وان اراد ان يقدم المراقب استقراءا”متفائلا” فالصراع الطائفي والعرقي حتمي لا فرار منه .
ان اصرار القوى الكردية لاحقا” ، على ان يكون العراق بلد فدرالي اتحادي ، واصرار القوى الشيعية على تثبيت مواد دستورية تمنحهم الحق في اقامة اقليم ( اقليم الجنوب ) هو اثبات حي وملموس ، يصور لنا حجم الصراع والخلاف وفقدان الثقة بين القوى السياسية فيما بينها .
وكذلك هو الحال عند القوى السنية فالهواجس كانت حاظرة كنظيراتها من القوى ، متمثلة بالخشية من ضياع الحقوق للمكون السني وتهميشه امام القوى الشيعية والسنية ، والذي بقي هذا التخوف (( من التهميش )) قائما” وشعارا” لفترة طويلة بعدها ، والتي استخدم لاحقا” كوسيلة تحاول فيها تلك القوى استمالة وكسب عواطف العرب السنة للاستمرار بتمثيلها والحصول على المكاسب الفئوية بالتزاحم مع القوى السياسية الاخرى الشيعية والكردية المتفوقة عليها من حيث حجم العلاقات السياسية والخبرات والتنظيمات الحزبية .
وللاسباب الرئيسية السابقة ، كان على المشّرع ان يصمم ويقدم نظاما” سياسيا” ملائما” ومقبولا” ، يقدم خلاله ضمانات كافية للاطراف السياسية ، ويجمعهم تحت مظلة نظام واحد ، يحول دون انتاج صراعات داخلية وازمات جديدة ، فكان من غير الممكن ان يعتمد المشرع على تأسيس نظام قائم على ( الاغلبية السياسية ) والذي ينتهي بسيطرة ( الشيعة ) ذو الاغلبية السكانية الواضحة على زمام الحكم ، فينتج عن ذلك صراعات تنتهي بالتقسيم والتجزئة ، فما كان الا نموذج “الديمقراطية التوافقية ” كحل ومخرج لتلك المعضلة .
الديمقراطية التوافقية :
تمثل الديمقراطية التوافقية احدى اشكال النظام الديمقراطي ، وشكل من اشكال الديمقراطية التمثيلية ، والتي تتميز بتغيير بوصله الصراع السياسي القائم اساسا” على ( الاغلبية السياسية مقابل الاقلية السياسية ) كما هو الحال في اغلب الديمقراطيات ، وتعويضها ((بالتوافق)) بين الفرقاء السياسيين والاستماع الى الاراء فيما بينهم والتوافق على القرارات والقوانيين ، أي لا وجود للمعارضة السياسية خلالها ، وتنشأ الحكومات عن طريق التوافق والتمثيل ، ومن الامثلة الدولية على ذلك ديمقراطيات المانيا والسويد وسويسرا والدنمارك اما الامثلة العربية ديمقراطيات لبنان والعراق .
وبعد ان اوضحنا الاسباب الموجبة التي دعت المشرع ( أي كان ) لتأسيس ديمقراطية توافقية وحكومات تمثيلية مكوناتيه ، لم يدرج المشرع الدستوري موادا” تعزز هذه الفكرة والنظام صراحةً ، بل ان الدستور أسس على اساس الفائز بالانتخابات هو من يحق له تشكيل الحكومة ( أي حكومة الاغلبية السياسية ) وذكر في بعض مواده ( مراعاة تمثيل المكونات )، الا ان الحكومة التوافقية اصبحت (( سُنة متبعة )) للحكومات منذ ٢٠٠٣ لغايـــة يومنا هذا ، وجميع المحاولات التي ارادت تشكيل حكومات أغلبية او حكومات الفائز بالانتخابات بائت بالفشل واستبدلت بنماذج توافقية .
لماذا نجحت الحكومات التوافقية في بلدان اوربا وفشلت بشكل واضح في العراق ولبنان ؟
ان الاجابة على هذا السؤال يكمن في في أمرين اساسيين ، فالاول والمهم هو وجود مؤسسات مستقلة لا تتأثر بالقوى السياسية وغير قابلة للمحاصصة وعلى مقدمتها القضاء والمؤسسات الخاصة بالانتخابات وحقوق الانسان والمؤسسات الرقابية .
اما الامر الثاني فهو الاخلاق السياسية ، فالاحزاب والقوى السياسية التي تعمل وفق اخلاقيات سياسية وحدود تضعها لنفسها ولا يمكنها تعديها ، لا يمكن لها على الاغلب التعدي على هذه الحدود خصوصا مع وجود ناخبين واعين واعلام قادر على توضيح التجاوزات والحد منها ، وتعمل على مبدأ التعاون السياسي البناء مع فرقائهم السياسيين .
يبقى الاعتماد على الاخلاق والضمير السياسي نقطة غير مضمون نتائجها على الواقع خصوصا” في المجتمعات حديثة العهد بالديمقراطية وتعاني مجتمعاتها من قله الوعي الديمقراطي وتراجع في القيم ومشاكل اكثر تعقيد متعقل بسطوة رحال الدين او العشيرة ، وتعود بنا فكرة الاستناد الى الاخلاق الى نظرية عالم الاقتصاد أدم سميث في كتابيه رأس المال وكتاب الاخلاق حينما افترض بان الرأسماليين تبعا” لاخلاقياتهم من الممكن ان ينصفوا القوى العاملة دون استغلال وتعسف ، وهذا الامر قد اثبت عدم صحته وفشل منطقه منذ عقود .
اضافة الى ذلك انه من خلال التجربة العراقية المريرة ، قد اثبتت ان الحكومات التوافقية ترأسها شخصيات ضعيفة بالغالب وغير مالكة للقرار ، حكومات تفتقد الى ( برنامج حكومي ) فعادة ما يكون البرنامج مستنسخ العبارات يقدم اهدافا” عامة ، اشبه بالشعارات ، ليس من المهم ان تكون تلك الاهداف قابلة للتحقيق او لا ، وتغيب في هذه الحكومات البرامج الحقيقية ذات السقف الزمني المعقول والمنطقي الذي يتناسب مع عمرها الافتراضي .
ديمقراطية العراق والحلول :
تبقى الديمقراطية في العراق معلولة وغير منتجة ما بقيت واستمرت على هذا النهج والصيغة ، الذي لا يمكن من خلال تشكيل مؤسسات دولة بقدر كافي من الاستقلالية والنزاهة او الاعتماد على السلوك الاخلاقي للاحزاب السياسية العراقية .
فالحل يكمن بان تكون الحكومات القادمة حكومات اغلبية سياسية وتبقى المعارضة السياسية هي الجهة التي تقابل كف الميزان الاخرى ، تعود هذه المنافسة بين الطرفين على اقامة نظام يعزز من قوة القانون والرقابة السياسية ويؤسس لمؤسسات دولة مستقلة على رأسها القضاء ، تتسابق فيها الاحزاب لتقديم الخدمات حرصا” منها على الفوز بثقة الناخب .
شريطة ان تكون هذه الاحزاب ذات هويات وطنية عابرة للهويات الفرعية الطائفية والعرقية .